لا جديد، هكذا يجب أن تبدأ أخبار قتل النساء في البلاد: “لا جديد؛ حادثة قتل أخرى لفتاة”، فلم يعد الأمر غريباً أو مستهجناً بل صار خبراً عادياً تتصفحه مع حالة الطقس والأسهم وسعر الدولار!
قبل يومين انتشر فيديو مرعب لقتل فتاة تبلغ من العمر 18 عاماً في مدينة الحسكة بشمال سوريا، عدة رجال يقومون بدفع فتاة على الأرض وإطلاق الرصاص عليها، وينادي أحدهم : “طخها كمان رصاصة براسها”.
هل كان طلبه رحمة بها كما نفعل بأضاحي العيد حتى لا تتعذب أثناء خروج روحها؟ أم هو نوع من الجشع في رؤية المزيد من الدم والبذخ في القتل؟ وأظنها الثانية، فلم يخفِ ثوبُ الفتاة أثناء جرها للمكان أنّها ضُربت وسُحلت أولاً، والأكمام الممزقة وشعرها الفزِع يقول الكثير!
من المخجل أن نسأل عن سبب قتلها؟ هذه التعليقات الغريبة التي تراها ترافق كل خبر عن حادثة قتل: “ما سبب قتلها؟”.. “شو عاملة؟”.. “ليه قتلها؟”.. فإذا عُرف السبب بطل العجب، وكأنّ هناك سبباً يجيز للإنسان ممارسة دور الله في قبض الأرواح، وكأنّه هو خالقها ليقرر موتها، ولكن دائماً السبب معروف، لقد “وسخت شرفنا”. تقول عائلة الفتاة إنّها رفضت الزواج من ابن عمها وحاولت الهرب، فهي بذلك دنست شرف العائلة ويجب غسله بدمها المسفوك!
ما هو الشرف؟
ما هو الشرف؟ لعشيرة كاملة تتكون من مئات الأفراد؟ هل هو حقاً قطنة بيضاء محروسة بالفتيات؟ وهن المسؤولات عنه؟ ولهم الحق بمحاسبتهن بأيّة لحظة؟ أم أنّها ذكورية خصبت بالعادات والأعراف وتفسير وفهم الأديان بطريقة خاطئة لحساب الرجل؟ أم أنّه استقواء جسدي على الأضعف؟ فبما أنّها ليست ذكراً يتاح لك قتلها!
يتساءل أحدهم: “هل هذه الأخبار مفبركة؟ هي حجة للغرب والمؤسسات لهدم الأسرة العربية والدليل أنّ هذه الأخبار زادت بشكل كبير في الآونة الأخيرة”.
حاولت أن أجد إحصائيات في قتل النساء بوطننا العربي، وتذكرت كم فتاة قتلت ولم يعرف عنها شيء، ولم تسجل حتى كرقم في قائمة المغدورات. أذكر جيداً نقاشاً خضته مع شخص يستنكر قتل النساء، لكنه يرى أنّه أصبح أمراً مسلّماً به ولا يمكن تغييره، ويقول ذلك معلقاً على واقعة قتل شخص لأخته علناً: “لماذا لم يقتلها في مكان بعيد؟ أو يرميها في البئر ويقول إنّها وقعت؟ لماذا لم يسممها ويقول ماتت؟”، وكأنّ المشكلة ليست بقتل الفتاة وإنهاء حياتها، وإنّما بالأخبار التي ستنقل عنها وبالطريقة التي ستُقتل بها!
وهنا تكمن الإجابة على سؤال “لماذا انتشرت هذه الأخبار؟”.
قديماً كانت تقتل الفتيات في الخفاء دون أيّة محاولة بحث وراء القاتل بما أنّه ولي الدم، ويحق له قتلها، يدفعها بالبئر ويقول انتحرت، يقتلها ويدفنها ويقول خرجت ولم تعد، ويخرج مع أهالي القرية للبحث عنها ومازال دمها على يديه!
قبل 15 سنة لما يكن الإنترنت كثير الاستخدام، ولم يصل إلى كل البيوت، اليوم تحدث حادثة قتل في غزة تنقلها مواقع لبنانية، وتحدث حالة قتل في مصر تنقلها مواقع فلسطينية وهكذا، والأهم أنّ هناك وعياً كثيفاً من قِبل النساء في هذا الوقت، والكثير منهن لا يريد أن يكون ضحية مؤجلة، ويعملن على كشف قصص المعنَّفات للمساعدة والتوعية؛ لقد خلعن ثوب صمت الأمهات القديمات! ورغم كل هذا مازالت جثث كثير من الفتيات اللواتي قتلن غدراً في الخفاء ولم يعرف سبب موتهن.
أين القانون؟
دماء الفتيات “تُشطَف” بها أرضية المحاكم العربية، فالقانون يقف في صف الجاني لا القتيلة، فهو يعطي الحق لإسقاط الحق الشخصي لباقي العائلة عن الأب والأخ، ويخفف المدة إذا سُجلت الحادثة كثورة غضب شديدة أو غسل عار.
فالقوانين هنا تطلق سكاكينها مع سكين القاتل، وستبقى الأخبار في ازدياد بما أنّه لا توجد عقوبة، بل تسهيلات كثيرة: “اقتلها والقانون يحميك”.
كيف لإنسان أن ينهي حياة إنسان؟ هل يعلمون عن قول الرسول في زواج المتحابّين: “لم ير للمتحابين مثل النكاح”؟ هل يعلمون شفاعة رسولهم في الحب في قصة مغيث وبربرة؟ إنّ قولهم إنّ هذا من الدين قول باطل. من ينظر في أحكام الزنا يعرف أنّ الشروط أصعب من دخول الجمل في سم الخياط؛ فلا يقام الحد إلا بشاهد رأى العملية كاملة، كدخول المردود في المكحلة، وحتى إن رأى جسدين ملتصقين ولم يرَ “الأربعة شهود العميلةَ بتفاصيلها”، لا يقام حد الزنا.
فاستنادهم على المحاسبة واقتباس يوم القيامة في الحياة الدنيا كذب ووهم، فما بالهم يقتلون الفتيات بحجة الطلاق أو رفض الزواج أو تهمة وإشاعة غير مؤكدة أو قصة حب؟ وحتى يقتلونهن بسبب الميراث ويقولون للشارع إنّها دنست الشرف بما أنّ معهم رخصة في ذلك.
مما تتكون قلوبهم؟ وما هي جرأتهم التي تستند إلى القانون والعرف؟ فتاة الحسكة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، هي سلسلة طويلة من أرواح الفتيات؛ من الحسكة إلى إسراء غريب في فلسطين، وجريمة ماركة في الأردن، وزينة كنجو في لبنان، وغيرهن وغيرهن.
فالنساء يُقتلن هنا لا من الغرباء، ولا من قطّاع الطرق، ولا من اللصوص، إنّهن يقتلن من أكثر الناس قرباً، وفي أكثر الأماكن أماناً للإنسان، يقتلن في غرفهن ومنازلهن.