تحميل كتاب الحزام (العربي) في الجزيرة السورية لـ الدكتور آذاد أحمد علي.
الحزام العربي، هو مشروع قررته الحكومة السورية في عام 1965، يهدف إلى تفريغ منطقة الجزيرة أو محافظة الحسكة من السكان الأكراد الأصليين وتوطين أسر عربية بدلاً عنهم.
وامتد الحزام بطول 300 كيلو متر وعرض 10-15 كيلو متر، من الحدود العراقية في الشرق إلى رأس العين في الغرب.
واغتنمت السلطات فرصة بناء سد الفرات ومشروع إعادة توزيع الأراضي الزراعية كي تستولي على أراضي الفلاحين الأكراد لإقامة مزارع نموذجية مزودة بالمياه والمدارس والحماية الأمنية وتمليكها لفلاحين عرب غمرت مياه السد قراهم، وبالفعل تم توطين أكثر من أربعة آلاف أسرة عربية في الشريط الحدودي وتوزيع أكثر من 700 ألف دونم من الأراضي المصادرة عليهم.
رافق ما سبق سياسة ممنهجة تهدف إلى طمس الهوية الكردية وصهر الكرد كأفراد في بوتقة القومية العربية، تجلت في قمع الحركة السياسية الكردية واعتقال نشطائها وتغيير الأسماء الكردية التاريخية لمئات القرى والبلدات والتلال والمواقع واستبدالها بأسماء عربية، وحرمان الأكراد من التحدث بلغتهم الخاصة ومنع الموسيقى والأغاني الكردية.
يعود هذا المشروع بملامحه الأولى إلى الملازم أول محمد طلب هلال رئيس الشعبة السياسية في الحسكة الذي أصدر كراساً في عهد الانفصال (بعد الوحدة مع مصر) عام 1962، بعنوان: «دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية، الاجتماعية، السياسية». ويعطي هذه الكراس توصيات تتلخص في الدعوة إلى تجريد الأكراد من أراضيهم ومن جنسيتهم السورية وممارسة سياسة التعريب والتهجير والتجويع والتجهيل بحقهم، وإقامة مستوطنات على شكل الكيبوتزات الإسرائيلية.
ثم جاء المؤتمر القطري الثالث لحزب البعث الحاكم المنعقد في سبتمبر عام 1966م ليؤكد في الفقرة الخامسة من توصياته بخصوص محافظة الحسكة على « إعادة النظر بملكية الأراضي الواقعة على الحدود السورية – التركية وعلى امتداد 350 كم وبعمق 10 – 15 كم واعتبارها ملكاً للدولة وتطبق فيها أنظمة الاستثمار الملائمة بما يحقق أمن الدولة».
وفي نشرة « المناضل » الصادرة عن مكتب الدعاية والإعلام في التوجيه القومي لحزب البعث (وهي نشرة داخلية سياسية دورية) جاء في العدد 11 (شهر يناير 1966م – الصفحتين 12 و 13) وتحت عنوان « تقرير لخطة إنشاء مزارع حكومية في محافظة الحسكة»، ما يلي: «إن المخاطر التي واجهت وتواجه شعبنا العربي في شمال العراق، والتي خلقت من قبل الامبريالية، بدأت تهددنا أيضاً منذ بضعة أعوام أخيرة في محافظة الحسكة، أهملتها الحكومات السابقة، ولكن اليوم تحتاج إلى حل جذري سليم … إن أفراداً غير عرب، وأغلبهم أكراد، قد هاجروا إلى هذه المنطقة من تركيا والعراق وفقاً لخطة تؤيدها وتشجعها الامبريالية ولازالت … والأكراد استوطنوا في هذه المنطقة الخصيبة والتي هم غريبون عنها… بسبب وجود الاقطاعية في المنطقة ووجود عناصر غير عربية وغالبيتهم من الأكراد والذين يحاولون جاهدين أن يؤسسوا بلداً قومياً لهم في حدودنا الشمالية بمساعدة الامبريالية، ولأن المنطقة واقعة بالقرب من الحدود التركية والعراقية المأهولة بالأكراد وهم مطلوبون للمؤامرات والجاسوسية التي تحاك ضدنا في منطقة الحدود ، فمن العاجل جداً أن نتخذ الإجراءات الضرورية لكي ننقذ العرب في المنطقة .. يمكن القول أنه إذا بقيت الأشياء كما هي فإن الهجرة الكردية ستزداد في المنطقة وستشكل خطراً على حدود أمتنا ، إذا أخذنا بعين الاعتبار أهمية المنطقة زراعياً وصناعياً وبخاصة بعد اكتشاف البترول .. » . وتتابع نشرة المناضل فتقول: « لقد اتخذت الإجراءات التالية من قبل السلطات والحزب لتنفيذ خطة الحزام:
1- أصدر الرفيق محافظ الحسكة إنذاراً نهائياً للسكان الريفيين المزارعين والملاكين يمنعهم من أن يستثمروا الأراضي المصادرة ، وبعد صدور الإنذار بدأنا بعمليات الحراثة والبذار.
2- بدأ مكتب الأراضي المصادرة بتنظيم الأراضي المصادرة.
3- بدأ مكتب الإصلاح الزراعي باتخاذ الإجراءات لترحيل حوالي 4000 عائلة من منطقة الحزام إلى مناطق أخرى إلى أن تنجز العملية بنجاح. لكن من جهة أخرى فإن حوالي 25000 نسمة داخل منطقة الحزام مسجلين عند السلطات كأجانب ، وقد فكر الحزب والحكومة في محافظة الحسكة بأن هؤلاء الأجانب يجب أن يمنعوا من السكن في منطقة الحدود ، وأن الطريق الصحيح لتحقيق هذا الغرض هو إجبارهم ومنعهم من الحصول على أية وظيفة لكي يهاجروا بالتدريج إلى البلاد الأخرى خلال خمس سنوات ، ويجب أن تستعمل القوة ضدهم إذا كان ذلك ضرورياً.
4- إن الحزب ومكتب الفلاحين يحاولان أن يستخدما عناصر عربية شابة من بين الذين يؤمنون بالعرب والقومية العربية لكي يعملوا كعمال مسلحين في منطقة الحزام وحماية الزراعة.
5- كان توجيه الحزب في الجزيرة الطلب من عدد من الرفاق الأكفاء كي يعقدوا لقاءات شعبية في القرى الكردية في مناطق الحدود لكي يسلطوا الضوء على مخاطر الامبريالية ويشرحوا ذلك للسكان ، وهكذا يمكن أن نمهد الطريق لتنفيذ خطة الحزام …. ».
وبخصوص المشاكل التي قد تعترض سبيل المشروع ، تتضمن نشرة « المناضل » اقتراحات كالتالي:
« إن استثمار هذه الأراضي إذا استمرت في هذه الظروف الراهنة ستقود إلى مشاكل كبيرة في المستقبل لذا نقترح:
1- يجب أن تصدر الحكومة مرسوماً جديداً يعتبر كل قرى المنطقة كأملاك دولة ، وإن الدولة لها الحق باستثمارها كما تراه مناسباً.
2- أن توضع خطة عملية وعلمية في المستقبل لاستثمار المنطقة كلها.
3- هذه الأهداف في الخطة يجب أن تكون مبرمجة.
4- إن التجمع العرقي للسكان يجب أن يتبدل بنقل ونفي العناصر غير العربية.
5- إنشاء قرى نموذجية للعناصر العربية الهاجرة من قبل الدولة.
المسؤول الأعلى للجيش يجب أن يأمر لواء الحدود في المنطقة ليساعدوا السلطات المحلية عند الضرورة ، وعلينا أن نضيف أنه على قائد اللواء أن يلبي طلباتنا .. ».
ثم جاء في الفقرة 12 من توصيات المؤتمر القطري الخامس لحزب البعث ( المنعقد في أيار عام 1977م ) – وفي معرض الحديث حول محافظة الحسكة – ما يلي : « العمل على إصلاح الخلل القائم في التوزيع السكاني في القطر وبما يحقق الإنتاج الزراعي والاقتصاد والأمن القومي بشكل عام ».
وتم تدعيم تلك الخطوات التمهيدية بإطلاق الأبواق الشوفينية وبث الدعايات المغرضة ضد الشعب الكردي بهدف الطعن في أصالته ووطنيته ، باعتباره « إسرائيل ثانية » ، ونشر مقالات وإقامة ندوات وإلقاء محاضرات تركز على عروبة المنطقة وعلى وجود « مخططات إمبريالية » هادفة إلى زرع كيان كردي في « شمال الوطن العربي » …الخ .
على الصعيد القانوني:
وفي ترتيب قانوني مدروس تم تعديل المرسوم التشريعي ذي الرقم /193/ تاريخ 3/4/1952م ( والذي كان قد رتّب إصدار المرسوم التشريعي ذي الرقم /2028/ بتاريخ 4/6/1956م حيث حدد مناطق الحدود بحيث تمتد مسافة /20/ كم بدءاً من الحدود التركية – السورية ودخولاً إلى عمق الأراضي السورية ، بالإضافة إلى كامل قضائي القنيطرة وجبل الزاوية ) ، وقد جاء طلب التعديل بموجب المرسوم التشريعي ذي الرقم /75/ لعام 1964م الذي أوجب تحديد مناطق الحدود بقرار يصدر من وزير الداخلية ، إلاّ أن المرسوم التشريعي ذي الرقم /136/ الصادر بتاريخ 11/11/1964م قد تجاوز ذلك فقام بنفسه بتحديد مناطق الحدود بحيث اعتبر كامل محافظة الحسكة منطقة حدودية بحيث لا يمكن « إنشاء أو نقل أو تعديل أي حق من الحقوق العينية على الأراضي الكائنة في مناطق الحدود وكذا استئجارها وتأسيس شركات أو عقد مقاولات لاستثمارها زراعياً لمدة تزيد على ثلاث سنوات وكذلك جميع عقود الشركات أو عقود الاستثمار الزراعي التي تتطلب استحضار مزارعين أو عمال أو خبراء من الأقضية أو من البلاد الأجنبية إلا برخصة مسبقة تصدر بقرار عن وزير الداخلية بناء على اقتراح وزير الزراعة والإصلاح الزراعي بعد موافقة وزير الدفاع » ..، وكانت هذه الخطوة « القانونية » تسهيلاً لتطبيق ذاك المخطط.
التـطبيـق
شهد النصف الثاني من ستينات القرن الماضي صدامات عنيفة بين الفلاحين الأكراد أصحاب الأراضي من جهة ، وبين السلطات السورية وأجهزتها الأمنية والعسكرية من جهة ثانية ، حيث لقيت فكرة نزع الأراضي من الأكراد مقاومة شديدة من جانب أصحاب الأراضي ، وقد استخدمت السلطات في هذا الصدد مختلف أشكال القمع والاضطهاد ، وكان للبارتي الديموقراطي الكوردي اليساري آنذاك دوراً أساسياً في الانتفاض ومقاومة السلطة ومخططاتها العنصرية . واستمر تصاعد وتيرة أحداث المقاومة الكردية ، واستمر بالمقابل مضي السلطة في تنفيذ المشروع ، وذلك بعد حركة 16/11/1970م ، وخاصة بعد الانتهاء من حرب تشرين عام 1973م ، حيث كانت الأرضية قد تهيأت بشكل واضح لتطبيق الحزام العربي وجلب العرب وإحلالهم محل الأكراد أصحاب الأرض الحقيقيين . فقد تم الاستيلاء بشكل كامل على مساحات واسعة من الشريط الحدودي ( بطول 350 كم وعمق حتى 20 كم ) ، وسُلِّمَت إلى « مزارع الدولة » ، كما خلق إنشاء سد الفرات الذريعة عندما غُمِرَت أراضي بعض الفلاحين العرب من محافظة الرقة .. وفي الجانب السياسي كان الموقف القومي الشوفيني الذي وقفه الحزب الشيوعي السوري بالتزام جانب السلطة ضد الفلاحين الكورد دوراً في سهولة تنفيذ « الحزام العربي » ، كما أدى ضعف الحركة السياسية الكردية وتفككها إلى تشجيع السلطات على المضيّ في مخططها الاستيطاني .. وكل تلك الظروف كانت مدعومة بأوضاع دولية وإقليمية كانت آنذاك في صالح السلطات التي استعملت القوة المفرطة ومختلف الأساليب والوسائل القمعية ضد الكورد . وهكذا صدر القرار المذكور ( رقم 521 لعام 1974م ) فتم استقدام عشرات الآلاف من المواطنين العرب من محافظتي الرقة وحلب ، وُزِّعوا على خمس وثلاثين مستوطنة حيث منحوا أخصب الأراضي إضافة إلى قرى نموذجية تتوافر فيها كل سبل الحياة والرفاه ، ناهيك عن الكميات الكبيرة من الأسلحة التي مُنحت لهم.
الأهداف
واليوم نستذكر ذلك الحدث الذي شكل سياسة جديدة ضمن دائرة الاضطهاد القومي الممارس تجاه الشعب الكردي في سوريا ، وقد هدفت هذه السياسة إلى تعريب مناطق الأكراد بتجريدهم من أراضيهم – بعد أن تم تجريدهم من جنسيتهم السورية قبل ذلك في 5/10/1962م بموجب المرسوم التشريعي ذي الرقم /93/ الصادر بتاريخ 13/8/1962م – وتعريضهم إلى وضع معيشي خاص بغية إجبارهم على الهجرة من مناطقهم وأرضهم التاريخية ، كسبيل إلى تغيير التركيبة الديموغرافية وإزالة الهوية القومية الكردية لتلك المناطق ذات التربة الخصبة والمياه الوفيرة والموارد المتعددة الأصناف وعلى رأسها البترول والمنتوجات الزراعية .. والوصول بالتالي إلى تحويل الدولة السورية إلى دولة للعرب وحدهم يحكمها حزب البعث وحده ببرامجه الشوفينية والشمولية ، وبذلك يتجسد مشروع « هلال » الاستيطاني .