ملخّص تنفيذي
استطاعت تركيا بمشاركة فصائل الجيش الوطني الموالي لها السيطرة على عفرين، وبسط نفوذها الأمني فيها، وسط انتهاكاتٍ قامت بها الفصائل من نهبٍ وسلبٍ وخطف، واستيلاءٍ على ممتلكات المدنيين وترهيبهم، الأمر الذي دفع سكانها الأكراد إلى مغادرة عفرين.
وقد أسست تركيا كلاً من جهازي الشرطة العسكرية والشرطة المدنية لتثبيت سيطرتها في المنطقة، فاستطاعت بذلك إمساك خيوط اللعبة في عفرين على مستوى الفصائل، والشرطة العسكرية، وقوات الشرطة وأجهزتها المتنوّعة. وهكذا كرّست أنقرة مناخ “الفوضى المنضبطة”، فارضةً معادلةً أمنيةً قلقةً تتيح لها شروط التحكّم والتدخّل كافة، ما يعزّز لدى المجتمع المحلي في عفرين عوامل الخوف المستمر.
لم تفرض أنقرة نموذج حكم ذاتي في عفرين في دلالةٍ واضحةٍ على تفاهم أمني مع الروس ضمن مسار آستانة، الذي أفضى إلى الاتفاق على عدم تحويل المناطق الخاضعة للسيطرة التركية إلى منصّاتٍ بديلةٍ أو منافسةٍ للدولة السورية. وهكذا مارست تركيا سياسة “التوكيل والإشراف”، وأحدثت تغييراتٍ في نسبة التمثيل السكاني عند تشكيل المجالس المحلية في عفرين، فارضةً تقسيماً غير عادل كان “للعرب” و”التركمان” “النازحين”\ يطلق عليهم اهالي عفرين اسم مستوطنين” حصّة كبيرة منه، وأُسُساً لوجود التركمان بصفتهم قومية في عفرين. هذا وأوجدت أنقرة نخبة سياسية كردية جديدة من القلة الموالة لها، وأقصت التكنوقراط الأكراد عن العمل في المجالس المحلية.
إضافةً إلى التهديدات الأمنية التي تواجهها تركيا، ونتاج مسار المصالحات في الغوطة الذي أفرز تهجيراً للقوى والجماعات المسلحة في الغوطة الشرقية، ومدن أخرى دفعت أنقرة باتجاه ملء الفراغ الذي أحدثه نزوح أكراد عفرين وتهجيرهم، عبر نقل آلافٍ من أُسَر المقاتلين في الجيش الوطني وأقربائهم من العرب والتركمان وتوطينهم في بيوت المدنيين الأكراد “الذين تم تهجيرهم.
وقد تراجع الوضع الاقتصادي المرتكز إلى الزراعة أساساً، وغابت التنمية المحلية مقابل تكريس خطط الاستثمار لصالح التجار الأتراك الذين بدأوا ينشطون في عفرين، حيث وجدوا لهم سوقاً جديدةً. في المقابل، اتّجه قادة في الجيش الوطني إلى تشغيل أموالهم مع تجّار سوريين من أبناء الغوطة وحمص المهجّرين قسرياً.
مقدّمة
تقع عفرين في شمال غرب سوريا على الحدود مع تركيا، وتتبع إدارياً لمحافظة حلب، وتُعَدّ من أكثر المناطق الكردية صلابةً من الناحية الاجتماعية نظراً إلى أن نسبة العرب فيها قليلةٌ ومندمجةٌ في المجتمع المحلي الكردي منذ فترة طويلة. تمتاز عفرين عن باقي المناطق الكردية السورية بغناها بفضل مناخها الجيد وكثرة أمطارها، اللذين حوّلاها إلى غابةٍ من غابات الزيتون والأشجار المثمرة.
انسحب النظام السوري تدريجياً من منطقة عفرين ليسلّمها، في العام ٢٠١٣، لوحدات حماية الشعب. وفي كانون الثاني ٢٠١٤، أصبحت عفرين واحدةً من ثلاث مقاطعات تتبع للإدارة الذاتية. وعلى الرغم من سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي عليها، كانت مقصداً للكثير من النازحين السوريين، ولا سيما من أبناء مدينة حلب الذين عمدوا أيضاً إلى نقل أعمالهم إليها. هذا وساعد غياب المعارك فيها بين الأطراف المتنازعة في قيام استقرار نسبي واضح للعيان، شكّل نموذجاً أفضل من النماذج الباقية التي خرجت عن سلطة النظام السوري وسيطرته.
بقيت الحال على ما هي عليه حتى تقدّمت وحدات حماية الشعب نحو بلدات مجاورة عدّة في محافظة حلب أبرزها تل رفعت، في شباط ٢٠١٦، وبسطت سيطرتها عليها في محاولةٍ لإنشاء ممرّ يربط بين عفرين وشرق نهر الفرات في المناطق التي كانت واقعةً تحت سيطرة فصائل المعارضة السورية.
اندلعت معركة السيطرة على عفرين في بداية العام ٢٠١٨، بعد فشل المفاوضات بين موسكو ووحدات حماية الشعب، ورفض الأخيرة الانسحاب من المنطقة وتسليمها للنظام السوري. فما كان من روسيا إلا أن سحبت قاعدتها الصغيرة بالقرب من كفر جنة في اتجاه منطقة تل رفعت، في ١٩ كانون الثاني ٢٠١٨، الأمر الذي اعتُبِر ضوءاً أخضر روسياً لتركيا لشنّ هجومها.
أدّى تفاهم روسيا وتركيا حول عفرين إلى انهيار مناطق خفض التصعيد التي ضمنتها تركيا في مسار آستانة بشكل كامل. فقد تزامن بدء معركة “غصن الزيتون” التي أطلقتها تركيا في عفرين، مع عملية قضمٍ واسعةٍ لمنطقة الغوطة الشرقية المشمولة في اتفاق خفض التصعيد. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن عن عملية “غصن الزيتون” في ٢٠ كانون الثاني ٢٠١٨، فيما حشد النظام والميليشيات الإيرانية قوّاتهما في محيط الغوطة الشرقية قرب دمشق، وبدأت روسيا قصفاً جوياً كثيفاً في ٥ شباط ٢٠١٨.
الواقع أن التدخّل العسكري التركي في عفرين شكّل مصلحةً مشتركةً لأطرافٍ عدّة. فتجلّت المصلحة الروسية في الانتقام من الوحدات الكردية كونها حليفاً للولايات المتحدة، ولأنها رفضت تسليم منطقة عفرين للنظام، فيما استفاد هذا الأخير بطريقةٍ غير مباشرةٍ وحقّق هدفه بتفتيت أبرز معاقل قوة الأكراد السوريين. أما تركيا فنجحت بتوسيع رقعة سيطرتها على مزيدٍ من الأراضي السورية.
أعلنت تركيا السيطرة على منطقة عفرين بشكلٍ كاملٍ يوم ٢٣ آذار، بعد شهرين من القتال العنيف، حيث تكبّد الطرفان خسائر كبيرةً في الأرواح، وسقط مئات القتلى والجرحى من المدنيين جرّاء القصف الجوي والمدفعي للقوات التركية المهاجمة، وإثر وصول هذه القوات إلى حدود منطقة الشهباء التي انسحب إليها المقاتلون الأكراد.
بعد مرور أكثر من عامٍ على السيطرة العسكرية للجيش التركي على منطقة عفرين الحدودية، كيف تحاول تركيا إدارة هذه المنطقة، وما السياسات التي تنتهجها لتوسيع نفوذها فيها؟ هل تشير السياسات التركية في المنطقة إلى هيمنة أنقرة الكاملة أو إلى خطةٍ لضمّ منطقة عفرين إلى تركيا؟ ما القطاعات التي تتمتّع فيها السياسة التركية بالسيطرة الأكثر وضوحاً وقوّة؟
“برنامج مسارات الشرق الأوسط” أعد ورقة كتبها خير الله الحلو تضمنت مناقشة عدة نقاق وهي: السلوك الأمني والعسكري التركي في عفرين، ودور الفصائل العسكرية التابعة للمعارضة السورية، والهيكليات الأمنية والعسكرية التي أحدثتها تركيا بهدف ضبط المنطقة. ثم تنظر في الحكم المحلي كأداةٍ لفرض أمرٍ واقعٍ جديدٍ في المنطقة يقوم على إنشاء طبقةٍ سياسيةٍ جديدةٍ مرتبطةٍ بتركيا، والعمل على ربط المجالس المحلية، ومنظمات المجتمع المدني، والخدمات العامة في تركيا بشكلٍ مباشر. كذلك تبحث الورقة في التغيير الديمغرافي خلال المعركة وبعدها، ودوره في عملية السيطرة على عفرين. أخيراً، ينظر البحث في التغييرات الطارئة على الاقتصاد المحلي في عفرين، ونتائجها على عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، ثم يتناول الاستراتيجية الاقتصادية لتركيا في هذه المنطقة الحدودية.
يستند البحث بشكلٍ رئيسٍ إلى ثلاثة وأربعين مقابلةً، اُجريَت ما بين آذار وأيار ٢٠١٩، مع سكان محليين أصليين، ونازحين هُجّروا من الغوطة وريف حمص الشمالي إلى عفرين ابتداءً من شهر أيار ٢٠١٨، ومع قادة عسكريين وعناصر من الفصائل الموالية لأنقرة، وعاملين في الحقل الطبي، وفي فرق إغاثية.
الجزء الأول: بناء نظام عسكري وأمني جديد
في العام ٢٠١٢، بدأ النظام السوري انسحاباً تدريجياً من عفرين حتى انتهت الحال بوحدات حماية الشعب إلى السيطرة على كامل المنطقة في العام ٢٠١٣. وشكّلت الوحدات الكردية جهاز أمن داخلي (الأسايش)، كان بمثابة جهاز أمن وشرطة تنفيذية في كانتون عفرين، التي اعتُبِرَت فيها الإدارة الذاتية السلطة العليا. بعد آذار ٢٠١٨، تغيّر الواقع الأمني والعسكري الذي دام ستّ سنوات متواصلة، فتدخّلت تركيا بشكلٍ مباشرٍ لفرض سيطرتها أمنياً وعسكرياً، وعبر الفصائل السورية الموالية لها، ثم شكّلت كلاً من الشرطة العسكرية والشرطة المدنية.
تركيا: المرجعية العليا في عفرين
مع السيطرة على عفرين انشغلت وحدات خاصة تركية إلى جانب المخابرات العسكرية التركية، بوضع اليد على المقرّات الأمنية والعسكرية لوحدات حماية الشعب، واحتفظت بالوثائق كافة في الإدارة الذاتية. بعدئذ أنشأت تركيا عدداً كبيراً من المقرّات العسكرية، وكانت لا تزال تبني، قواعد عسكريةً جديدةً يقع قسمٌ منها على الحدود السورية التركية، وآخر في مناطق شرق عفرين المقابلة لمنطقة الشهباء، التي تعتبر نقاط اشتباك مع الوحدات الكردية. أما أبرز تلك القواعد فهي مريمين، والمزرعة، وأناب، وكلبيري التي تُعَدّ أكبر القواعد العسكرية التركية في تلك المنطقة، إضافةً الى معسكر كفر جنة الذي يُجهَّز ليكون مهبطاً للطائرات المروحية التركية.
خريطة الانتشار التركي في عفرين
فضلاً عن ذلك، أنشات تركيا محطة استخباراتٍ تركيةً لتعقّب خلايا وحدات حماية الشعب الكردي وكشفها، علماً أن الاستخبارات تشرف أيضاً بشكلٍ مباشرٍ على عمل جميع الجهات الفاعلة الأخرى المُشارِكة في أمن المنطقة والتي تُعَدّ السلطة العليا في عفرين.
هذا وأسّست تركيا فرقة المهام السورية التابعة للقوات الخاصة التركية في مديرية الأمن العام التركي، وهي القوة الأمنية التركية الضاربة في عفرين، وتُعرَف محلياً بالكوماندوس التركي. تتألّف الفرقة من ١٢ وحدة موزَّعة على مناطق عفرين الإدارية، أما عناصرها فهي تابعة للإدارات الأمنية في أنقرة، وهاتاي، وغازي عنتاب، وكيليس، وأضنة. كذلك أنشأت تركيا وحدة مهام خاصة سورية (الكوماندوس السوري) تتبع للشرطة المدنية في عفرين، ولكنها عملياً تحت إمرة الاستخبارات التركية، وهي تنفّذ مهامها إلى جانب القوات الخاصة التركية عند إجراء المداهمات أو في حال الاعتقالات، بحسب شهادة اثنين من عناصر الشرطة المدنية في عفرين.
وبذلك تكون تركيا قد ثبّتت مراكز أمنية وعسكرية تابعة لها بغية فرض سيطرةٍ كاملةٍ على عفرين، ووسّعت في الوقت نفسه تجربة هيكلة الفصائل السورية الموالية لها وضمّها تحت مظلّة الجيش الوطني، من منطقة “درع الفرات” إلى عفرين.
الفصائل ضمن جيش وطني تحت إمرة أنقرة
شاركت فصائل “درع الفرات” إلى جانب القوات التركية في معركة عفرين، علماً أن تركيا دمجت هذه الفصائل في أواخر العام ٢٠١٧ تحت مسمّى الجيش الوطني، برعاية وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقّتة. توزّعت فصائل الجيش الوطني على فيالق ثلاثة (فيلق الجيش الوطني، وفيلق الجبهة الشامية، وفيلق السلطان مراد) ، ثم استوعبت الفصائلُ كلُّها، بما فيها جيش الإسلام وفيلق الرحمن، وفصائل الغوطة الشرقية تحت لواء الجيش الوطني. اعتمدت أنقرة على فصائل الجيش الوطني في السيطرة على عفرين، وهي تدفع رواتب عناصر هذا الجيش (التي يبلغ عددها الإجمالي ٣٠ ألفاً في مناطق النفوذ التركي في “درع الفرات” وعفرين)، من خلال واردات معبرَي جرابلس وباب السلامة، ومصادر أخرى وتزوّد الفصائل بالذخيرة بشكلٍ مباشر.
لكن الجيش التركي، بعد سيطرته على المنطقة، سرعان ما ترك فصائل الجيش الوطني تنهب مدينة عفرين جهاراً نهاراً. واستمرت عمليات النهب بوتيرةٍ مرتفعةٍ حوالى أسبوعَين قبل أن تتراجع نسبياً مع إرسال تعزيزاتٍ من الشرطة العسكرية من منطقة أعزاز. إضافةً إلى ذلك، استولت فصائل الجيش الوطني على ممتلكات المدنيين الأكراد الذين لاذوا بالفرار مع اقتراب المعارك من قراهم، وتحويل منازلهم الى مقرّات عسكرية ومستودعات لتخزين البضائع المسروقة، أو إلى مساكن لإيواء مقاتلي الفصائل وأُسَرهم، هذه الفصائل التي رفضت إعادة البيوت إلى أصحابها، متذرّعةً بأنه لا يحقّ لهم العيش في المنطقة بحجة انهم كانوا يدعمون وحدات حماية الشعب.
واللافت أن الفصائل الأكثر قرباً من تركيا هي تلك التي ما زالت تواصل انتهاكاتها بحقّ المدنيين، وتحمل لقب السلاطين العثمانيين مثل لواء السلطان شاه، ولواء السلطان مراد، إضافةً إلى فيلق الشام الذي يشكّل ذراع الإخوان المسلمين في سوريا. وتسيطر الفصائل هذه على مناطق عفرين الحدودية مع تركيا بهدف حماية الحدود التي تُعَدّ أولويةً لهذه الأخيرة، علماً أن فصيلَي السلطان مراد وسليمان شاه تحوّلا إلى أداةٍ بيد أنقرة تستخدمها في حروبها واجهةً لكلّ الجرائم والانتهاكات التي تسبّبت بها السياسة التركية، وهما يقاتلان من أجل المال واستمرار الدعم والرضا التركي فقط. في المقابل، تسعى تركيا إلى تخفيف دعمها لفصائل أخرى والضغط عليها بغية إضعافها وتطويعها، مثل الجبهة الشامية، الفصيل الأقوى الذي يشكّل عائقاً يحول دون بسط أنقرة هيمنتها على “درع الفرات”، وتحديداً منطقة أعزاز، معقل الجبهة. يُذكَر أن تركيا وسّعت نفوذ فصائل الجيش الوطني إلى عفرين عبر معركة “غصن الزيتون”، وسمحت لها بدايةً بنقل ثقلها العسكري وأكثر من 15 ألف مقاتلٍ، من “درع الفرات” إلى عفرين لإحكام السيطرة وضبط الأمن.
وهكذا نجحت تركيا في تحويل فصائل الجيش الوطني الى ميليشيات تأتمر بأوامرها، وتوجّهها حيثما تشاء، وتمنعها من أيّ مواجهةٍ مع النظام منذ بدء معركة “درع الفرات” لتحصر قتالها ضدّ الوحدات الكردية فقط. وبموازاة الاستمرار في سياسة التحكّم هذه، خفّفت أنقرة من دور الفصائل، وأنشأت شرطةً عسكريةً تابعةً لها.
تشكيل شرطة عسكرية لضبط الأمن
عقب السيطرة على عفرين وبدء بعض الفصائل عمليات السلب والنهب، أرسلت قيادة الجيش الوطني مجموعاتٍ من الشرطة العسكرية التابعة للجبهة الشامية، من أعزاز في منطقة “درع الفرات” إلى مدينة عفرين، حيث نصبت حواجز كبيرةً لمنع نقل المسروقات من عفرين إلى منطقة “درع الفرات” \سرعان ما تحول عناصر هذه الحواجز الى شركاء في السرقات. وكانت تركيا أنشأت إدارةً للشرطة العسكرية في منطقة “درع الفرات” في ٢٠ شباط ٢٠١٨، تتبع لوزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقّتة، وتتولّى ضبط تجاوزات العسكريين والمخالفات ضمن فيالق الجيش الوطني الثلاثة.
لكن مجموعات الشرطة العسكرية الصغيرة القادمة من أعزاز فشلت في وقف عمليات النهب، لا بل ارتفعت حدّة النقد المُوجَّه إلى تركيا وفصائل الجيش الوطني، وتشكّلت حالةٌ من الغضب لدى الكثير من الأهالي الذين سُرِقَت محلاتهم وسياراتهم أمام أعينهم، ولم يستطيعوا فعل شيء. كذلك تناقلت وسائل الإعلام الدولية أشرطةً مصوّرةً عن عمليات النهب في عفرين، ما دفع تركيا إلى تشكيل نواةٍ جديدةٍ للشرطة العسكرية في المنطقة، انتُدِبت غالبية عناصرها من فصائل الجيش الوطني، بعضها من فيلق الشام، والسلطان مراد، وسليمان شاه، وأحرار الشرقية، وهي الفصائل نفسها التي قامت بعمليات السلب والنهب، وكلّها من العرب والتركمان ولا يوجد فيها أي عنصر كردي.
وعيّنت قيادة أركان الجيش الوطني نائباً لقائد الشرطة العسكرية العام في منطقة عملية “غصن الزيتون” للمرة الأولى، في تموز ٢٠١٨. هذا وأحدثت تركيا بواسطة الجيش الوطني ثلاثة فروعٍ للشرطة العسكرية في كلّ من عفرين وجنديرس وراجو، وعُيّن ضابطٌ من الجيش الوطني ونائبٌ له في كلّ فرع. تجدر الإشارة إلى أن كل فرعٍ يتبع لإدارة الشرطة العسكرية في عفرين مباشرةً، علماً أن ضباط الشرطة العسكرية وعناصرها ينحدرون من الفصائل نفسها، ولكنهم أصبحوا أكثر ارتباطاً بقيادة القوات الخاصة التركية الموجودة في عفرين. ويتلقّى كل فرعٍ من فروع الشرطة العسكرية أوامره بشكلٍ مباشرٍ منها أو من الاستخبارات التركية.
أما قرار التعيينات العسكرية فيُتَّخَذ بشكلٍ مشتركٍ ما بين قيادة أركان الجيش الوطني والسلطات التركية، في حين يضطّلع القادة التركمان المقرّبون من تركيا بدورٍ في المشاورات لتسمية بعض الضباط. ويأتي قرار إبعاد المدنيين عن المناصب القيادية في الشرطة العسكرية والشرطة المدنية، نتيجة رغبةٍ أساسيةٍ للمسؤولين العسكريين والأمنيين الأتراك في “درع الفرات” وعفرين. في المقابل، تختلف الحال قليلاً في الفصائل المكوّنة للفيالق الثلاثة التي يتألّف منها الجيش الوطني، حيث ضغطت أنقرة لتعيين شخص مدنيّ مُقرَّب منها قائداً للفيلق الثاني.
قوات الشرطة والأمن العام الوطني
في ٢٣ آذار ٢٠١٨، كشفت صحيفة يني شفق المُقرَّبة من السلطات الأمنية التركية عزم أنقرة تدريب ألف عنصرٍ من الشرطة المحلية بهدف توفير الأمن وحماية مدينة عفرين. فدرّبت تركيا لمدة شهر الدفعة الأولى من الشرطة المدنية، وعددها ٦٢٠ عنصراً، في مدارس تابعة لأكاديمية الشرطة التركية في أضنة ومرسين، كما عملت على تدريب ثلاث دفعات في وقت متقارب. وتستمر قيادة الشرطة بتدريب عناصر جديدة، وضمّها إلى قوات الشرطة والأمن العام.
فضلاً عن ذلك، قسّمت تركيا عفرين وفقاً للتوزيع الجغرافي إلى ثلاثة قطاعاتٍ شرطيةٍ، قُسّمَت بدورها إلى نواحٍ. تضمّ هذه القطاعات مركز شرطة عفرين، ومركز شرطة جنديرس، ومركز شرطة راجو. ويتبع هذا التقسيم السيطرة الأمنية والعسكرية التركية التي أعطت الأولوية لتأمين الحدود في راجو وجنديرس، وإلحاق المناطق الداخلية بمنطقة عفرين. كذلك أحدثت تركيا أقساماً متخصّصة مُلحَقً بقيادة شرطة عفرين، تعمل بصفتها مخافر في القطاعات الشرطية الثلاثة الرئيسة.
عيّنت أنقرة المقدّم رامي طلاس من مدينة الرستن (محافظة حمص)، قائداً لقوات الشرطة والأمن العام الوطني في كامل منطقة عفرين. هذا وتشير قوائم المقبولين التي نشرتها الشرطة في شباط ٢٠١٩، إلى أن عناصر الشرطة هم في غالبيتهم من الغوطة الشرقية وحمص، يتبعهم مهجّرو إدلب وحماة، فيما تُبرِز القوائم وجود ثلاثة أشخاص من السكان المحليين في عفرين، لكنهم من العرب ولا يوجد أيّ كردي بينهم من أصل ٣٠١ مقبول. وهذا الأمر إنّما يدلّ على أن تركيا تريد إقصاء السكان المحليين من العرب والأكراد عن المشاركة في القطاع الأمني، إذ تعتبرهم مصدر قلقٍ، الأمر الذي يولّد مزيداً من الحساسية ما بين السكان المحليين وسلطة الأمر الواقع المتمثّلة بفصائل المعارضة والقوات التركية، ويعمّق الخلاف ما بين نازحي باقي المناطق السورية وأكراد عفرين.
السياسة التركية بعد فرض سيطرتها العسكرية توجهت نحو استخدام فصائل الجيش الوطني كأداةً لتنفيذ سياسةٍ أمنيةٍ ممنهجةٍ أدّت إلى تهجير نصف سكان عفرين، عبر موجات من الاعتقالات والخطف مقابل فدية. فقد اعتقلت القوات التركية والفصائل السورية الموالية لها خلال عام أكثر من 5000 مدني، لا يزال قرابة الألفين منهم قيد الاعتقال حتى حزيران ٢٠١٩. في حين قال أحد الناشطين من أبناء المنطقة إن منتسبي الحزب وعناصر الوحدات خرجوا كلّهم من المدينة، وأكّد مصدر في الوحدات أن أيّاً من مقاتليها لم يؤسَر في عفرين، وأن المعتقلين كلّهم من المدنيين.
أضِف إلى ذلك أن الفلتان الأمني وإطلاق أنقرة يد الفصائل، شجّعا قيامَ ظاهرةٍ جديدةٍ هي الخطف مقابل فدية، حيث يُخطَف أحد المدنيين ميسوري الحال، ويُشترَط إطلاق سراحه بدفع مبلغ مالي يتراوح ما بين ألف و١٠ آلاف دولار أميركي بحسب الشخص المخطوف ووضعه الاقتصادي. فتركّزت عمليات الخطف على المدنيين الأكراد، وارتبطت بمدى ثرائهم لا بانتمائهم إلى الوحدات الكردية، ذلك أن المتّهمين بهذا الانتماء يُعتقَلون وتُصادَر أموالهم على الفور. هذا وتعرّض بعض الأشخاص للاعتقال مرّةً أخرى، فدفعوا فديةً ثانية، وطال الخطف أيضاً أطفالاً دون الـ18 من العمر. ويحمّل الناشطون مسؤولية عمليات الخطف هذه لشبكاتٍ تابعةٍ للفصائل بسبب وجود السلاح بيدها حصراً.
بعد عام على إطلاق يد الفصائل، دعمت تركيا الشرطة العسكرية وقوات الشرطة المدنية من أجل فرض نفوذها في المنطقة، فتمكّنت من الإمساك بخيوط اللعبة في عفرين على مستوى الفصائل، والشرطة العسكرية، والشرطة المدنية وأجهزتها المتنوّعة والمتخصّصة. واستطاعت أنقرة خلق فوضى منضبطةً تتحكّم بها كما تشاء، وتبقيها سيفاً مسلّطاً على رقاب أهالي عفرين يساعدها في تعزيز سيطرتها الأمنية. وعلى عكس منطقة “درع الفرات”، حيث تنحدر عناصر الفصائل والشرطة العسكرية وقوات الشرطة المدنية في غالبيتها من المنطقة، يتألّف الجيش الوطني في عفرين من عناصر غير محليين يتصرّفون من دون حسيب أو رقيب. وبينما واجهت تركيا صعوباتٍ في فرض واقع أمني وعسكري نهائي في “درع الفرات” خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بحكم أن العناصر هم محليون يرتبطون بعلاقاتٍ عائليةٍ وعشائريةٍ تعيق تنفيذ الأجندة التركية، يمتثل عناصر الفصائل والشرطة في عفرين للأوامر التركية بصرامةٍ أكبر إذ لا يوضَعون في مواجهة عوائلهم وأبناء مناطقهم.
الجزء الثاني: بناء هياكل حكم محلي جديدة ونخبة سياسية محلية جديدة
حُكِمَت مقاطعة عفرين، من بداية العام ٢٠١٤ حتى عملية “غصن الزيتون”، وفقًا لقواعد الإدارة الذاتية، فأحُدِثَت فيها ١٧ بلدية سُمّيَت بلديات “الشعب”، ومجلس تنفيذي ضم 14 هيئة بمثابة حكومة تدير المنطقة، الى جانب مجلس تشريعي وشكّلت الكومينات في الأحياء والقرى الحلقةَ الأخيرةَ في سلسلة الإدارة الذاتية.
دفعت معركة عفرين معظم العاملين في مؤسسات الإدارة الذاتية إلى الفرار، في حين تعرّض مَن قرّر البقاء للاعتقال. فضلاً عن ذلك، فُكّكَت تركيا على الفور كافة المؤسسات المحلية، لتحلّ محلّها هياكل جديدة تحت إدارتها المباشرة كما والحقت المدينة بولاية هاتي/ اسكندرون.
وعمدت تركيا، حتى قبل إعلان النصر العسكري، إلى دعم رابطة المستقلين الكرد بعقدها مؤتمر سماه ب مؤتمر “إنقاذ عفرين” في مدينة غازي عنتاب التركية، في ١٨ آذار ٢٠١٨، من أجل تشكيل إدارةٍ محليةٍ جديدةٍ عوضاً عن الإدارة الذاتية الكردية. أشرف والي غازي عنتاب على المؤتمر مقدّماً له التسهيلات، والتمويل فيما اقتصر الحضور على شخصيات كردية وعربية وعلوية ويزيدية موالين لتركيا. وقد غاب عن المؤتمر كلٌّ من المجلس الوطني الكردي بسبب موقفه الرافض للعملية العسكرية، والناشطون الشباب المستقلّون، والشخصيات الثقافية الأمر الذي افقده الشرعية.
انتخب مؤتمر “إنقاذ عفرين” ٣٥ شخصيةً شكّلت مجلس مدينة عفرين المحلي، ثم أنشأت تركيا هيئةً عامةً للمجالس المحلية في كامل منطقة عفرين، في ١٠ نيسان ٢٠١٨، ضمّت شخصياتٍ غير معروفة الا بولائها لتركيا. ووسّعت أنقرة الهيئة العامة للمجالس المحلية لتضمّ ١٠٧ أعضاء، مئةٌ منهم رجال و٧ نساء. وغابت السيدات عن تشكيلات المجالس المحلية في مدن جنديرس، وراجو، وشيخ الحديد، حيث ضمّت مجالس مدن عفرين، وبلبل، ومعبطلي امرأتين، والمجلس المحلي لشران امرأة واحدة.
الواقع أن التمثيل لم يُراعِ المكوّنات الحقيقية. في مجلس مدينة عفرين الذي تم منح العرب نسبةٍ كبيرةٍ من المقاعد تتخطّى تمثيلهم الحقيقي. فوجودهم في المدينة يقتصر على بعض قرى مجرى نهر عفرين، وهم من عشيرة البوبنا، ومع ذلك حصلوا على ٨ مقاعد أي ما يتخطّى نسبتهم في عفرين. في المقابل، حظي الأكراد على ١١ مقعداً لمستقلّين محسوبين على تركيا لا تاريخ سياسياً لهم، والتركمان على مقعدٍ واحدٍ بالرغم من عدم وجودهم الفعلي في منطقة عفرين. وقد أُعطي هذا المقعد لشخص عربي مقرّب من أنقرة يحمل الجنسية التركية، هو الطبيب أحمد حاجي حسن، الذي يدير المكتب الطبي في معبر باب السلامة.
أما التمثيل الأقرب إلى الواقع المحلي عدديا فهو في مجلس جنديرس الذي شُكّل لاحقاً (في ٢٠ نيسان ٢٠١٩)، إذ يتكوّن المجلس هذا الأخير من ١٥ عضواً، بينهم ١٢ عضواً كردياً من الموالين لتركيا، و٤ أعضاء عرب.
وتشرف ولاية هاتاي التركية بشكلٍ مباشرٍ على المجالس المحلية في منطقة عفرين، عبر ولاة مناطق أتراك وفقاً للتقسيم الأمني (والي عفرين، ووالي راجو، ووالي جنديرس). هؤلاء يمثّلون والي هاتاي في مناطقهم، وكلّ واحد منهم يتحكّم بالمجالس المحلية في قطاعه.
وصحيح أن المجالس المحلية تتبع الحكومة السورية المؤقّتة، إلا أنها تتلقّى أوامرها التنفيذية من الجانب التركي بشكلٍ مباشر. وهذا ما أكّده رئيس مجلس عفرين، المهندس سعيد سليمان، في لقاءٍ مع صحيفة حبر حول طبيعة العلاقة مع الحكومة السورية المؤقّتة، وما يتّفق مع شهادة أحد أعضاء المجلس المحلي في عفرين بأن تركيا هي مَن يشرف على التنسيق والخطط التنفيذية، في ظلّ غياب أيّ دورٍ أو وجودٍ في عفرين للحكومة المؤقّتة، التي منعتها أنقرة من فتح مكاتبها هناك.
تتلقّى المجالس المحلية في منطقة عفرين مخصّصاتٍ ماليةً شهريةً من تركيا عبر والي هاتاي، على غرار نظيراتها في منطقة “درع الفرات”، وهي أموال عائدات المعابر الحدودية التي توزّعها تركيا أيضاً على الجيش الوطني.
بيد أن تركيا قامت بسلسلة اعتقالاتٍ شملت مدنيين كانوا يعملون في الإدارة المدنية والمؤسسات التابعة لها، ولا انتماء سياسياً لهم. هذا ولم تقتصر اعتقالاتها على المتّهمين بالانتماء الى الإدارة الذاتية، بل طالت أيضاً أعضاء في المجالس المحلية أنفسهم. فاعتقلت رئيس المجلس المحلي في عفرين، زهير حيدر، وأعفته من مهامه في أيلول ٢٠١٨. كما قُتِل تحت التعذيب نائب رئيس مجلس ناحية الشيخ حديد، أحمد شيخو، على يد عناصر فصيل سليمان شاه، في ١٢ آب ٢٠١٨، بعد بضعة أيام من اعتقاله، وذلك بسبب طلبه إعادة بعض البيوت المُستولى عليها إلى أصحابها. كما اعتقلت الشرطة العسكرية في جنديرس مطلع أيار ٢٠١٩، عضو المجلس المحلي، جيكرخون إسماعيل، وسلّمته إلى المخابرات التركية من دون معرفة سبب اعتقاله، واجبر اخرون على الاستقالة تحت تهديد الاعتقال، كما وتم اقتحام مجلس شيه من قبل فصيل العمشات عدة مرات.
لقد أدّت مطاردة كلّ العاملين السابقين في الإدارة الذاتية في مقاطعة عفرين، والتضييق على أعضاء المجلس الوطني الكردي واعتقالهم، واعتقال أعضاء في المجالس المحلية الموالية أساساً لتركيا، لانتقادهم سلوك الفصائل او الاعتراض على بعض السلوكيات اليومية، إلى إقصاء الأطراف الفاعلة السياسية المعروفة، وتشكّل طبقة سياسية كردية جديدة قائمة على الزبائية، ومُلحَقة بشكلٍ مباشرٍ بتركيا، تستفيد من حمايتها، ومن غياب المنافسين. وقد برزت في هذه الطبقة شخصياتٌ غير معروفةٍ في المشهد الكردي في عفرين، أمثال سعيد سليمان، رئيس المجلس المحلي الحالي في مدينة عفرين، وحسين مصطفى، نائب رئيس مؤتمر إنقاذ عفرين، والطبيب أحمد حاجي حسن، رئيس المكتب الطبي في مجلس مدينة عفرين، وهو عربي حاصل على الجنسية التركية، إضافةً إلى عبد الناصر حسو، رئيس غرفة صناعة وتجارة عفرين، وهو تركماني حاصل على الجنسية التركية؛ وهذا ما يشي بأن الارتباط بالقرار الأمني التركي أصبح كبيراً للغاية. زِد على ذلك أن سياسة تركيا تعزّزت بتكريس دور التركمان في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، عبر تعيين التركماني عبد الرحمن مصطفى، رئيساً للحكومة المؤقّتة في ٢٧ حزيران ٢٠١٩، ما من شأنه أن يسرّع عملية تتريك منطقتَي “درع الفرات” وعفرين.
وعمدت تركيا إلى ضبط الأمن، وتوفير الخدمات مثل الصحة والإغاثة والتعليم والمياه، محاولةً تأمين كهرباء دائمة في عفرين، كما فعلت في مدينتَي الباب وأعزاز. كذلك سَعَت إلى ربط مصائر المدنيين بالخدمات الأساسية كالأغذية، التي قدّمتها المؤسسات الإغاثية والصحية، وإلى تحقيق استقرارٍ على المستوى التعليمي، عبر ترميم المدارس، وإيجاد فرصٍ للدراسة الجامعية، على غرار ما فعلت في منطقتَي “درع الفرات” وإدلب، وقبول الطلاب في الجامعات التركية.
وقد أشرفت تركيا بشكلٍ مباشرٍ على السلطات الخدمية، التي انحصرت بيد المجالس المحلية المُوالية لأنقرة، فيما بقي دور الحكومة السورية المؤقّتة دوراً شكلياً للغاية في هذا المجال.
على الصعيد الأمني، وُضِعَت قوات الشرطة والأمن العام الوطني تحت إشراف المجالس المحلية شكليا، التي تعمل كسلطةٍ تنفيذيةٍ تنظّم الأمور الإجرائية فقط. فتتولّى مثلاً ضبط مخالفات السير، وفرض الغرامات، وجباية الرسوم، كتلك المفروضة على المحاصيل الزراعية، علماً أن الضرائب تعود إلى صندوق المجلس المحلي بعد أن تجمعها الشرطة. أما في القضايا الجنائية، فتحوّل الشرطة الجناة إلى المحاكم المدنية التي عيّنتها تركيا وتتبع لها إدارياً، وإن كانت مستقلّةً إلى حدّ ما. تعمل هذه المحاكم بـ”القانون العربي الموحّد”، ويرأسها قضاة وليس مشايخ على غرار المحاكم الشرعية.
فضلاً عن ذلك، تضطّلع السلطات التركية بدور الوسيط بين منظمات المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية والإغاثية وما تقدّمه من مساعدات، وبين المجالس وما تحتاج إليه. فتنسّق وكالة الكوارث والطوارىء التركية “آفاد” (AFAD) العمل الإغاثي بمجمله في منطقة عفرين، مع العلم أن المؤسسات الإغاثية تحتاج دائماً إلى موافقة “آفاد” قبل توزيع أيّ سلّةٍ إغاثيةٍ في عفرين، حيث تؤدّي “آفاد” دوراً تنسيقيّاً ما بين المنظمات والمجالس المحلية لتغطية الاحتياجات. ومن المنظمات الأخرى التي تنشط في المنطقة هيئة الإغاثة الإنسانية التركية [IHH]، والهلال الأحمر التركي، وعددٌ من المنظمات الإنسانية التركية، مثل حياة وأطباء عبر القارات التركية، وهي تعمل جميعها في القطاعَين الطبي والإنساني.
أما المنظمات الإنسانية السورية فتعمل تحت إشراف تركي مباشر. فعلى سبيل المثال، تحظى منظمة الأمين التي تعمل في قطاعات الصحة والإغاثة والتعليم، بمكانةٍ خاصةٍ لدى تركيا من بين المنظمات الإنسانية الأخرى في عفرين، تليها منظمات بهار، وسامز، والخير، والمنظمة الدولية للإغاثة، والأيادي البيضاء، وإحسان، وهيئة الإغاثة الإنسانية في المرتبة الثانية.
في القطاع الطبّي، تشرف مديرية الصحة في ولاية هاتاي على المنظمات الطبية كافة العاملة في عفرين، وتمنح تراخيص المستشفيات والنقاط الطبية والمستوصفات. كذلك رمّمت تركيا عبر مديرية الصحة في هاتاي مستشفى عفرين الكبير، وشغّلته بشكل مباشر، وعيّنت على رأسه مديراً تركياً، وهي تدفع رواتب العاملين فيه.
وفي قطاع التعليم، ألغت السلطات التركية العمل بالمنهاج الذي وضعته الإدارة الذاتية، وفرضت منهاج وزارة التربية في الحكومة المؤقّتة، مُضيفةً إليه كتابين لتعليم اللغة التركية. هذا وتشرف مديرية التربية والتعليم في ولاية هاتاي على المكاتب التعليمية في المجالس المحلية، وتدفع هذه الأخيرة رواتب المعلّمين والعاملين في قطاع التعليم. وتقوم منظمة الأمين بدفع ثلثَي راتب المعلّمين، والبالغ ١٥٠٠ ليرة تركية، فيما تتكفّل تركيا بدفع الثلث من واردات المعابر.
أما في مجال الكهرباء، فتعمل تركيا على ترميم الشبكة لإعادة التيار الكهربائي عبر مولّداتٍ ضخمة، كما فعلت في مدينتَي أعزاز والباب حيث عهدت بتشغيل المولّدات إلى شركتَي الطاقة التركيّتَين ET Energy وAK energy Ltdşti، اللتين نجحتا في توفير الكهرباء بشكلٍ دائم. ويجري العمل حالياً على توفير التيار الكهربائي في مدينة جرابلس بالطريقة نفسها، كما يُتوقَّع تزويد مدينة عفرين بكهرباء دائمة في آب ٢٠١٩، وإن لم يُعلَن حتى الآن عن الشركة التركية المُستثمِرة في عفرين.
لا شكّ في أن توفير الخدمات وزيادة فرص العمل سيجعلان المدنيين الأكراد والمهجّرين العرب مُلحَقين إلى حدّ كبير بالمؤسسات الخدمية، ويرهن مصائرهم بالرضا والولاء التركيَّين.
الواقع أن تركيا نجحت، بالمقارنة مع “درع الفرات”، في بسط سيطرتها على عددٍ من المجالس، ولا سيما المجالس الكبرى، ومع ذلك لا تزال تلاقي اعتراضاً كبيراً على بعض قراراتها وأفعالها، بسببب وجود حاضنةٍ مؤيّدةٍ للثورة تنظر إلى الدور التركي بكثيرٍ من الريبة. ويتقاطع واقع هياكل الحكم المحلي في عفرين ومنطقة “درع الفرات”، مع رفض تركيا اضطّلاع الحكومة المؤقّتة التابعة للمعارضة بأيّ دور سياسي فعلي، إذ تفضّل أنقرة إدارة المنطقة بيدها بناءً على التفاهمات مع روسيا، التي اشترطت منع قيام مؤسساتٍ تابعةٍ للمعارضة في أماكن سيطرة القوات التركية.
الجزء الثالث: واقع التغيّرات الديمغرافية
لم تلقَ قضية التغيير الديمغرافي في عفرين أهميةً كبيرةً، نظراً إلى استحالة عمل المنظمات السورية البحثية هناك بسبب الهيمنة الأمنية التركية.
كانت الدراسة التي أصدرتها منظمة باكس من بين الدراسات والتقارير القليلة حول التغيّرات في عفرين. حيث تقوم تركيا والفصائل الموالية لها بالتضييق على الاهالي لدفعهم إلى مغادرتها بسبب السياسات الأمنية. فعمليات الخطف مثلاً أجبرت بعض المخطوفين الذين دفعوا فدى مالية، على مغادرة منطقة عفرين والتوجّه إلى منبج أو شرق الفرات، على اعتبار أنهما أكثر أمناً. ويشكّل نقل المهجّرين قسراً من الغوطة وحمص ودرعا إلى عفرين، خطّةً تركيةً تهدف إلى توطينهم بشكلٍ دائم، الأمر الذي ساهم في تغيير التركيبة السكانية القومية في عفرين لصالح العرب والتركمان.
السكان الأصليون قبل معركة عفرين وأثناءها وبعدها
يبلغ عدد سكان منطقة عفرين ٥٢٣٢٥٨ نسمة، استناداً إلى إحصاء العام ٢٠١٢، في حين يُقدَّر عدد السكان المحليين الأكراد بنحو ٣٥٠ ألف نسمة قبل معركة “غصن الزيتون”، نظراً إلى إقامة قسمٍ كبيرٍ منهم في مدينة حلب، يُضاف إلى هذا العدد نحو ١٥٠ ألف نازحٍ من المناطق السورية كافة، وقسمٌ من الذين فرّوا من حلب الشرقية بسبب المعارك في العامَين ٢٠١٢ و٢٠١٣، ليبلغ بذلك العدد الإجمالي للأكراد والنازحين إلى عفرين نصف مليون. قبل الهجوم التركي في آذار ٢٠١٨، احتُضِن النازحون بدايةً من قبل السكان المحليين، وبعد سيطرة وحدات حماية الشعب على عفرين، فرضت عليهم الأسايش عقود إيجار قديمة، أو نظام الكفيل للراغبين في زيارةٍ أو عملٍ مؤقّت.
عقب السيطرة على عفرين، وجد النازحون في منطقة الشهباء، أنفسهم وضع صعب. فالنظام السوري منع تدفّق عشرات آلاف المهاجرين إلى مدينة حلب. لكن قلّةً قليلةً من هؤلاء تمكّنت من دفع رشاوى كبيرة لقوات النظام لتتيح لها العبور إلى حلب عبر حواجزها، في حين سمحت هذه القوات بالعبور لحاملي الهويات الشخصية ذات القيد المدني الصادر في حلب، من أبناء المدينة والمسيحيين والأرمن، الذين كانوا يقيمون في عفرين، رافضةً عبور مَن يحمل هويةً صادرةً في عفرين.
كذلك منعت فصائل المعارضة والقوات التركية من التسلّل عبر الطرق الفرعية من منطقة الشهباء إلى عفرين، لكن قسماً صغيراً منهم استطاع العبور بعد دفع رشاوى لفصائل المعارضة السورية المتمركزة على خطّ الجبهة بين عفرين ومنطقة الشهباء.
استناداً إلى بياناتٍ تحقّقت منها منظمات حقوقية في كانون الثاني ٢٠١٩، لا يزال 250 ألفاً من أكراد عفرين مهجّرين قسراً، من بينهم قرابة الـ٧٠ ألف طفل و٤٥ ألف امرأة. ويضمّ المهجّرون من عفرين أكثر من ٥ آلاف لاجئ إلى خارج سوريا، ونحو ١٤٥ ألف نازح داخلي، من بينهم ٦٠ ألف نازح يشكّلون ١٢٥٠٠عائلة في مخيّمات منطقة الشهباء (برخدان، وسردم، وعفرين، والشهباء) شمال حلب.
وبينما لم تعلن قيادة الشرطة أو المجالس المحلية عن وجود أيّ إحصاءٍ لعدد الأكراد المتبقّين في عفرين، يؤكّد ناشطون أكراد أن العدد المتوقّع في أواخر نيسان ٢٠١٩ هو حوالى ١٥٠ ألف كردي، بعد أن كان الإحصاء غير الرسمي في العام ٢٠١٨ حوالى ٥٠٠ ألف.
بعد انهيار مناطق خفض التصعيد في الغوطة الشرقية في نيسان ٢٠١٨، وريف حمص الشمالي في أيار ٢٠١٨، وتهجير الفصائل إلى ريف حلب الشمالي، وجدت تركيا الفرصة سانحةً لتوطين المهجّرين في منطقة عفرين بحجّة أنهم طُرِدوا من بيوتهم، فنقلت أعداداً كبيرةً منهم من منطقة الباب إلى عفرين. وتعارضت شهادات المهجّرين، إذ قال بعضهم إنهم تلقّوا معاملةً حسنةً في عفرين من قبل القوات التركية والجيش الوطني، فيما قال بعضهم الآخر إنهم عومِلوا بشكل سيّء في منطقة الباب من أجل تشجيع الباقين على الانتقال إلى عفرين.
وقد بلغ عدد المهجّرين والنازحين إلى عفرين ٨٧٩٣٦، يشكّل مهجّرو الغوطة ٥١ في المئة منهم، والنازحون من محافظة حلب ٢٠ في المئة، وذلك بحسب إحصاءٍ دقيقٍ غير منشورٍ أجراه المجلس المحلي لعفرين بحلول أواخر أيار ٢٠١٩. تُضاف إلى ذلك الإحصاء ٢٦٠٠ عائلة نزحت لغاية أيار ٢٠١٩ بسبب المعارك في ريف حماة الشمالي. هذا ونقل فصيل السلطان مراد أُسَر مقاتليه في “درع الفرات” إلى ناحية شران التي يسيطر عليها، والتي نُقِلت إليها أيضاً حوالى ٦٠٠ عائلة نازحة من مخيم البل شرق أعزاز، فيما تُقدَّر الأُسَر التركمانية النازحة بنحو ٦٠٠ أسرة.
وطالت السياسات التركية مهجّري الغوطة، وحمص، ودير الزور، وغيرها. فحلّت تركيا، في ١٧ أيار ٢٠١٩، هيئات المهجّرين التي كانت تعطي أوراقاً ثبوتيةً وسندات إقامة للمهجّرين بهدف الحفاظ على قيودهم الأصلية، وأجبرت هؤلاء على استخراج هويّات من مجلس عفرين، ما اعتبروه خطوةً لتوطينهم نهائياً في المنطقة، وسلخهم عن ديارهم، وإلغاء حقّهم في العودة مستقبلاً.
الجزء الرابع: تغيّر النظام الإقتصادي
تراجع دور عفرين الاقتصادي بعد السيطرة التركية عليها، ورُبِط النشاط الاقتصادي فيها بقادة الفصائل أو شبكاتهم. فتوقّف عن العمل عددٌ كبيرٌ من المنشآت الصناعية الصغيرة، والورش، والمهن التي افتتحها المهجّرون إليها من حلب، ولا سيما الأرمن والمسيحيون منهم. كما تجنّبت تركيا القيام بعملية تنمية، وسمحت للتجار الأتراك بالبحث عن سوق تصريفٍ لموادهم.
تقييد الإنتاج الزراعي والصناعي
تشكّل الزراعة مصدر الرزق الأساسي في عفرين، إذ كان ٧٥ في المئة من سكانها يعملون فيها قبل العام ٢٠١١. وتشتهر عفرين من بين المناطق السورية بملايين أشجار الزيتون. وقد تعرّض زيت الزيتون إلى حملة نهب منظّمة من قبل فصائل الجيش الوطني، ونُقِل وبيع في الأسواق التركية بقيمة ٧٠ مليون يورو تقريباً.
وسرعان ما فرضت المجالس المحلية على المزارعين، عقب السيطرة التركية، الحصول على موافقتها لقطف محاصيلهم، فارضةً على هذه الأخيرة ضريبةً جديدةً نسبتها حوالى١٠ في المئة. وقد أجبرت الفصائل العسكرية المزارعين على التنازل عند حواجزها عن حصّةٍ من الزيتون وأخرى من الزيت بعد عصره، كما فرضت رسوماً ماليةً على المزارعين المتوجّهين إلى أراضيهم، ما دفع بعضهم إلى الامتناع عن قطف مواسمهم.
وعانى مزارعون آخرون من استيلاء فصائل الجيش الوطني على بساتينهم بسبب تهمة انتمائهم إلى وحدات حماية الشعب الكردية. كذلك فُرِضَت على أصحاب البساتين المسافرين أو المهجّرين ضريبةٌ نسبتها ٢٠ في المئة من المحصول، حتى يتمكّن أقرباؤهم من الحصول على موافقة المجلس المحلي على القطاف. فبقيت أراضي الزيتون التي لم يتمكّن مالكوها المهجّرون من توكيل أقربائهم في جني موسمها، تحت سلطة الفصائل العسكرية، ما دفع قيادة أركان الجيش الوطني إلى الإيعاز إلى الفصائل بتسليمها إلى المجالس المحلية لجني محاصيلها، وحل أمورها العالقة مع مالكيها أو أقربائهم. وقد جاءت هذه الخطوة للتقليل من حدّة الانتقادات للفصائل، لكنّها في الواقع كانت خطةً تركيةً لتمويل المجالس المحلية من محصول الزيتون. بيد أن قسماً كبيراً من الفصائل رفض تسليم البساتين للمجالس، بل عمد إلى قطف محصول الزيتون بقوة السلاح، مُشغّلاً المهجّرين الباحثين عن قوت يومهم في القطاف.
هذا وقام الجيش التركي بجرف بعض الحقول إما لتوسيع المعسكرات والمقرّات التابعة له وللفصائل العسكرية، وإما بذريعة وجود مستودعات أسلحة، واختباء خلايا وحدات حماية الشعب فيها، خصوصاً في المناطق المحاذية للغابات في راجو شمال عفرين.
أما الصناعات في منطقة عفرين فتركّزت بمعظمها على الزيتون، حيث قُدّر عدد معاصر الزيتون بـ١٨٦ معصرةً قبل العام ٢٠١١، إضافةً إلى ١٢ معمل صابون التي تنتج هذا الأخير من زيت البيرين أي بقايا الزيتون، ومعامل البيرين المُعَدّ للتدفئة، وعددها ١٧ معملاً.
ناهيك عن ذلك، استولت الفصائل على بعض معاصر الزيتون أو سرقت معدّاتها، عقب السيطرة التركية، فاضطّر أصحابها إلى دفع مبالغ ماليةٍ طائلةٍ أحياناً لاستعادتها، وقد أُعيد تشغيلها في شتاء ٢٠١٨. الأمر نفسه انطبق على معامل البيرين، وأكياس النايلون، وأنابيب الري، والتنك، ومصانع المخلّلات والمربّى، والمطاعم السياحية في كفر جنة وميدانكي والباسوطة.
شراكات جديدة
فرض واقع الحال على التجار والصناعيين في عفرين السعي إلى ضمان مصالحهم عبر إقامة نوعٍ من الشراكة مع الفصائل، ولا سيما في معامل الصابون والبيرين، ومعاصر زيت الزيتون. فيتولّى الفصيل حماية المنشأة التابعة للشريك الجديد بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، مانعاً باقي الفصائل من محاولة ابتزازها أو سلبها، وذلك مقابل حصةٍ شهريةٍ من الأرباح أو مبلغٍ مُتّفَقٍ عليه. وتُعَدّ شركة كيفو المثال الأبرز على تلك الشراكات. أما المعامل التي رفض أصحابها دفع الإتاوات، فبقيت مغلقةً أو تعرّضت يومياً لابتزاز فصائل المنطقة.
لم تقتصر الشراكات على التجار الأكراد، بل شملت أيضاً التجار المهجّرين إلى عفرين من باقي المناطق. فبرزت طبقةٌ جديدةٌ من التجارفي مجال الأدوات المنزلية ومواد البناء، هم على ارتباطٍ بناء شراكاتٍ مع هؤلاء القادة لزيادة رأس المال وضمان الحماية الأمنية. في المقابل، تحمّس قادة الفصائل لتشغيل أموالهم مع التجار والصناعيين والصرّافين، وفتح استثمارات جديدة، يساعدهم في ذلك أن أموالهم مضمونة كونهم سلطة الأمر الواقع في المنطقة. صحيح أن الشراكات لا تزال غير ظاهرة، إلا أنها من المرجح أن تتوسّع، وتتّخذ شكلاً أكثر وضوحاً مع افتتاح معبر جنديرس.
الواقع أن تركيا كانت أنشأت معبر جنديرس بهدف انساني، ولكن يبدو أن ثمة رغبةً في استخدامه لتسهيل حركة التجارة عبره إلى سوريا، ما من شأنه استقطاب التجار السوريين، وبالتالي نقل الحركة من سرمدا والدانا إلى جنديرس، نظراً إلى قربها من إدلب ومدينة عفرين. وسيشكّل المعبر نقطة دخول البضائع التركية إلى النظام، في حال أُعيد تشغيل طرق الترانزيت السورية، أو الخطّ البرّي إلى دول الخليج عبر مناطق سيطرة النظام.
إنشاء غرفة تجارة وصناعة
تشجّع تركيا مستثمريها على العمل داخل سوريا، على غرار شركات البناء في مدينة الباب، والاستثمار في قطاع الطاقة الكهربائية. وترغب أنقرة في فتح سوق عفرين أمام أعضاء غرفة التجارة والصناعة التركية، ولا سيما في قطاع البناء نظراً إلى الطلب الكبير على المنازل مع ازدياد المهجّرين إلى عفرين.
لهذه الغاية، دعمت أنقرة تشكيل غرفة تجارةٍ وصناعةٍ تابعةٍ للمجلس المحلي في عفرين، في 11 شباط ٢٠١٩، برئاسة التركماني عبد الناصر حسو المُقرَّب منها. وقد أعلن المجلس تلقّي طلبات الانضمام بشرط أن يكون الاستثمار محصوراً في منطقة عفرين، ويكون للمستثمر حساب في أحد المصارف التركية أو مؤسسة البريد التركية (PTT)، على أن تُمنَح أذونات الدخول والخروج من معبر جنديرس فور افتتاحه رسمياً. ضمّت الغرفة في نهاية حزيران، ٢١٦ عضواً أغلبهم من التجار العرب والتركمان الوافدين إلى عفرين والمقيمين فيها حديثاً، مع العلم أن معظم المُسجَّلين من طبقة التجار الصغيرة، ولا ينتمي أحدٌ منهم إلى طبقة التجار المعروفين أو المستثمرين الكبار.
فضلاً عن ذلك، شجّعت ولاية هاتاي عقد مؤتمر رجال أعمال عفرين لغرفتَي التجارة والصناعة في كلّ من عفرين وهاتاي التركية، في ٢٩ نيسان ٢٠١٩، تحت عنوان “معاً للعمل على بناء سوريا المستقبل”، سعياً إلى رفع التبادل التجاري عبر معبر جنديرس إلى ١٠٠ مليون دولار سنوياً خلال المرحلة المقبلة.
وعلى غرار المعابر في منطقة “درع الفرات”، تجني تركيا ضرائب معبر جنديرس الجديد في عفرين بالدولار الأميركي على غرار باقي المعابر وتبلغ ضرائب المعابر حوالي مليونين دولار شهرياً، وتدفع رواتب العاملين في تلك المناطق بالليرة التركية، ما يشكّل دعماً ولو محدوداً لهذه الأخيرة. كذلك فتحت أنقرة فرعاً لمؤسسة البريد التركية في عفرين لضبط الحوالات المالية، حيث تسلّم المؤسسة الحوالات بالليرة التركية، وإن كانت مُرسَلة بالقطع الأجنبي، ما يساهم في ضخّ العملة الصعبة في الخزينة التركية. ويشمل الدعم التركي المالي أيضاً جوانب مثل قوات الشرطة، والمستشفيات، والتعليم، والإغاثة، لكن من غير الواضح ما إذا كانت أنقرة تنفق على تلك القطاعات من واردات المعابر، أو تتلقّى مساندةً من قطر.
فضلاً عن ذلك، تشجّع أنقرة المستثمرين الأتراك على الاستثمار التجاري عبر فتح سوقٍ جديدةٍ أمامهم، بعد أن كانت عفرين تعتمد أساساً على سوق النظام في حلب. فتركيا كانت حُرمت من سوق عفرين لسنواتٍ بسبب سيطرة وحدات حماية الشعب.
لم يشجّع الوضع الأمني غير المستقرّ على تحوّل عفرين إلى منطقةٍ مُستقطِبةٍ للصناعيين الكبار حتى اليوم، وهذا ما حال دون تأسيس تركيا مناطق صناعية كما فعلت في أعزاز والباب. بيد أن أنقرة تسهم نسبياً بإعادة تأهيل البنى التحتية، على غرار سدّ ميدانكي الذي يزوّد مدينة عفرين ومناطق عدّة مجاورة لها بمياه الشفة، والذي كان تعرّض لبعض التخريب منذ بدء العملية العسكرية في كانون الثاني 2018. هذا وأصلحت تركيا عدداً من الطرق الرئيسة المتضرّرة، خصوصاً طريقا الباسوطة – عفرين وجنديرس – عفرين.
ولا تبدو أنقرة مهتمّةً إطلاقاً بإعادة تشغيل المنشآت الصناعية التي توقّفت عن العمل أو تضرّرت جزئياً بعد العملية العسكرية، فما كان من مالكيها إلا أن عقدوا اتفاقيات حماية (أتاوات) مع الفصائل. الواقع أن تركيا تريد إلغاء اقتصاد عفرين ما قبل العام ٢٠١٨، وبناء شراكاتٍ جديدةً تحت سيطرتها، يكون التجار الأتراك عمادها، فتصبح عفرين سوق تصريفٍ من دون أي تنمية اقتصادية، تسعى أنقرة إلى الحدّ من قدراتها الإنتاجية، ولا سيما في قطاع الزيتون.
وتبقى اقتصادات الحرب من سرقة، ونهب أراض، وإتاوات، وخطف مقابل فدية، محصورةً بقادة الفصائل وشبكاتهم. هؤلاء هم أيضاً تحت السيطرة التركية الكاملة، وإغفال العين عنهم من قبل القوات التركية هو زيادة في تورّطهم، وبالتالي ارتهانهم وتحولّهم الى مرتزقة.
خاتمة
نجحت تركيا في السيطرة على عفرين إلى حدّ كبير خلال عام بعد تدخّلها العسكري، وانتهجت سياسة صارمةً مُحدَّدة المعالم في المنطقة، وذلك عبر مسارات عدّة، أهمّها المسار الأمني الذي تحاول ضبطه عن طريق تقوية الشرطة العسكرية التابعة لها لتكون رقيباً على الفصائل كافة، وعبر شرطةٍ مدنيةٍ تضبط وضع المدنيين. وقد أبعدت أنقرة الوحدات الكردية، وطوّعت فصائل الجيش الوطني، ولم يبقَ مَن يتجرّأ على مخالفتها هناك.
كما أنها فرضت تغييراً ديمغرافياً هادئاً عبر إحلال سكانٍ عربٍ جددٍ من المهجّرين والنازحين محلّ الأكراد المهجّرين، وتحكّمت بالمجالس المحلية وعملية التغيير فيها، من خلال التمثيل غير العادل للمكوّنات العرقية والدينية في المنطقة. وإذ تنتهج تركيا سياسةً اقتصاديةً هدفها ربط المنطقة مباشرةً بالمستثمرين الأتراك، يُتوقَّع أن تبرز شركاتٌ تركيةٌ كبرى في عفرين قريباً، وإن لم يجرِ حتى اللحظة توقيع عقودٍ مع أنقرة أو المجالس المحلية، خصوصاً أن المشاورات لا تزال أوّليةً بعد مؤتمر رجال أعمال عفرين. هذا وعيّنت تركيا أكراداً موالين لها في مناصب الإدارات المدنية والعسكرية، وعمدت إلى تقديم الدعم الإنساني والإغاثي الكبير، إضافةً إلى حفظ المنطقة أمنياً، والحرص على عدم تعرّضها للقصف استناداً إلى التفاهم الروسي التركي. وتعمل تركيا على بلورة سياسة تتريك للمنطقة سريعة ولكن هادئة، بهدف ربطها بها على المدى المتوسط، آخذةً بعين الاعتبار كل الاحتمالات لمستقبل سوريا، فإن اتّجهت سوريا نحو التقسيم، تكون أنقرة قد أخذت حصّتها مسبقاً. كذلك تعمل تركيا على ضمان نفوذٍ كبيرٍ لها داخل سوريا في مرحلة ما بعد الحلّ السياسي. أما دورها في عفرين فيبقى رهن علاقتها بموسكو التي أصبحت هي التحدّي الوحيد في وجه تركيا بعد تمكّنها من ضبط المسارات كافة في عفرين.