تل رفعت السورية خارج الحلم التركي

الكثير من التحليلات السياسية التي نُشرت خلال الفترة الماضية حول الشمال السوري وخاصة ريف حلب الشمالي تماشت مع منطق السيطرة التركية وتوجيهاتها الإعلامية بخصوص تثبيت نقاط استيطانية تركية جديدة في المنطقة تحت مسميات “إنسانية” لم تتطابق أبداً مع الغاية والجوهر.
ولعل أهم المواضيع التي انحسر الحسم فيها لصالح الرؤية التركية الدعائية هو موضوع منطقة تل رفعت السورية التي توّعد أردوغان بالسيطرة عليها خلال خطاب هتافي عنصري في 15 آذار/مارس 2018 إبان الحرب التركية على عفرين السورية، وتوالت التصريحات التركية بعد ذلك في كلّ مناسبة كان يتطلب تهييج بعض مؤيدي أردوغان السوريين ضد الكرد سواء في ريف حلب الشمالي أو شرق الفرات، فلم تكن كلّ تلك التصريحات التركية سوى بمثابة الرسن الذي يجرّ مؤيديه نحو خطط وبرامج تركية ليس للسوريين فيها سوى وقود جثثهم، ومزيد من الكراهية بينهم في الداخل السوري وخارجه.
تل رفعت ومحيطها، التي تتوزع السيطرة عليها عسكرياً وإدارياً بين عدة أطراف (كردية – روسية – إيرانية – النظام السوري) فُرضت عليها الصداقة اللحظية – المصلحية بمواجهة التمدد العسكري والأمني التركي، كانت ضمن البازار التركي – الروسي بعد الاحتلال التركي لعفرين مباشرة، حينها تداولت وسائل الإعلام التركية خطة روسية – تركية لمقايضة تل رفعت مقابل منطقة جسر الشغور في إدلب، ولكن سرعان ما انتشرت قوات النظام بأسلحتها الثقيلة في المنطقة بدعم إيراني ميداني وسياسي واضح في ظل استقواء النظام بوجود عدد كبير من مهجّري عفرين وسكان المنطقة منحه فرصة التثبيت هناك على الرغم من المظالم الكثيرة التي ارتكبها عناصره بحقّ هؤلاء المهجرين.
أما روسيا التي ذهبت عميقاً في الاتفاق مع تركيا لمواجهة القوات الكردية، وخلق ظروف منافسة للتمدد الإيراني، لم تكتفي بفتح الأجواء السورية للطيران الحربي التركي ليكون لاعباً أساسياً في حسم المعركة بين وحدات حماية الشعب والجيش التركي والفصائل السورية المسيّرة من قبل أنقرة في عفرين والتي امتدت نحو شهرين، بل طالبت القوى الكردية هناك وشعب عفرين المهجّر إلى ترك المنطقة والتوجه نحو شرق الفرات، حيث قامت الاستخبارات الروسية حينها بتعليق أعلام الوحدات الكردية على السيارات التي أقلت بعض المدنيين الكرد الهاربين من البطش التركي باتجاه منبج انطلاقاً من حلب وريفها الشمالي لتقوم بعد ذلك بتصوير رتل كبير لسيارات المدنيين مرفوع عليها علم الوحدات، في مشهد أرادت روسيا أن يكون درامياً لمغادرة القوات الكردية المنطقة بمواجهة تعنّت تلك القوات ومهجّري عفرين في التشبث بالمناطق القريبة من عفرين والتي انتزعتها بالدم من داعش في عام 2016.
ما لفت الانتباه أن القوات الروسية كانت تصر دوماً –أكثر من أنقرة- على مغادرة مهجّري عفرين بشكل كامل من المنطقة نحو شرق الفرات، وهو ما اعتبر تماهي روسي مع الخطط التركية في التغيير الديمغرافي وتغيير التركيبة السكانية في عفرين تنفيذاً للاتفاقية الروسية – التركية التي تمّت بموجبها مقايضة غوطة دمشق مع عفرين جغرافياً وسكانياً.
لذا شكلّ تشبث القوات الكردية وأهالي عفرين المهجرين إلى ريف حلب الشمالي وبشكل خاص في تل رفعت عامل حسم لتغيير الخطط، استفاد منها النظام في المرحلة الأولى لتقوية وجوده، ولتعود روسيا إلى الاستفادة منه بعد فترة بمواجهة الاستهداف المباشر لقواعدها في حميميم من قبل الفصائل المسلحة، حينها لم تشعر موسكو بالحرج من العمليات الواسعة للقوات الكردية ضد القواعد التركية في عفرين وإعزاز، وكان شرط إيقاف الهجمات على حميميم يقابله الضغط على القوات الكردية وعرقلة عملياتها في المنطقة لمنح تركيا مزيداً من الراحة لتنفيذ خططها الاستيطانية.
في ظلّ الفشل التركي في تنفيذ اتفاقيات استانا بخصوص سحب مسلحي هيئة تحرير الشام وباقي الفصائل من المنطقة منزوعة السلاح في ادلب وحماة، وتزايد عمليات الاستهداف للقواعد الروسية في حميميم والساحل السوري، لم يكن أمام روسيا والنظام طريق آخر سوى البدء بحملة عسكرية في المنطقة، حيث اشترطت إيران الحصول على الضمان من روسيا بعدم التصعيد في شمال حلب وتل رفعت وكذلك بلدتي نبل والزهراء للتفرغ لمعركة ادلب، لتتسارع العمليات العسكرية بعد لقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف في موسكو، حيث توزعت محاور معركة إدلب بين إيران وروسيا، إيران ستتقدم في ريف حلب الغربي والجنوبي لتصل إلى سراقب، بينما روسيا ستقود المعركة في ريف حماة الشمالي وادلب الجنوبي واللاذقية.
مصادر ميدانية أكدت أن إيران حسمت مسألة تل رفعت بالحفاظ على وضعها الحالي، وبالفعل، منعت روسيا تحليق الطائرات الحربية التركية في الأجواء السورية بعدما دفعت فصائلها السورية المسلحة للهجوم على قريتي مرعناز والمالكية على أطراف عفرين الأسبوع الماضي بعد بيان مقتضب من قبل تلك الفصائل للبدء بمعركة تل رفعت قبل أن تتراجع إلى مواقعها بعد خسارتها الكبيرة في الأرواح إثر اقتصار الدعم التركي بسلاح المدفعية فقط، كما أصدر مركز المصالحة الروسي بياناً لافتاً بخصوص الاشتباكات بعد اجتماع تركي – روسي ميداني في مطار منغ، حذّرت فيها روسيا بشكل غير مباشر أنقرة من استهداف المسلحين المسيّرين من قبلها النظام السوري مرة أخرى في المنطقة، وطالبتها بلجم تلك الفصائل خلال فترة معركتها ضد هيئة تحرير الشام، ليتحول الاتفاق حول تل رفعت من اتفاق روسي – تركي إلى روسي – إيراني كما هو واضح من خلال الخطوات العسكرية التي تتم في الميدان بعيداً عن التكهنات السياسية، في الوقت الذي يسارع النظام إلى إنشاء مراكز لتجنيد الشباب في صفوف جيشه استعداداً لحرب مقبلة تكون التجربة والمعرفة بالجغرافية والتمسك بالأرض والدعم العشائري المحلي عوامل أساسية للحسم فيها.
الموقف الروسي الجديد من قضية تل رفعت هو محصلة اعتقاد يتمثل في أن أي مقايضة جديدة مع تركيا ستجلب لها المتاعب أكثر من الفائدة، وأن الذهاب أكثر في التماهي مع تركيا ستدفع بالمنطقة إلى حرب تركية – إيرانية صريحة لن تبقى بالوكالة كما في السابق، ستربك الوجود الروسي وستدفع بقوى دولية أخرى إلى الدخول في اللعبة في المناطق الخاضعة لروسيا في غرب الفرات، وأن أي توغل تركي جديد سُيعتبر مكسباً للناتو في ظلّ الفشل الروسي في إحداث الفكاك بطريقة مشروعة بين تركيا وأميركا خاصة بعد ما توارد من أنباء عن قرب الاتفاق بين أميركا وتركيا بخصوص المنطقة الآمنة في شرق الفرات.
كما شكلّ الاعتقاد الروسي بأن القواعد التركية المسماة نقاط المراقبة في حلب وحماة وإدلب لم تقدم نموذجاً جيداً لإنهاء الصراع لصالح روسيا يمكن تطبيقه في منطقة تل رفعت، بل كسبت تركيا والفصائل المسلحة من خلالها المزيد من الوقت للململة صفوفها إثر انكساراتها المتتالية في باقي المناطق السورية، ودفعتها إلى بناء قوتها الصاروخية البدائية لتهديد القواعد الروسية وحتى مصالحها في البحر المتوسط، وهو ما حصل خلال الأيام الماضية. أكثر من دليل ميداني أكد على خفض مستوى التنسيق بين روسيا وتركيا في ادلب وحماة خلال الأيام الماضية، حيث تعرضت النقاط التركية في المنطقة إلى هجمات متعمدة من قبل قوات النظام دون ردة فعل واضحة من الجانب التركي والروسي، إضافة إلى غياب التنسيق الواضح في إيصال أرتال التبديل التركية إلى نقاط المراقبة في ظلّ منع الطيران التركي من التحليق لحماية الأرتال التي أضاعت طريقها أكثر من مرة، على تركيا، وليست روسيا كما يبدو، أن لا تنسى بأنها تجاوزت خطوطها الحمراء عندما سمحت لهيئة تحرير الشام بالسيطرة الكاملة على إدلب وريف حلب الغربي، وهددت بشكل علني الوجود العسكري الروسي، وهو أهم سبب يدفع المراقبين إلى الاعتقاد بأن الحرب في ادلب هي روسية تدعمها إيران مقابل توافقات جديدة لصالحها في شمال حلب وجنوبها.
على العموم، تكمن أهمية منطقة تل رفعت العسكرية باعتبارها الخطّ الدفاعي الأول لحلب، ونقطة الوصل بين مناطق درع الفرات وإدلب، والمحيط الآمن لبلدتي نبل والزهراء، وبوابة إعادة السيطرة مجدداً على عفرين وإعزاز والباب، وأي سيطرة تركية عليها ستشكل خطوة أمنية وعسكرية بالغة الخطورة على حلب وإدلب وصولاً إلى الداخل السوري، حيث لا يمكن لروسيا أن تسد ثغرة في ادلب وتفتح ثغرات مماثلة أكثر خطورة في ريف حلب الشمالي والجنوبي، في ظلّ تقدمها اللافت في ريفي حماة وإدلب والصمت الدولي على انتهاكاتها وجرائمها بحق المدنيين هناك، حيث يبدو أنه لا حاجة روسية ماسّة كما في السابق لإرضاء تركيا في جميع المواقف.
كل ما فعلته وستفعله روسيا بخصوص تل رفعت وريف حلب الشمالي هو أن تمنح لأردوغان العديد من الفرص الدعائية الأخرى للتأثير على الرأي العام الداخلي التركي والسوري المؤيد له، وبروزها إلى الواجهة مرة أخرى سيعتمد على حالة التقدم التي ستحققها قوات النظام وروسيا في إدلب وحماة، حيث لم يعد بإمكان تركيا الوصول إليها سوى بالحرب، بينما ستتحين إيران والنظام السوري الفرصة المناسبة لكسر الجمود وإيجاد فجوة مناسبة في منطقتي إعزاز والباب في حال نجاح الحملة على ادلب والوصول إلى أهدافها، وتحشيدات النظام الضخمة التي تتم بصمت في محيط تلك المناطق بالتوازي مع معركة إدلب لا يمكن فهمها سوى أنها تمهيد لما هو أسوأ على صعيد العلاقات التركية مع القوى الأخرى الفاعلة في سوريا.
المصدر: فرهاد الشامي

-------------------------------

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا عن طريق إرسال كتاباتكم عبر البريد : vdcnsy@gmail.com

ملاحظاتك: اقترح تصحيحاً - وثق بنفسك - قاعدة بيانات

تابعنا : تويتر - تلغرام - فيسبوك