ما بين “المنطقة العازلة” التي طرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فكرة إنشائها على الحدود التركية السورية، وبين “المنطقة الآمنة” التي أرادها الرئيس التركي رجب أردوغان، مسافة شاسعة من التحالفات والمصالح والأهواء والخطط الاستعمارية الواضحة والمؤجلة.
خلال حملته الانتخابية، في 2016، طرح أردوغان فكرة إنشاء منطقة آمنة لحماية الفارين من سورية، على الحدود التركية، تتولى قواته السيطرة عليها وتأمينها، فيما طرح ترامب نفس الفكرة لنفس المنطقة تحت مسمى “منطقة عازلة”، ليتلقفها أردوغان بحماس شديد، منتقدًا في الوقت نفسه السماح بعبور ملايين السوريين إلى أمريكا وأوروبا عبر بلاده.
صحيفة حرييت التركية في سبتمبر 2018، نقلت عن أردوغان قوله، إن بلاده ستتخذ إجراء ضد شرقي نهر الفرات في سورية، وستفرض مناطق آمِنة مثلما فعلت في شمال غرب سورية.
لم يتحمس حينها المجتمع الدولي للاقتراح، لكن الرئيس الأمريكي دفع القضية إلى الواجهة من جديد أواخر العام الماضي تزامنا مع الحديث عن انحسار تنظيم داعش في الأراضي السورية، ورغبته في سحب قوات بلاده، وقال إن المنطقة العازلة ستكون بعمق 32 كيلومترا دون تقديم المزيد من التفاصيل.
وعن أهداف تلك المنطقة قال مسؤولون أمريكيون إنها لضمان عدم عودة داعش والحيلولة دون الاقتتال التركي الكردي، وهذا يفسر إصرار ترامب على مصطلح “المنطقة العازلة” وليس “المنطقة الآمنة”، حيث إن الأول يعني عزل طرفين متحاربين عن بعضهما، وهو ما ينطبق على الحالة بين تركيا والأكراد.
نقطة الخلاف
تقارير إعلامية كشفت اقتراح الرئيس الأمريكي على الدول الغربية والعربية الحليفة تقديم المساعدة في إنشاء المنطقة العازلة، وهنا برزت نقطة الخلاف بين أمريكا وتركيا، فالأخيرة لا تريد سواها مسيطرًا على “المنطقة الآمنة” كما يحب أردوغان تسميتها، ويقول إن الهدف من إنشاء هذه المنطقة تأمين النازحين من هجمات النظام وحلفائه.
الأكراد الذين شعروا للوهلة الأولى بطعنة في الظهر من الحليف الأمريكي، عقب إعلان ترامب قرار الانسحاب من سورية، أخذوا وقتهم لتقبل رغبة ترامب بشرط أن لا تكون تركيا المسيطرة وحدها على المنطقة، طارحين إشراف الأمم المتحدة على المنطقة الفاصلة بينهم وبين تركيا.
أردوغان يبرر حتمية انفراد بلاده بالسيطرة على المنطقة الآمنة، بأنها تأتي مع حدود تركيا، لكن ما يطمح إليه ترامب مكلف عسكريًا وماديًا، وهو ما لا تقدر تركيا التي يعاني اقتصادها تدهورًا حادًا على توفيره بمفردها، كما لا تثق الولايات المتحدة في حلفاء تركيا من الجماعات الجهادية المسلحة المتواجدة في الشمال السوري والذين تستخدمهم أنقرة لبسط نفوذها وتقليص حجم السيطرة الكردية، حيث تسيطر عبرهم الآن على منطقة عفرين.
غير أن روسيا اللاعب الرئيس في سورية، لاتزال ترفض الطرح الأمريكي بشأن شمال سورية، وهو ما يعقد تنفيذه، واقترحت تفعيل اتفاق أضنة، كبديل للفكرة، وهي الاتفاقية الموقعة عام 1998 بين دمشق وأنقرة، وتسمح دخول تركيا الأراضي السورية عندما تواجه تهديدات.
واعتبر سفير سورية السابق في تركيا نضال قبلان، أن استئناف روسيا مناقشة اتفاق أضنة بشأن مكافحة الإرهاب بين سورية وتركيا، يهدف لاحتواء خطط رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان التوسعية.
قبلان أكد في حديث صحافي أن أي تواجد عسكري تركي في سورية، يسقط تلقائياً لو استطاعت روسيا والنظام السوري ضمان أمن الحدود، وأن اتفاق أضنة الموقع مع تركيا عام 1998، كان حصراً حول مكافحة الإرهاب، ولا علاقة له بلواء إسكندرون السليب.
وأشار قبلان إلى أن تركيا تحاول فعل أي شيء لصالح أجنداتها، مبيناً أن ما حصل في جرابلس ومنبج وشرق الفرات، هو دليل كافٍ لإثبات أطماعها التوسعية.
حلب ودمشق
مراقبون يرون أن الإصرار التركي على هيمنة أنقرة على المنطقة الآمنة في الشمال السوري، يأتي تحقيقا لأجندة ضم لمناطق في شمال سورية، مشيرين إلى أن تركيا لا تستطيع بمفردها السيطرة على هذه المنطقة دون توافق دولي، لا يبدو قريبا.
ويقول الخبير في الشؤون التركية، خورشيد دلي، إنه لدى أنقرة أجندة في الشمال السوري، فأيديولوجية أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا تعتبر المناطق الموجودة في الشمال السوري “جزءا من الأراضي التي اقتطعت من تركيا إثر معاهدة لوزان، بعد الحرب العالمية الأولى”.
وأشار دلي إلى أن أنقرة تعتبر المنطقة الآمنة في سورية، “مدخلا لتحقيق هذه الأجندة”، لذلك فهي ترفض وجود القوات الدولية، التي سيحطم وجودها الأجندة التركية عبر الاعتراف بالقوى المحلية الموجودة هناك.
واعتبر أن هناك رفضا دوليا لمخطط السيطرة التركي على المنطقة الآمنة في سورية، قائلا إن القرار الأمريكي بالإبقاء على 400 جندي في سورية، هو بمثابة “رد غير مباشر” على الخطط التركية، كما أن روسيا تحدثت عن نشر قوات لها هناك، مما يوسع دائرة الرفض الدولية للمساعي التركية.
تصريح مثير لوزير الداخلية التركي سليمان صوليو مؤخرًا يكشف حقيقة الأطماع الخفية لتركيا في سورية، والتي يحلم أردوغان بتحقيقها من وراء إقامة “المنطقة الآمنة”، ويؤكد توقعات الخبراء والمراقبين سالفة الذكر، حيث قال خلال إحدى الفعاليات الدعائية للانتخابات المحليات: “دمشق كانت لنا، حلب كانت لنا، وكانتا ضمن حدود أمتنا التي أعلنها المجلس العمومي العثماني”.
وحلب القريبة من العاصمة السورية دمشق ومن إدلب يبدو أنهما باتا في مقدمة قائمة الإرث العثماني التي يحلم به إردوغان، ويتواجد في بعض أحياء حلب الغربية فصائل مختلفة الانتمائات من المعارضة المسلحة، ومنذ الشهر الثاني من هذا العام يتم استهدافها بجانب إدلب من قبل قوات النظام وروسيا، خشية من زحف المسلحين نحو العاصمة دمشق.
وزير داخلية تركيا الذي يشغل منصب نائب رئيس حزب العدالة والتنمية، يكشف أن قوات بلاده تسيطر في الوقت الحالي على حلب والعاصمة دمشق بدعم من ميليشيات عسكرية سورية.
مشروع التمدد
الحكومة التركية لعبت دورا بالغ الخطورة والأهمية في دعم الجماعات المسلحة في سورية بالمال والسلاح، وحولت الحراك الداخلي إلى “حرب أهلية”، مزقت الجغرافيا السورية إلى مناطق نفوذ مُتناحرة، وفقا للعديد من التقارير الدولية.
وسعت أنقرة من وراء ذلك إجبار المجتمع الدولي على إصدار قرار يسمح لها بالسيطرة على المناطق السورية، تحت ذريعة إقامة “منطقة آمنة” للسوريين من هجمات النظام، بما فيها حلب ذاتها.
وبدأ التحرك التركي بشكل مباشر في أغسطس عام 2016، عبر عملية عسكرية سميت بـ”درع الفرات”، تحت حجة محاربة داعش، وتمكنت فيها تركيا من السيطرة على بلدات سورية تمتد من (جرابلس والباب إلى اعزاز)، وعززت أنقرة خطتها في مارس عام 2018، عبر عملية جديدة سميت بـ”غصن الزيتون”، استهدفت السيطرة على منطقة (عفرين) الكُردية السورية.
وخلال العام الماضي حاول إردوغان زيادة رقعة الإقليم المسيطر عليه في شمال سورية، واضعًا مدينة منبج التي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية في خطته وجهز آلاف المسلحين من عناصر “الجيش الحر” و”الجيش الوطني”، لاحتلالها وضمها أيضا إلى سلسلة مناطق سيطرته في سورية.
الفصائل المسلحة في المناطق المسيطرين عليها بالشمال السوري تطبق سياسة إردوغان في تجريف الهوية العربية عن طريق عمليات توطين التركمان وإحلال العرب بدلا عن الأكراد، فيما تدرس اللغة التركية بالمدارس بجانب العربية، وترتفع الأعلام التركية على كل المؤسسات التي تقدم خدمات لسكان تلك المناطق.
تكرار تجربة الإسكندرون
الإعلامي الكردي أحمد قطمة عبر في مقال له بموقع حفريات عن مخاوفه من تكرار سيناريو لواء الإسكندرون بالمناطق المسيطر عليها في سورية من قبل تركيا، ويقول: “تبعث الجهود التركية في منبج ومناطق درع الفرات وعفرين المزيد من المخاوف على مستقبل شمال غرب سورية، خشية ضمها لتركيا تحت حجج واهية مشابهة لسيناريو سلب لواء الإسكندرون، الذي تم سلخه عن الوطن السوري بحجة الاستفتاء في العام 1939”.
لواء الإسكندرون الذي يبلغ مساحته 4800 كيلومتر مربع وكانت تسكنه أغلبية عربية، احتلته قوات تركية عام 1939، وأعلنت ضمه إلى الجمهورية التركية تحت اسم “هتاي”، وتضم مدينة الإسكندرونة أهم الموانئ البحرية التي تعتمد عليها تركيا حاليا لتصدير النفط.
تركيا تقول إن هناك وثائق عثمانية تثبت تبعية مدينتي جرابلس ومنبج في محافظة حلب و15 قرية في إدلب، ومقابر تعود لقادة عثمانيين بشمال سورية.
موقع المونيتور الأمريكي أكد أن هدف إردوغان الأول من السيطرة على المنطقة الآمنة هو احتلال شمال سورية، والتأسيس لوجود عسكري قوي في المنطقة لمحاربة وحدات حماية الشعب الكردية وطرد الأكراد المتمركزين هناك بدعم من الولايات المتحدة.
الكاتب الأمريكي نيكولا نورنبرج، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط قال في مقال نشرته مجلة “ذي ناشيونال إنترست” الأمريكية، إن ضم سورية الشمالية يتلاءم مع عدد من طموحات إردوغان، وتطلعات الجيش التركي في الانتشار. وأن الجيش التركي يسعى إلى ضم أراضي الميليشيات الكردية، التي تعتبرها ملاذًا رئيسا لحزب العمال الكردستاني.
وأوضح الكاتب أن لدى إردوغان أهدافًا شخصية، حيث سيسمح الاستيلاء على قطعة من الأراضي تمتد من حلب إلى الرقة للرئيس التركي أخيرًا بالتفاخر بإنجاز لم يتمكن أتاتورك من تحقيقه. في الواقع، خفض أتاتورك بحكمة خسائره في سورية والعراق من خلال معاهدة لوزان لتأمين الحدود التي كان يملكها من دون توسيع. وقد بنى أردوغان مسيرته السياسية ضمنًا وبصورة علنية على ادعاء أتاتورك.
ويشكل دمج شمال سورية انتصارًا لأردوغان على أتاتورك، وسيدعم السرد العثماني الجديد الذي تبناه طوال فترة وجوده على المسرح الوطني. ومن المهم أيضًا أن نلاحظ أن الاستيلاء على هذه الأرض يمكن أن يدعم جهوده لكسب ود التركيبة السكانية العربية السورية المتزايدة، التي هي في طريقها إلى أن تصبح كتلة التصويت القوية، وفقًا لما أورده الكاتب.
وطالب الكاتب المجتمع الدولي، لا سيما حلف الناتو، بألا يقلل من شأن طموح أردوغان، واصفًا إياه بأنه يمثل صورة للبراغماتية السياسية، ويسعى لاستعادة الأراضي العثمانية المفقودة.
المصدر