مدينة عفرين ذات الغالبية الكردية والتي دخلت عامها الثاني تحت سيطرة الدولة التركية بالتعاون مع المليشيات السورية المدعومة من قبلها، أصبحت حقلاً لتنفيذ السياسات العنصرية تحت يافطة” الهندسة الاجتماعية السكانية” الهادفة إلى خلق هوية قومية متجانسة.
من المعلوم، أنّ الخطاب التركي الرسمي ضدّ الكرد في تركيا وسوريا متكئة على فرضية الأمن القومي التركي في ظل قانون الطوارئ الذي يعصف بالبلاد. فمنذ “الانقلاب الفاشل” عام 2016 والذي وصفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حينها بأنه (هدية من الله)، تستثمر أنقرة مفهوم “الأمن القومي” من أجل استدامة حالة الطوارئ بغرض سحق كل المعارضين والمنافسين السياسيين.
وهذه الإشكالية فسّرها المنظّر القانوني والسياسي الألماني كارل شميت، حينما شدّد على إمكانية الحكومات ذات السيادة المطلقة تجاوز سيادة القانون وانتهاكها وحتى إلغائها باسم المصلحة العامة أو الأمن القومي، وهي الجهة الوحيدة التي لها سلطة تحديد حالة الاستثناء التي بموجبها يتم تعطيل مبدأ سيادة القانون لأمد غير محدد.
منظمة “هيومن رايتس واتش” في تقريرها السنوي الأخير بصدد تركيا عام 2018، أدانت آثار سوء استخدام السلطة التنفيذية تحت قبضة أردوغان في ظلّ النظام الرئاسي الجديد، وذلك إبّان تطهير المؤسسات القضائية وقمع الحريات وشلّ سلطة البرلمان والزج بالخصوم السياسيين في السجون، ومن ثمّ، تحويل البلاد برمتها إلى سجن قاتم لكل من يتفوه بكلمة تعارض المنهج الشمولي القائم. وبناء على هذه المعطيات، يبدو أنه من غير المنطقي تحليل الانتهاكات المستمرة في عفرين وفق نظرية” الأمن السيادي”.
بُنية خطاب الدولة القومية المتشددة منذ قرابة قرن بكامله لم تزحزح مقاربتها حيال نظرية ” الهندسة الاجتماعية” ضدّ الكرد، حيث لم تفلح التيارات السياسية الرسمية في كسر هذه الصلابة المتجذرة في بنية خطاب الدولة القومية. كان الاستثناء الوحيد هو الرئيس التركي السابق تورغت أوزال الذي اغتيل إثر ظروف غامضة في خضمّ المفاوضات السياسية مع عبد الله أوجلان بداية التسعينيات من القرن المنصرم.
أراد أوزال تجاوز هذه المعضلة التاريخية من خلال استحضار مشروع ” الميثاق المليّ” الذي كان يسعى إلى تطبيقه عبر التحالف مع الكرد في شمال العراق وتركيا وربما سوريا من خلال ما يسمى” الاستقلال الذاتي”. في حين يتداول أردوغان منذ عام 2016 وثيقة” الميثاق المليّ من منطلق توسيع الحدود القومية التركية، والسيطرة على جغرافية الكرد في سوريا والعراق، وهو بذلك يذهب بخلاف تصور أوزال لتفسير وثيقة الميثاق المليّ إبّان سقوط الدولة العثمانية، نظراً لاستخدامه سياسة الترحيل القسري للكرد من عفرين، واحلال” المجموعات السنيَة العربية المتطرفة” محلّه، تمهيداً لتوسيع هذه المقاربة لتشمل شرقي الفرات بهدف تحطيم الإدارة الذاتية المستندة على المساواة الجنسية، وتعايش المكونات، والديمقراطية المحلية، بذريعة إنشاء المنطقة الأمنة.
من الواضح أن وقوع عفرين تحت براثن الاحتلال التركي، تعتبر خطوة أولية في تطبيق الميثاق المليّ خارج حدود سيادة الدولة التركية، ومنذ هيمنة سلطة الاحتلال التركي وسيطرتها على جغرافية عفرين، بدأت تنفيذ منهجية” السياسة السكانية والترحيل القسري” عبر تحطيم هوية السكان المحليين، وتوظيف آلية الترحيل القسري، وتوطين المجموعات العربية السورية السنّية تحت غطاء إعادة إسكان اللاجئين والنازحين.
عملياً، وبغرض تنفيذ هذه السياسة، تستخدم الحكومة التركية، عاملين أساسيين وفق لما توثقه الجهات الدولية والمحلية نطاق الانتهاكات الممارسة يومياً:
أولاً: تجنيد مجموعات ليست تركية، غالبيتهم ينحدرون من المليشيات العربية السنيَة إضافة إلى الجنسيات الأجنبية المتطرفة القادمة من وسط آسيا. جذور هذا التكتيك تعود إلى فترة انهيار الإمبراطورية العثمانية وبداية تشكل الدولة التركية الحديثة على قاعدة تكوين دولة قومية وفق الهندسة الاجتماعية، وأردوغان ليس شاذاً عن هذه القاعدة، حيث يهدف إلى تحقيق هوية متجانسة ” قومية واحدة، لغة واحدة، دين واحد، علم واحد”.
ثانياً: تطابقاً مع العامل الأول يجري بالتوازي تنفيذ تغير هوية السكان الكرد المحليين، متجسداً في إزالة مؤسسات اللغة الكردية، وتحويلها إلى تعليم اللغة التركية عوضاً عنها، فضلاً عن تدمير المخزون الثقافي المحلي لصالح الثقافة التركية الرسمية من خلال تحطيم الآثار، وتغير الرموز الكردية، وتفجير المقابر، ودفن الذاكرة المحلية.
وعليه، تسعى الدولة التركية مع المليشيات المرافقة لها إلى القضاء على المؤسسات الثقافية المحلية، والاقتصادية والتعليمية والسياسية المحلية التي تعكس ثقافة سكان الكرد في عفرين. لربما من دون غياب دولة القانون في تركيا، لمَا تجرأت الدولة التركية في تنفيذ هذه السياسيات القائمة على الصّهر والتغير الديمغرافي في عفرين.
لقد سعى الكرد المضطهدين في عفرين دون جدوى إلى هذه اللحظة في البحث عن آلية قانونية لردع هذه الجرائم اليومية المنتهكة بحقهم، وكأن واقع حال الكرد السوريين في ظلّ هذه الحالات من الاستثناءات القمعية هو شبيه بـ”هومو ساكر” وهو مصطلح قانوني روماني يطلق على الشخص الذي يتعرض للتطهير من المجتمع الأوسع ويُحرم من حقوقه وواجباته القانونية والاجتماعية والأخلاقية.
لأسباب لا يمكن تفسيرها عقلانياً، يبدو أن الكرد في سوريا قد استبعدوا من إطار شرعية حقوق الإنسان والحماية القانونية الدولية في القرن الحادي والعشرون.