قال لي صديقي الناشط السوري إن أسرته أرادت الانتقال من مدينة الباب في الشمال إلى مدينة حلب مركز المنطقة، لكنها لم تتمكن رغم أن المسافة أقل من 50 كيلومتراً. عندما استوضحته عن المانع أفاد بأنه نتيجة لخضوع المنطقة للسيطرة العسكرية التركية، ويجب التوجه أولاً إلى الداخل التركي؛ إلى مدينة كلِّس، للحصول من الحاكم العسكري التركي على إذن انتقال داخل الأراضي السورية (…)، ولأن الهواجس والمخاوف كبيرة حيال أداء أجهزة الأمن التركية، فضّلت الأسرة التريث. إنها مجرد عيّنة من ممارسات يومية ترمي لربط الشمال السوري بالإدارة التركية، لكنها تصبح فظة جداً في عفرين التي تم اقتلاع أهلها وتشريدهم بعد نهب منازلهم وثرواتهم البسيطة والسيطرة على ممتلكاتهم وإحلال موالين مكانهم، وكذلك السيطرة على مواسم الزيتون وتصدير زيت عفرين الشهير إلى أوروبا بزعم أنه زيت تركي. يضيف بألم أن ما يجري على الأرض إغراق المناطق الكردية بالموالين وتتريك كل الشمال السوري حيث لا حدود للأطماع التركية.
قبل المقايضات مع روسيا التي أتاحت لتركيا التدخل في الشمال السوري ثم في مرحلة ثانية اجتياح عفرين، كان مطلب المنطقة الآمنة الحلم الذي راود الحكام الأتراك منذ عام 2011؛ أي مباشرة بعد الأشهر الأولى من اندلاع الانتفاضة الشعبية في سوريا. كانت تركيا تعتقد أنه مع بدء تدفق اللاجئين سيتحرك العالم؛ أميركا وأوروبا والأمم المتحدة لتوفير مستلزمات إنشاء هذه المنطقة الآمنة، داخل حدود سوريا وعلى طول المنطقة الحدودية مع تركيا، لإيواء الهاربين من جحيم المقتلة السورية. كانت كبيرة الأحلام التركية لأن هذه المنطقة لو نشأت لشكّلت رأس جسر لتلعب أنقرة دوراً حاسماً في مسار الأزمة السورية، مما كان سيقربها بسرعة لوضع اليد على جزء كبير من الكعكة السورية. ضاعت الفرصة لأنها لم تكن في أولويات الإدارة الأميركية آنذاك، ومن دون أميركا لا إمكانية تركية ولا أوروبية لتنفيذ هذا الهدف، رغم أن ظاهره مع انخراط كثيرين لتحقيقه، كان توفير ملاذٍ آمن للسوريين في سوريا وبإشراف الأمم المتحدة.
مع تغريدة الرئيس ترمب عن المنطقة الآمنة بعمق 20 ميلاً وكيف وبمن ستنشأ دون التوقف عند مصير المدن الكردية الحدودية مثل القامشلي وكوباني وعامودا وسواها… عاد الرئيس إردوغان يعيش أحلام اليقظة، مع اقتراب بلاده من إمكانية تحقيق حلم الدخول إلى شرق الفرات لاستهداف «وحدات حماية الشعب» الكردية، وتحطيم الإدارة المستقلة المنتخبة لإنهاء كل إمكانية لإقامة حكم ذاتي، وتشتيت الكثافة الكردية، تحت شعار منع أي هجوم مستقبلي ضد تركيا. وفي جعبة أنقرة، بعدما أعلن إردوغان النية لإعادة 4 ملايين لاجئ، إطلاق ورشة لإعمار المنازل والبنى التحتية يدفع الأوروبيون فاتورتها مما سيساهم في إعادة تنشيط القطاع الخاص التركي؛ وهكذا تحلُّ تركيا جانباً من أزمتها الاقتصادية. وهذا المنحى لو تحقق فسيتيح لتركيا تعميم سياسة التتريك التي تطال كل مظاهر الحياة، من تغيير أسماء القرى والبلدات والشوارع، إلى مناهج التعليم والربط الوظيفي والاقتصادي، مما سيعني جعل الشمال السوري مجرد امتداد جغرافي تركي داخل سوريا يُدار من تركيا، والرهان على الوقت لانتزاع لواء إسكندرون ثانٍ وثالث.
ومع الهلع الذي أصاب المنطقة لأن جرح عفرين لم يندمل، ترددت معطيات عن بدء الجموع الكردية حفر الخنادق للدفاع والحماية، فكان تهديد رئيس أركان الجيش التركي بأن جيشه «سيدفن هؤلاء في هذه الخنادق» (!!) وهذا استفز الأميركيين الذين طالبوا تركيا بالتعهد بحماية الأكراد الحلفاء الذين وقع على عاتقهم أشرس قتال لإلحاق الهزيمة بإرهابيي «داعش».
كشف الجدل التركي – الأميركي حول التعامل مع الوضع الكردي، وإمكانات أنقرة في ملاحقة إرهابيي «داعش»، عن وجود صعوبات لدى تركيا التي تحتاج لدعم مادي لوجيستي كبير ودعم جوي كذلك.
في المقابل لم يعترض الأكراد على المنطقة الآمنة، التي تصوروا أنها يجب أن تحمي كل الأعراق السورية في شرق الفرات، على أن تكون تحت حماية وإشراف دوليين، وهذا ما ترفضه تركيا بشدة، لأنه يؤمن التواصل بين أكراد سوريا وتركيا والعراق وإيران، وهؤلاء أمة مقاتلة يزيد عددها على 40 مليون إنسان يقطنون أراضي متصلة بعضها ببعض ومقسمة بين 4 دول… وهذا التواصل بالنسبة لأنقرة يمثل تحدياً وجودياً، وليس سراً أن النظام التركي الذي يزج بنواب أكراد في سجونه بتهم جوفاء سيسعى عسكرياً لاقتلاع ما يعدّه خطراً داهماً.
مادياً؛ يواجه حلم تركيا العثرات، وتحققه يتطلب من جهة توفير الدعم المادي الغربي الكبير، وهو غير متوفر، ومن الجهة الثانية الضوء الأخضر من الجانب الروسي. موسكو نظرت لهذا المشروع بعين الريبة، ودعت فوراً لتسليم المنطقة للنظام السوري، وتحركت لإطلاق الحوار بين دمشق و«وحدات حماية الشعب» و«قوات سوريا الديمقراطية». تنطلق موسكو من خلفية مفادها بأن قيام المنطقة الآمنة كما طُرحت، سيشكل مأزقاً لها، يهدد كل إنجازاتها ورهاناتها، لأنها ستشاهد بأم العين تقسيماً جديداً لسوريا يمنح أنقرة السيطرة على نحو 45 في المائة من الأراضي السورية ونصف السكان والجزء الأكبر من الثروة: النفط والغاز والمياه والإنتاج الزراعي.
حمل إردوغان مشروع المنطقة الآمنة إلى موسكو حيث كانت المفاجأة بانتظاره عندما اقترح بوتين تفعيل «اتفاق أضنة» لعام 1998، الذي يتيح للجيش التركي، إذا فشل الجانب السوري في ضبط الحدود، التدخل بعمق 5 كيلومترات لضمان الأمن لتركيا. من وجهة النظر الروسية تجديدُ الاتفاق عادلٌ للجهتين، لأنه بمثابة قاعدة قانونية ويمنح تركيا الأمن في المنطقة الحدودية، ويضمن سيطرة النظام السوري على كل الأراضي السورية، ووضعه محل التطبيق يفترض صيغة جديدة لمباحثات تركية – سورية، تتجاوز ما كشفه الوزير أوغلو بقوله إن الاتصالات بين البلدين متقدمة ونقطة الخلاف الوحيدة تتعلق بدور بشار الأسد ومصيره!! وفي الكواليس إغراءات روسية لأنقرة بدور في السلطة السورية لأنصارها، من جهات «معارضة» تتبع مباشرة الإدارة التركية، وشكلت الواجهة للتدخل العسكري التركي، وهي خليط من متسلقين و«إخوان مسلمين»، باتوا من حملة الجنسية التركية وارتبطوا آيديولوجياً بالنظام التركي ويروجون لأطماعه.
ربما يكون الخطأ قد بدأ بإعلان قرار الانسحاب ثم بدء البحث عن صيغة لاستبدال شريكٍ آخر بالقوات الأميركية، يقول الموفد الأميركي السابق السفير مكفورك إنها «خطة غير قابلة للتطبيق؛ فتركيا لا تملك وسائل تأدية هذا الدور»، وهذا ما تعرفه موسكو جيداً التي تضغط لتفعيل «اتفاق أضنة» وتحويله إلى أساس لتسوية الوضع في الشمال السوري وتشريع العلاقات بين أنقرة ودمشق، وفق ما رسمه الناطق الرئاسي الروسي بيسكوف؛ وهو أن «العمليات التركية يجب ألا تؤدي إلى ظهور كيانات إقليمية شبه منفصلة، وألا تُنتهك وحدة الأراضي السورية».
سيمر كثير من الوقت قبل أن تبلور موسكو صيغة ترضي واشنطن وأنقرة، وحتى ذلك الوقت تستمر روسيا شكلياً في الإمساك بالعصى من الوسط.
حنا صالح\كاتب لبناني
-------------------------------
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا عن طريق إرسال كتاباتكم عبر البريد : vdcnsy@gmail.com
ملاحظاتك: اقترح تصحيحاً - وثق بنفسك - قاعدة بيانات