يندد الخبراء الأميركيون والأجانب بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب قواته من سوريا ويصفونه بأنّه كارثة. إنّه قرار سيئ على الأرجح، وستظهر الأيام ذلك، لكنه ليس بكارثة، بل إنّ رحيل وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس عن منصبه هو ما ينذر بالكارثة الحقيقية – ألا وهي صعود أولئك الأكثر توافقا مع نزعة ترامب لاتخاذ المواقف الفردية. فصعود هؤلاء سيؤثر على العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا أكثر من الإعلان المفاجئ الذي طال انتظاره لقرار انسحاب القوات الأميركية من سوريا.
بادئ ذي بدئ، هناك بعض المصطلحات التي يجب تعريفها، وخطاب الاستقالة المصاغ بعناية يجب أخذه في الاعتبار كونه يكشف الكثير من الأمور عند قراءته بتمعن.
داخل مجتمع الأمن القومي الأميركي، ثمة الكثير من وجهات النظر بشأن الطريقة التي ينبغي للولايات المتحدة أن تتعامل بها مع الآخرين لتعزيز أمن البلاد. وبصفة عامة، هناك الكثير من أمثال ماتيس أو الجنرال ديفيد بترايوس (المتقاعد)، بناة التحالفات الذين يقدرون الحلفاء وشركاء الائتلاف لإسهاماتهم الخاصة في الأمن الجماعي. إنّهم يدركون، على حد تعبير ونستون تشرشل، أن الشيء الوحيد الأكثر صعوبة في خوض حروب بجانب كثير من الحلفاء هو خوض حرب دون أي منهم.
أما أولئك الذين يؤثرون المواقف الأحادية أمثال مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون ومستشار السياسات ستيفن ميلر (وهما ليسا من الانعزاليين بالمعنى الدقيق للكلمة) فيرون أنّ التحالفات والائتلافات تقيد حرية عمل أقوى جيش وأكبر قوة اقتصادية في العالم.
إنّهم مقتنعون بأنّ الولايات المتحدة تستطيع الاستغناء عن الحلفاء وشركاء الائتلافات باستغلال قوتها الاقتصادية في حث الدول الأخرى أو إجبارها على اتباع واشنطن. كما يتجنبون المشاركة في المؤسسات المتعددة الأطراف، التي يدركون أنّها تقلص نفوذ الولايات المتحدة بطريقة غير موجودة في الترتيبات الثنائية.
ثمة صراع مستمر في البيت الأبيض تحت رئاسة ترامب بين هذين الفريقين. ويشير خطاب استقالة ماتيس، أحد أنصار التحالفات، بوضوح إلى أنّ أولئك الأكثر توافقا مع نهج ترامب الفردي قد حلوا محله.
على مدى عامين، عكف ماتيس على إبقاء الولايات المتحدة منخرطة مع الحلفاء والشركاء لتعزيز الأمن القومي الأميركي. ويؤذن رحيل وزير الدفاع ببداية عهد يتمتع فيه ترامب بحرية أكبر في ممارسة سياساته الخاصة بالعلاقات الخارجية. ما من شك أنّ ماتيس يقدر أهمية التحالفات والشراكات لما تعود به من منافع على الولايات المتحدة، لا بسبب رؤية مناصرة للعولمة تدعو لعالم بلا حدود دون أي اعتبار للسيادة الوطنية. هو يقدّر قيمة تحالفات الدول المتشابهة في مواقفها لأنّه يعلم أنّ التعاون في تلك الائتلافات يعزز أمن بلاده. ومن ثم، فإنّ تشكيل التحالفات في عالم محفوف بالمخاطر يمثل له واجبا وطنيا.
بالطبع، يفترض معظم بناة التحالفات أنّ الولايات المتحدة يجب أن تتولى زمام القيادة والمبادرة، في ضوء مصالحها الأمنية العالمية ومواردها الاقتصادية وقدراتها العسكرية. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ مثل هذا الافتراض بالقيادة لا يعني ضمنا عدم احترام الحلفاء والشركاء أو قبول تقييد هؤلاء الشركاء لحرية العمل الأميركية.
فعلى سبيل المثال، شكل الرئيس الأميركي جورج دبليو إتش بوش تحالفا يضم دولا عربية لتحرير الكويت. لم يكن قراره بإنهاء القتال قبل السيطرة على بغداد دليلاً على قيود فرضها آخرون، بل كان دليلاً على قيادة إتش دبليو بوش في تحديد أنّ هدف التحالف وهو تحرير الكويت قد تحقق، وتغيير النظام من شأنه أن يفتح صندوق شرور من العواقب التي لا يمكن التنبؤ بها.
لم يسمح ترامب للقوات الأميركية بالعمل مع أطراف أخرى في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية ألا طالما كان يرى تهديدا يشكله التنظيم على وطنه. واقتناعاً منه بأنّه يمكن للولايات المتحدة تأمين حدودها بفرض قيود على السفر واستخدام تقنيات أمنية معززة وبناء حواجز على طول الحدود الأميركية، لم يعد يرى حاجة لاستمرار الولايات المتحدة في مواجهة الأخطار التي تهدد الآخرين. والهجمات المستوحاة من نهج تنظيم الدولة الإسلامية التي تقع في أوروبا (والتي يعزوها ترامب إلى سياسات الإتحاد الأوروبي المتحررة بشأن اللاجئين والمهاجرين) لا تشكل مصدر قلق له – فليتولى الآخرون حماية أنفسهم كما تحمي الولايات المتحدة نفسها.
وعلى عكس بوش، الذي تفهم ضرورة الوقوف في وجه العدوان السافر عند امتلاك الوسائل اللازمة لمواجهته، لا يدرك ترامب أنّه يبعث للحلفاء والشركاء المتشابهين في التفكير رسالة ازدراء وتخل عنهم حين يؤكد على شعار “أميركا أولا” إلى حد يبدو فيه وكأنّه يرفع شعار “أميركا فقط”. وهذه الرسالة تصل أيضا إلى قادة الأنظمة المستبدة في الصين وإيران وروسيا وكذلك تركيا.
هل يغزو أردوغان مناطق الأكراد في سوريا بعد قرار ترامب بالانسحاب؟
على عكس ماتيس، يسيء ترامب تفسير واجبه الوطني في تعزيز الأمن القومي للولايات المتحدة برفض بناء التحالفات كونه لا يرى المزايا التي يثمر عنها التعاون مع الدول الأخرى التي تتبنى نفس قيم الديمقراطية الليبرالية والسوق الحرة التي تعتمد عليها القوة الأميركية.
ومن ثم، ومع التخلص من التهديد الذي يفرضه تنظيم الدولة الإسلامية على الولايات المتحدة بشكل كامل تقريبا، اتفق ترامب مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على سحب القوات التي يريد الرئيس الأميركي سحبها منذ اليوم الأول له في السلطة. ففي رأيه، يجب على الآخرين أن يتولوا حل مشاكلهم (كالهجمات المستلهمة من نهج تنظيم الدولة الإسلامية في أوروبا وغيرها).
لا يرى ترامب أنّ الاستمرار في التعاون مع الشركاء المماثلين في الفكر للقضاء تماما على التهديد الذي يشكله تنظيم الدولة الإسلامية، وبالتالي إرسال رسالة تصميم وعزم على مواجه الإرهاب الدولي إلى العالم كله، يعزز الأمن القومي للولايات المتحدة. صحيح أنّه مخطئ في ذلك، لكن قصر النظر بشأن سوريا وتنظيم الدولة الإسلامية أقل إثارة للقلق من صعود أولئك الذين يتجنبون بناء التحالفات ويفضلون العمل الفردي للولايات المتحدة.
وفي تركيا، تروج الصحافة المداهنة لقرار ترامب على أنّه نجاح لأساليب أردوغان التكتيكية المتمثلة في خطابات التهديد والنبرة المناوئة للولايات المتحدة، وتصور الرئيس التركي على أنّه تغلب على ترامب. وعلى حد تعبير تشرشل مرة أخرى، بعد تناول الولائم تأتي مرحلة الهضم – فقد يجد أردوغان أنّ غزوه أو توغله في شمال شرق سوريا الذي يسيطر عليه الأكراد ليس بالسهولة التي يزعمها.
سيكون غريبا على ترامب أن يكون قد اتفق على سحب القوات الأميركية من سوريا لاسترضاء أردوغان دون أن يتلقى بعض الوعود في المقابل. وأيا كانت تلك الوعود، سينتظر ترامب الوفاء بها، إذ أنّ أردوغان سيتعلم الدرس سريعا إن لم يفِ بها.
وعلى عكس الصحافة الموالية والبرلمان في تركيا، لن يقبل الإعلام والكونغرس في الولايات المتحدة بهدوء أن تقصف تركيا حلفاء سابقين للولايات المتحدة في ميدان المعركة، وهما وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية. وعلى غرار ما حدث في قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، ربما لا يستطيع الكونغرس الأميركي أن يرد ترامب عن مسار عمله، لكن يمكنه بالطبع أن يخرج للنور الكثير من الأمور التي تفضل الإدارة إبقاءها في الظلام. وما جهود تركيا الرامية للحث على تسليم الداعية التركي المقيم في الولايات المتحدة عبد الله غولن خارج القنوات العادية وخططها لشراء صواريخ إس-400 الروسية وعدم امتثالها للعقوبات المفروضة على إيران إلا ثلاث مسائل يمكن أن يعبر فيها الكونغرس عن استيائه من تصرفات أردوغان.
وفي النهاية، ثمّن ماتيس الحلفاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وعلى غرار الممثل الخاص الأميركي لشؤون سوريا السفير جيمس جيفري، ثمّن عضوية تركيا في الناتو والعلاقة الوثيقة بين أنقرة وواشنطن. وفي ظل صعود أولئك الذين يتفقون مع نهج العمل الفردي الذي يتبعه ترامب على ما يبدو، قد تجد تركيا أصواتا أقل في البيت الأبيض تدعو للتسامح مع نبرة أردوغان المناوئة للأميركيين وعدائه لقيم الديمقراطية الليبرالية والسوق الحرة.