الاستحواذ على منازل وممتلكات السكان الأكراد الأصليين والتجارة بها، في عفرين، من قبل فصائل المعارضة، بات غاية تبررها الوسيلة؛ فكل مال لم يرجع صاحبه بعد معركة “غصن الزيتون” صار بحكم “الموروث” بموجب “سياسة المتغلب”. إلا أن فصائل المعارضة لم تكتف بذلك، بل باتت تطرد المُهجّرين قسراً إلى عفرين، من بيوت استأجروها.
وتبحث الفصائل عن ذرائع لطرد المُهجّرين المقيمين في منازل هَجَرها أصحابها الأكراد خلال المعركة، كي تتملكها. الفصائل تبيع المحتويات في أسواق إستحدثت مؤخراً لبيع الأثاث المستعمل، ثم تعرض المنازل للإيجار الشهري، أو تمنحها لعائلات عناصرها، أو قد تحولها إلى مقرات عسكرية.
ومرّت طرق طرد المُهجّرين من أماكن إقامتهم في بيوت هجرها أصحابها الأصليون، بمراحل متعددة؛ مرحلة الإنذار طويل الأمد، يُمهَلُ فيها المُهجّر مدة تصل إلى 10 أيام لإخلاء المنزل، ثم يمنح يومان أو ثلاثة للإخلاء، ثم مرحلة الإخلاء الفوري، بذريعة تحويل المنزل إلى مقر عسكري.
وبعد تصاعد الأزمة بين الفصائل والمُهجّرين، ووصولها مرحلة الاحتجاجات الجماعية، انتهجت الفصائل سياسة جديدة للسيطرة على المنازل، بطريقة “الاستيلاء القانوني”. إذ رقّمت بعض الفصائل المنازل المراد الاستيلاء عليها في قطاعاتها، ودعت المقيمين فيها لتنظيم عقد استئجار معها، مدته ستة أشهر، يدفع المستأجر بموجبه مبلغاً محدداً في العقد، ويمنح الفصيل حق تمديد العقد أو طرد المستأجر بعد انتهاء المدة المحددة.
وتم طرد عشرات العائلات فعلياً، بواحدة أو بأخرى من الطرق السابقة، وتعرضت مئات العائلات الأخرى لخطر التهديد ذاته، ما قد يجبرها على مغادرة المنطقة المكتظة بالسكان بحثاً عن مأوى آخر. ويتم ذلك وسط اتهامات متواصلة من الأكراد لمُهجّري الغوطة بـ”الاستيطان” في عفرين بموجب سياسة تغيير ديموغرافي تنتهجها تركيا، في المنطقة. تهديد المليشيات الكردية بالإنتقام هو أمر شائع.
وارتفع معدل طرد المُهجّرين من عفرين أثناء نزوح الآلاف من إدلب خلال تصعيد مليشيات النظام الأخير والتهديد باقتحامها. وقصد نازحو إدلب عفرين باعتبارها أكثر أمناً، ولأنها خارج أهداف عملية النظام العسكرية المفترضة على الشمال السوري.
استغل عناصر الفصائل حاجة نازحي إدلب للمنازل، في ظل الاكتظاظ السكاني في المنطقة. وبدا المشهد للفصائل موسماً سياحياً، يتوجب استثماره، في ظل استهداد نازحي إدلب لدفع ايجارات مرتفعة، بغض النظر عن شرعية العقد.
لذلك، سيرت الفصائل في أحيان كثيرة دوريات مسلحة في قطاعاتها لتنذر المُهجّرين القاطنين في منازل متروكة، من دون عقود أيجار من أصحابها الأكراد الأصليين، كي يخلوا المنازل ويسلموها للفصائل. وفي أحسن الحالات طُلب منهم تسديد الأجور الشهرية للفصيل المتحكم بالقطاع.
أم أحمد، أرملة مُهجّرة من الغوطة الشرقية، تُعيل 6 أطفال وتقيم معهم في منزل بسيط في حي الأشرفية في عفرين، فوجئت الأسبوع الماضي بدورية عسكرية تابعة لـ”الجبهة الشامية” تطلب منها تسديد مبلغ 10 آلاف ليرة سورية كأجرة للمنزل، وإلا يتوجب عليها الإخلاء في غضون ثلاثة أيام. وتقول أم أحمد لـ”المدن”: “قصدت مدينة عفرين بعدما سمعت أن فيها منازل غير مأهولة، وأنا عاجزة عن دفع الأجرة الشهرية المرتفعة في إدلب، بالإضافة لعجزي عن تأمين مصروف بيتي ومصروف أيتامي، لأتفاجأ بعناصر الجيش الحر هنا وهم يطلبون أجرة منازل فرّ أصحابها، غير مراعين ظروفنا القاسية”.
عدنان، لم يكن أوفر حظاً من أم أحمد، وهو المُهجّر أيضاً من الغوطة الشرقية، والمقيم منذ أربعة شهور في حي المحمودية في عفرين مع طفليه المصابين بمرض “التلاسيميا”. يقول عدنان : تنظيم”أحرار الشرقية المسيطر على المحمودية طلب مني إخلاء المنزل في غضون يومين، بذريعة الحاجة لتحويل المنزل إلى مقر عسكري، وإلا سيتم تحويلي إلى المفرزة الأمنية، وأنا عاجز عن إيجاد منزل آخر في ظل الكثافة السكانية العالية”.
ويقف المجلس المحلي لمدينة عفرين عاجزاً أمام تصرفات الفصائل العسكرية بحق السكان الأصليين والمُهجّرين، فالمجلس لا يملك أي سلطة على المنازل، ولا يجرؤ حتى على توثيق أسماء قاطنيها. وعند مراجعة المواطنين للمجلس، لتقديم الشكاوى، تتم إحالتهم إلى “الشرطة العسكرية”، وهي التي تنفي وقوع تلك الانتهاكات أصلاً. فتعود المشكلة إلى المربع الأول.
استيلاء الفصائل العسكرية على منازل المدنيين، دفع كثيراً من المُهجّرين إلى اتباع الطرق القانونية، بالسكن واستئجار المنازل من أصحابها الأصليين، بعقود رسمية مسجلة لدى المجلس المحلي والمحكمة الشرعية. لكن، في أحيان كثيرة لا تشفع الأختام الممهورة على تلك العقود لأصحابها أمام رغبة الفصائل بالاستيلاء على المنازل المميزة. عندها تكون ذريعة الفصائل هي وجود المنازل في مربعات أمنية، لا يُسمح بالسكن فيها إلا لعناصر فصائلهم. وفي بعض الأحيان تدّعي الفصائل ارتباط أصحاب المنازل بـ”وحدات حماية الشعب” الكردية، وأنهم تحت المراقبة الأمنية، ولا يجوز لهم التصرف بأملاكهم الخاصة.
فصائل المعارضة العسكرية في عفرين بدأت تنظر إلى المُهجّرين، بشكل عام، وإلى أهالي الغوطة بشكل خاص، وكأنهم ندّ لها على أرض عفرين، أو عالة عليها. وتعتبر الفصائل أن المُهجّرين جنوا ثمرة “تحرير” عفرين أكثر مما جناه عناصر الفصائل. وكثيراً ما يتهم عناصر الفصائل، المُهجّرين، بأنهم دخلوا عفرين على “حساب دماء شهدائهم” وأنهم “دخلوها آمنين دون دفع ولو جزء من تكلفتها الباهظة”.
استمرار سطوة فصائل المعارضة العسكرية على الحياة المدنية في عفرين، تضع السكان الأصليين الأكراد ومُهجّري الغوطة، في خانة واحدة، يتقاسمون فيها المعاناة سوية، وتضعهم أمام خيارين؛ إما التسليم بسلطة الفصائل وتنفيذ إملاءاتها، أو البحث مجدداً عن منزل في مكان آمن بعيداً عن أهداف مليشيات الأسد وأطماع الفصائل، ما دام احتمال سيطرة الشرطة الحرة على المنطقة أمر غير قابل للتحقق في المدى المنظور.
اراس عبدو