يجلس طفلٌ من سكان مخيمات شمال سوريا بجانب جثة ممددة. نظراته تحكي مأساة وفاجعة، فهو الآن بات يتيما ودون أي معيل، بعدما توفيت أمه “فاطمة عبد الرحمن الإسماعيل”، متأثرة بإصابتها بطلق ناري في الرأس، مصدره بنادق عناصر يتبعون لـ”هيئة تحرير الشام” المصنفة على قوائم الإرهاب الدولية.
فاطمة هي واحدة من آلاف النساء اللواتي تحاولن، منذ سنوات، تأمين قوت العيش لأطفالهن في مخيمات إدلب شمال سوريا، وبينما كانت تسعى لتهريب بعض ليترات المازوت من مناطق ريف حلب المجاورة، كونها “أقل ثمنا” استهدفتها رصاصة عناصر “تحرير الشام” قبل عشرين يوما، في المنطقة الحدودية التي تفصل بين المنطقتين المذكورتين.
ومنذ ذلك الوقت بقيت “فاطمة” متوفية “سريريا” في إحدى المشافي في الشمال السوري، ليعلن عن وفاتها، الثلاثاء، تاركة وراءها 4 أطفال يتامى والكثير من تفاصيل الحال التي وصلت إليه النساء في تلك المنطقة.
“رصاصة في الرأس”
ويعود أصل السيدة (28 عاماً) إلى قرية سفوهن في ريف محافظة إدلب الجنوبي، بينما كانت تقيم في المخيم الذي يحمل اسم قريتها، والواقع في تجمع مخيمات أطمة قرب قرية أطمة شمالي البلاد.
فاطمة توفيت قبل يومين متأثرة بإصابتها برصاصة في الرأس في العاشر من فبراير الماضي، إثر إطلاق عناصر “تحرير الشام” الرصاص عليها، قرب نقطة تفتيش تابعة لها، ما بين منطقة دير بلوط في عفرين ومنطقة أطمة شمال إدلب.
وهذه المنطقة تفصل بين المناطق الخاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام” ومناطق سيطرة “قوات الجيش الوطني” وكلا الطرفين يتلقى الدعم التركي.
يقول الناشط الإعلامي، عدنان الإمام، والذي التقى في الأيام الماضية بعائلة الضحية وأطفالها، إنّ “فاطمة كانت تعمل في تهريب مادة المازوت من ريف حلب إلى إدلب، من أجل إطعام أطفالها، كونها المعيل الوحيد لهم”.
وكان زوج فاطمة قد انفصل عنها مؤخرا، وذهب ليقيم في تركيا مع زوجة أخرى، ويضيف الإمام: “فاطمة لم تكن تملك دفتر عائلة لكي تسجّل أطفالها في المدارس، ولأكثر من مرّة ألقى عناصر الهيئة القبض عليها وصادروا ما كانت تحمله من ليترات المازوت”.
وتحدث الناشط الإعلامي عن نفي “تحرير الشام” بشأن حادثة القتل، وذكر إنّ الأخيرة تقول إنّ السيدة “أصيبت في أثناء اشتباك حدث مع المهربين الذين يجوبون المنطقة الحدودية بين ريف حلب وإدلب”.
لكن تلك الرواية أثارت شكوك ناشطين إعلاميين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بينهم الناشط الإعلامي محمود بكور، والذي كتب عبر “تويتر”: “قتلوها بكل دم بارد. ذهبت وتركت خلفها أطفالا يبحثون عن الأمل في الحياة في هذا المكان الذي تسيطر عليه تحرير الشام بقيادة الجولاني الذي يستبيح دماء الأبرياء”.
من جهته قال الصحفي السوري، أحمد عاصي: “حُلت المشكلة كما جرت عليه العادة، وسُجلت على أنّها تصرف فردي من قبل أحد العناصر الأمنيين في تحرير الشام. بقيت المأساة قابعة في عيون هذا الطفل الصغير الذي يتمه الجشع وسطوة السلاح وفرط القوة”.
“من أجل 3 ليرات تركية”
عند الحديث عن مناطق الشمال السوري، فهي تشمل محافظة إدلب الخاضعة لسيطرة شبه كلية لـ”هيئة تحرير الشام”، بالإضافة إلى مناطق ريف حلب الشمالي الخاضعة لسيطرة تحالف “الجيش الوطني السوري”، وهي اطراف مدعومة من تركيا.
وبالصورة العامة تبدو هذه المناطق وكأنّها “قطعة واحدة” خارجة عن سيطرة النظام السوري، لكن على الأرض هناك ما يخالف ذلك.
ويرتبط ريف حلب الشمالي ومحافظة إدلب بعدة معابر برية، أبرزها معبر الغزاوية المحاذي لمنطقة عفرين، ومنذ أشهر طويلة تمنع “هيئة تحرير الشام” تمرير أي مواد أساسية يحتاجها المدنيون عبر هذه الممرات، وعلى رأسها المحروقات، من بنزين ومازوت وغيرها.
ويشير الناشط الإعلامي، عدنان الإمام إلى أنّ الكثير من النساء في المخيمات الحدودية “تعملن في تهريب المازوت، لأنّ الفرق بين إدلب ومناطق ريف حلب 3 ليرات تركية”.
ويضيف الإمام: “أغلب المخيمات معتمدة على سلة الغذاء العالمي. هذه السلة لا تكفي العائلة سوى عشرة أيام كحد أقصى، بينما هناك دور ضعيف في الاستجابة من جانب المنظمات الإنسانية”.
“ليست الأولى ولا الأخيرة”:
نشرت منظمة “اللوبي النسوي السوري” بيانا وصفت فيه حادثة قتل فاطمة بـ”الجريمة النكراء”، وقالت إنّها “ليست الأولى ولا الأخيرة للمجموعات المسلحة المتطرفة، والتي تمارس جرائم حرب وانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان بحق المدنيين، بما فيهم النساء والأطفال في المناطق التي تسيطر عليها”.
المديرة التنفيذية لـ”اللوبي النسوي”، ريما فليحان تقول إنّ “المجتمع الدولي مسؤول بشكل كبير عن الحالة الكارثية التي وصل إليها السوريون والسوريات والمجتمع السوري عموما”.
وتتابع في حديثها: “وذلك عبر تكريسه لحالة من الاستنقاع التي تشكل مناخا خصبا لاستمرار القمع وانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، بأيد كل الأطراف على حساب إيجاد حل جذري يخلق مناخا يتيح فسحة للعمل على الأرض، وبفعالية أكبر لكل منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية”.
وتوضح فليحان إنّ “العمل على الأرض في الشمال السوري شبه مستحيل، بسبب سيطرة مجموعات متطرفة على الأرض، وبسبب خطاب الكراهية السائد ضد المنظمات النسوية”.
لكنها تشير إلى عمل متاح وهو “التوعوي والحقوقي، وهو ما تقوم به الكثير من المنظمات النسوية ومنها اللوبي النسوي السوري”.
تشير فليحان إلى أنّ “حجم الكارثة الإنسانية الحاصل في سوريا مرعب، بينما باتت جرائم العنف ضد المرأة كبيرة ومتكررة ويومية، سواء كانت قائمة على أساس النوع الاجتماعي في سياق مرتبط بالثقافة الاجتماعية والقانون أو بسياق استخدام النساء كوسائل حرب”.
وتقول الناشطة النسوية: “نحاول أقصى ما نستطيع كمنظمات نسوية بالإحاطة بها وتغطيتها”.
ومع ذلك تضيف أنّهم “قد لا يتمكنون من تغطية كل حدث، لأنّ المجتمع السوري في حالة من الانهيار التام على ما يبدو وتحكمه الفوضى وانعدام الحقوق والتمييز، وهو ما تواجهه المنظمات النسوية بعملها التوعوي والمدني”.
وكان “اللوبي النسوي السوري” قد أطلق حملة توعوية تحت عنوان “ما رح اسكت”، وهي مستمرة لأكثر من عامين، بحسب فليحان.
وتركز الحملة “على استخدام النساء كوسائل حرب، وتتحدث عن العنف والقمع الممارس على السوريات عموما، والظروف التي تعيشها النساء في المخيمات وفي كل سوريا. هي ظروف كارثية وغير إنسانية في مجتمع باتت تحكمه البنادق والقمع والفوضى والاختناق الاقتصادي ونقص الخدمات”، بحسب تعبير الناشطة النسوية.