تلقي الحروب – على مرِّ التاريخ – بظلالها على الكثير من الإرث الثقافي في البلدان التي تذهب ضحيتها، إلى جانب إزهاق أرواح الملايين من الناس، ابتداءً من قبائل الفايكينغ عندما شرعت بغزو أوربا الشمالية أواخر القرن الثامن الميلادي وقتلوا الآلاف من البشر ودمروا الأماكن الدينية والتراثية كالكنائس والمعابد, مروراً بالهجمات البربرية المغولية على مناطق الشرق الأدنى في القرن الثالث عشر الميلادي حيث دمروا الكثير من المدن والقصور والأسوار التاريخية ، لا سيما تلك العائدة للخلافة العباسية في بغداد، وكذلك تدميرهم لمكتبة بغداد التي كانت تعدّ الأعظم في التاريخ آنذاك.
كل الجرائم التي ارتكبت بحق التراث الإنساني خلال القرون الماضية بما فيها من حروب وصراعات دموية – كالحروب الفارسية واليونانية والحروب الرومانية والبيزنطية والغزوات الإسلامية والحروب الصليبية وحتى الحرب العالمية الأولى والثانية – كل ذلك لم يرتقِ إلى ما وصل إليه العالم الآن – خلال العقود الأخيرة – من البشاعة والدناءة عن سابق إصرار وبشكلٍ ممنهج- بحق الميراث الإنساني.
خلال الحرب الأهلية في لبنان وكذلك خلال معارك متقطعة بينها وبين إسرائيل من عام 1975 حتى عام 2006, نجد أنّ متحفها الوطني تعرض لأضرار بالغة بالإضافة إلى أنّه دُمر 200 موقع أثري أي ما يعادل 25%من المواقع التراثية المسجلة هناك، ناهيك عن تعرض مواقع مهمة فيها لبعض الأضرار كقلعة بعلبك وموقع جبيل.
في عام 2001 قامت حركة طالبان الجهادية الأفغانية بتدمير بعض المعابد البوذية وكذلك تدمير تمثال بوذا في باميان باستخدام مادة الديناميت وذلك بحجة مخالفته للتعاليم الإسلامية وشريعتها.
أما العراق الذي يعتبر بمثابة ذاكرة العالم لما فيه من كم هائل من الممتلكات الثقافية كان هو الآخر ضحية الحروب والصراعات الدائرة منذ عام 2003 خلال الحرب العراقية – الأمريكية، حيث تعرضت الكثير من المواقع العراقية الأثرية للتجاوزات والاعتداءات، إضافة إلى نهب ما يزيد عن 12000 ألف قطعة أثرية من متحف بغداد وغيرها..
إلا أنّ الخسارة الكبرى للتراث العراقي كان مع بدء الربيع العربي وظهور التنظيمات المتشددة وخاصة تنظيم الدولة الإسلامية، الذي عمد وبشكل ممنهج إلى نهب وتدمير متحف الموصل وتخريب مدينة نمرود التاريخية، عبر استخدام جرافات وآليات هندسية كبيرة وإحراق المخطوطات التاريخية في مكتبة الموصل، وتفجيرهم للكنيسة الخضراء التي تعدّ من أقدم الكنائس المسيحية في الشرق ومسجد النبي يونس وجامع النوري والمنارة الحدباء، إضافة إلى نهب العشرات من مواقعها الأثرية عبر عمليات التنقيب.
كذلك عمد التنظيم في سوريا إلى نهب المتاحف، كالتي في الرقة وتدمر إلى جانب تدمير ما يقارب 15% من معالم تدمر القديمة كمعبد بيل ومعبد بعل شمين وواجهة المسرح الروماني وبعض المدافن البرجية بالإضافة إلى تخريب وسرقة العشرات من المواقع الأثرية في الرقة والحسكة وحلب وديرالزور وحمص والمتاجرة بمقتنياتها من اللقى الأثرية.
أما في مصرَ فقد دعت بعض أصوات السلفيين والإخوان كالجوهري ومرجان مصطفى سالم في عام 2012 عبر شاشات التلفزة إلى تحطيم تمثال أبو الهول والأهرامات وكل التماثيل الأخرى في مصر بزعم إنّها أصنام وأوثان.
أيضاً في اليمن أدت الحربُ الأهلية الطاحنة هناك إلى تدمير بعض المعالم الأثرية وإلحاق الأذى بأخرى كما في سد مأرب الذي طاله أضرار بالغة نتيجة القصف المتبادل بين القوى المتصارعة.
ومؤخراً نجد أنّ القبائل التركية التي قدمت إلى منطقة الأناضول، العريقة بأصالتها التاريخية، في القرن الثالث عشر الميلادي وأسّسوا دولة لهم هناك، هي الأخرى كانت ولاتزال تحذو حذو تلك التنظيمات المتطرفة والأقوام البربرية في النَيل من تراثٍ لم يكن في يوم من الأيام ملكاً لهم. حيث عملت على مدار تواجدها على إهمال معظم الممتلكات الثقافية العائدة للحضارات الحثية والهورية والأوراتية والإغريقية والرومانية والبيزنطية، وسعت إلى طمس وتغييب وتحريف تاريخ تلك الممتلكات إلى جانب تخريب وتدمير بعضها، كتلك الموجودة في جنوب شرق الأناضول بما يتناسب مع سياستها ومصالحها الاستعمارية.
إنّ البدء بمشاريع بناء 22 سداً من جانب الدولة التركية على كل من نهري دجلة والفرات في جنوب شرق الأناضول منذ الثمانينات من القرن المنصرم – حيث المناطق والمدن التي تقطنها غالبية كردية كـ آديمان وباطمان ودياربكر وأورفا وسيرت وماردين وشرناخ والتي تضم كل مدينة منهم عشرات المواقع الأثرية التي يعود تاريخ معظمها إلى آلاف السنيين والتي يقدر عددها بـ 780 موقعاً و 1800 مبنى تاريخي – من شأنه أن تغمر العشرات من هذه المواقع والتي بدت نتائجها تظهر إلى العلن كما حدث في موقع هالان جمي الواقع شمالي مدينة باطمان بالقرب من نهر ساسون والعائد للألف العاشر ق.م , وأيضا في موقع حسن كيف العائد إلى الألف التاسع قبل الميلاد ويضم كذلك معالم أثرية بارزة تعود للفترات الرومانية والبيزنطية والإسلامية.
آنذاك صرح إركان أيبوغا مديرة مبادرة (إبقاء حسن كيف على قيد الحياة) ” بإنّه لن يكون هناك أيّة فائدة لشعب المنطقة كما تدعي الدولة, بل سيؤدي المشروع إلى تهجير عشرات الآلاف من السكان وتهديد المئات من أنواع الحيوانات, ناهيك عن فقدان التراث الثقافي على أعلى مستوى” , كذلك قالت ماغي روناين التي تقوم بعملية مسح للمنطقة منذ عام 1999″ إنّ السد هو سلاح دمار شامل للثقافة, وإنّه سيهدد تراث الشعب الكردي وكذلك الآثار الإسلامية والمسيحية”.
أيضاً غمر سد بيره جيك – بعد إنشائه – بعض المواقع الأثرية بين قرية كوموش كايا التابعة لمدينة آديمان و قرية هالفتي التابعة لمدينة أورفا التي كانت تضم العديد من المستوطنات الصخرية والقلاع والمدافن والكهوف.
سياسة بناء السدود التي تتبعها تركيا لها أسباب ودوافع سياسية واضحة أكثر منها اقتصادية كما تدعي الدولة التركية، والغاية منها هي التحكم بالمياه المتدفقة إلى سوريا والعراق وكذلك تدمير التراث الثقافي لشعوب ميزوبوتاميا الأصيلة وتهجير سكانها، والدليل كما يقول د. ريان العباسي هو عدم قيام الدولة التركية بتحصين وحماية المواقع الأثرية التي ستتعرض للغرق، وعدم نقلهم أو حتى محاولتهم نقل تلك الآثار إلى مناطق أخرى آمنة، بالإضافة إلى عدم قيام تركيا بأيّة مسوحات أثرية جدية في تلك المناطق المهددة بالغمر.
هذا وتسعى الدولة التركية من جانب بعض الدول الأخرى إلى إزالة بعض المعالم الأثرية كما حدث داخل مدينة آمد القديمة المدرجة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي وتهجير سكانها في العام الفائت.
يذكر إنّ صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في إحدى المقالات المنشورة كانت قد دعت تركيا- بعد أن تعالت بعض أصوات المعنيين من داخل تركيا وطالبوا بتدخّل اليونسكو لوقف المشاريع المتعلقة ببناء السدود ومناجم الفحم التي تهدد بزوال تراث إنساني كامل- بالكف أو تأجيل إزالة المواقع الأثرية التي لا تقدر بثمن، ودعت لعدم الاستخفاف بتراثها الثقافي التي تمثل مخزوناً ضخما والتي تعتبر من أرقى وأندر النفائس في العالم.
كما أنّ أفعال الدولة التركية وعقيدتها بحق التراث امتدت لتشمل مواقع أثرية أخرى خارج أراضيها حتى وصلت إلى سوريا، فقد عمدت في أواخر عام 2016 إلى تغيير مجرى نهر دجلة بغية غمر جسر عين ديوار الأثري في شمال شرق سوريا، كما أنّها تستهدف مؤخراً الممتلكات الثقافية في منطقة عفرين الواقعة أقصى شمال غرب سوريا والتي وصفت من قبل ميلارت: “بأنّها إحدى المناطق الثلاث الموجودة في الشرق القديم التي عرفت ميلاد الحضارة البشرية.” حيث تتوزع في عفرين عشرات التلال والمواقع الأثرية التي تحوي بين طياتها العديد من القصص والحكايات التاريخية العائدة لآلاف السنين، ناهيك عن عشرات المعالم الأثرية الظاهرة كالمعابد والصومعات والمدافن والمعاصر والجسور التي تشهد على عراقتها خلال الفترات السلوقية والرومانية والبيزنطية والإسلامية حيث إن بعض هذه المواقع قد أدرج على لوائح اليونسكو للتراث العالمي منذ عام 2011.
في الفترة الواقعة بين 20-26/1/2018 تم قصف موقع عين دارا الأثري الذي يعتبر أكبر المواقع العائدة لفترة ما قبل العصور الكلاسيكية بحسب ميركو نوفاك، حيث استهدف القصف التركي المعبد العائد لفترة أواخر الألف الثاني ق.م مباشرة دون التلة ملحقاً بها أضراراً بالغة، علماً أنّ الموقع يبعد عن المناطق المأهولة بالسكان حوالي 1كم، ولم يكن فيها أيّة نقاط عسكرية.
ومن نافلة القول أنّ هذه الأعمال تتعارض وتتنافى مع القوانين والمواثيق والاتفاقيات الدولية، ولعل أهمها اتفاقيات لاهاي لعام 1927 وكذلك عام 1954 وبرتوكولها الثاني لعام 1999 المتعلق بحماية التراث الثقافي أثناء النزاعات المسلحة والتي تحض بعض بنودها الدول الأطراف على: “احترام الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح بل وحمايتها وكذلك عدم القيام بأي عمل عدائي تجاه تلك الممتلكات”. لكن ما أقدمت عليه تركيا من خلال قصفها الممنهج يندرج ضمن إطار جرائم الحرب بحسب القانون الدولي وبحسب القرار رقم 2347 الصادر عن مجلس الأمن والذي ينص على أنّ أي اعتداء متعمد على المواقع التراثية يعتبر جرائم حرب تتحمل الدولة المرتكبة مسؤوليتها أو الأفراد الذين يعملون معها. على هذا الأساس كانت المحكمة الجنائية قد اتهمت بعض الأشخاص في يوغسلافيا السابقة خلال فترة التسعينات بارتكابهم جرائم حرب بحق الممتلكات الثقافية.
هذا ومن خلال مساعي الدولة التركية الباطلة بالسيطرة على عفرين واحتلال أراضيها تظهر على السطح مخاوف جمة قد تهدد شعباً بأكمله فيما إذا ربطنا بين وجوده البيولوجي والثقافي.
النتائج الخطيرة التي تنتج عن هذا العدوان الغاشم الذي مازال مستمراً – حتى تاريخ كتابة هذا البحث – ضد شعب عفرين وممتلكاته الثقافية تجعل من مواقع أثرية أخرى في غاية الأهمية كموقع النبي هوري/ قورش – سيروس/ في دائرة الخطر- هذا إذا لم يكن قد استُهدف أيضاً من جانب الدولة التركية كما تقول بعض الأخبار الواردة من هناك.
وعليه ينبغي على الجهات والمؤسسات المعنية العائدة للمجتمع الدولي وعلى رأسها اليونسكو، باعتبارها الناظمة لهذه القوانين والتشريعات، التدخل مباشرة لكبح جماح الدولة التركية وإدانتها كجهة متورطة بجرائم حرب وفق القرار 2347 وإلّا فهي الأخرى تتحمل مسؤولية ما يجري في عفرين بحق مواقعها التراثية التي تعتبر ملكاً للإنسانية جمعاء، حيث أنّ صمتها جراء ما يحدث يعتبر بمثابة ضوء أخضر للدولة التركية مما قد يشجِّعها على ارتكاب المزيد من الجرائم بحق الممتلكات الثقافية سواء في عفرين أو غيرها من المناطق الواقعة في شمال وشمال شرق سوريا.
المصدر : رستم عبدو / مجلة الشرق الأوسط الديمقراطي