ثمة شيء ناقص في تصدر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الوجدان الإخواني المشرقي، الصادر أصلاً عن حنين ما للزمن العثماني. فالرجل وما إن يتولى مهمة تخاطب هذا الوجدان، (توليه تخريج اتفاق إدلب مع موسكو)، حتى تستيقظ فيه «تركية» تقطع مع عثمانيته وتبدي مقداراً من النزق «الوطني» ليست بعيدة من أتاتوركية لا يبدو أن بمستطاع الرجل القطع معها، (تصريحاته الحانقة وغير الواقعية عن احتمال شن موسكو وأنقرة عملية عسكرية تستهدف الجماعة الكردية في شمال سورية). وفي هذه اللحظة، يتقلص الطموح العثماني ويتحول «السلطان» ضابطاً صغيراً في جيش أتاتورك، وتصاب معه تطلعات «الإخوان المسلمين» العرب وما يوازيهم من المثقفين «العثمانيين» بانتكاسة يحاولون مداواتها عبر افتعال مشاعر تخاطب صغائر السلطان، فتستدخل الجماعة الإخوانية مزاجاً معادياً للحقوق الكردية، هي ليست في صلب وجدان الأكراد، لكنها الآن ضرورية لنجدة السلطان الصغير.
والقول أن خصومة الأكراد هي عنصر مستدخل ومفتعل في المزاج الإخواني لا ينطوي على مديح لهذا الوجدان، لكنه وصف واقعي، فذلك الوجدان تشكل في سياق تجاوز الهويات غير الإسلامية للمجتمعات الإسلامية. خصومة الأكراد افتتحت في الزمن الأتاتوركي، وأردوغان إذ يدفع الجماعة نحوها إنما يضعها في صدام مع عثمانيتها.
استجابت الجماعة واستجابت البيئة الصادرة عن «الجرح العثماني» لرغبات إمبراطورها المتوهم رجب طيب أردوغان في حربه الكبرى والوحيدة على الأكراد. تزودت بانتصاره في مفاوضات إدلب وانطلقت معه في الحرب على الأكراد. المشهد في عفرين كان مشيناً. السطو على موسم الزيتون، والذي كان سبقه سطو على منازل الأكراد الهاربين من المدينة، مثل نموذجاً لما يمكن أن تنتهي إليه الطموحات «الأكثرية». ومشهد عفرين وصور «محرري» كروم زيتونها قد يكون نموذجاً لمعنى أن يستتبع إمبراطور صغير جماعة فاضت طموحاتها عن حدود أوطانها وراحت تطلب «المجد» على تخوم أراضي الإمبراطورية الضائعة.
تصريحات أردوغان الأخيرة عن احتمال تنفيذه مع موسكو عملية عسكرية في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في شمال سورية، كاشفة لضيق ولحنق لا يليقان بما تطمح إليه الجماعة الإخوانية في «سلطانها»! لا يمكن أردوغان ولا فلاديمير بوتين أن ينفذا ما قاله الرجب! ثمة قواعد عسكرية هناك للجيش الأميركي، وأي خطوة هناك ستعني حرباً مع أميركا، وهذا ما لا تقوى عليه أنقرة وموسكو مجتمعتين. الأرجح أن تصريحات أردوغان غير الواقعية هي مجرد نزق يُفرغ من خلاله الرجل غضباً صادراً عن عجزه في شمال سورية. لكن الغريب هو في تحول تصريحاته هذه مانيفستو عاطفياً يصفق أصحابه لسلطانهم، ويتوعدون في ضوئه كروم الزيتون في القامشلي.
لكن ليس هذا مأزق الخطاب الإخواني، فانتكاسة هذا الخطاب هي أيضاً في سقوطه الأخلاقي المدوي عبر امتثاله لتحالف سلطانه مع قاتل السوريين فلاديمير بوتين. وانتكاسته في اندراجه في خطاب معادٍ للأكراد على نحو عصبوي وضيق أفضى في نهاية المطاف إلى مشهد سرقة موسم الزيتون في عفرين.
لا شك في أن حسن البنا ومن بعده مصطفى السباعي، يترنحان في قبريهما، فهما توهما أنهما «الأمة»، وأن لا أحد خارج «الجماعة» حتى لو توهم هو أنه خارجها، فإذ بهذه الأمة وقد اختصرت برجلٍ لا قضية له سوى القضاء على تجربة حكم ذاتي ركيكة أصلاً، وهو اصطحب معه في مهمته هذه كل إرث الجماعة، وكل ادعاءاتها في أنها مترفعة ومتعالية على الانتماءات الصغرى والهويات الصغرى. وآخر ما كان يتمناه رجلا الجماعة هو أن ينتهي المسار الإخواني إلى مشهد غزوة الزيتون في كروم عفرين.
حازم امين/الحياة