لايزال المئات من الجنود الأمريكيين منتشرين في سوريا، وذلك بعد أن تم تقليصهم بشكل كبير في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي كان يرى أنّ دور واشنطن في سوريا انتهى مع القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” مع الحلفاء الدوليين والمحليين من قوات سوريا الديمقراطية.
وبعد سحب إدارة بايدن القوات الأمريكية بشكل نهائي من أفغانستان في آب/أغسطس الماضي، قدمت إدارة بايدن بالفعل مؤشراتٍ على استعدادها لسحب ما تبقى من قواتها في سوريا خلال الربع الأخير من العام الجاري، ضمن خطة إنهاء الحروب الأمريكية والخروج من الشرق الأوسط، وكذلك لتراجع شهيتها في تقويض نظام الأسد الذي بدأت العديد من الدول العربية كسر عزلته مؤخراً رغم محاولات واشنطن منعها من ذلك.
لكن الآن يبدو أنّ خروج الجيش الأمريكي من سوريا بات “غير مرجح في أي وقت قريب” وفقاً لمسؤولين أمريكيين.
تمتلك الولايات المتحدة (بشكل رسمي) 900 جندي في شمال شرق سوريا وحتى جنوبها في قاعدة التنف، وتتمثل مهمتهم في مساعدة “شركاء واشنطن المحليين في مكافحة الإرهاب”، وهي قوات سوريا الديمقراطية، التي أسهمت في هزيمة تنظيم داعش.
وتم إرسال القوات الأمريكية لأول مرة إلى المنطقة في 2014-2015 في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، لتقديم الدعم للمقاتلين الكرد بداية في الحرب ضد داعش.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، وبعد انحدار التنظيم المتطرف في سوريا والعراق، أعلن الرئيس السابق ترامب انسحاب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا، ما فتح الباب على عملية عسكرية تركية واسعة في المنطقة ضد “قوات سوريا الديمقراطية”، وهو الهجوم الذي قوض وعرقل الحملة ضد تنظيم داعش ومنحه فرصة انعاش ثمينة كما وأدى لنزوح قرابة نصف مليون من منازلهم في مدينتي تل ابيض ورأس العين حيث ارتكبت القوات التركية والميليشيات السورية المتطرفة المدعومة من قبلها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية حيث صادرت ونهبت الأملاك واختطفت المدنيين وقتلت المئات منهم.
لماذا قررت أمريكا وتراجعت عن الانسحاب من سوريا الآن؟
ورغم دافع إدارة بايدن لإنهاء حروب ما بعد 11 سبتمبر، المدعوم برغبة قوية لدى الجمهور الأمريكي في رؤية بلادهم تنأى بنفسها عن الاشتباكات العسكرية في الشرق الأوسط، فإنّ الانسحاب الكامل من سوريا لايزال غير مطروح بعد على أجندة السياسة الخارجية الأمريكية.
فوفقاً لما صرح به مسؤولون أمريكيون لموقع Aljazeera بالإنجليزية، يبدو أنّ خروج الجيش الأمريكي من سوريا بات “غير مرجح في أي وقت قريب”.
وقال مسؤول كبير يعمل على سياسة الشرق الأوسط في البيت الأبيض، إنّ “مثل هذا التفكير يبالغ في استقراء التجربة في أفغانستان”.
وأضاف: “يتحدث الناس عن سعينا لإنهاء الحروب التي لا نهاية لها كما لو أنّ لدينا هذه الاستراتيجية للتخلي تماماً عن جميع التزاماتنا في الشرق الأوسط. هذا بصراحة خاطئ ومبسط، والمثير للدهشة أنّنا نعلم أنّ أفغانستان وسوريا مكانان مختلفان، ولهذا السبب كانت سياساتنا تجاه كل منهما مختلفة تماماً”.
وأردف المسؤول الأمريكي، الذي رفض الكشف عن هويته لحساسية الموضوع: “إنّ حجم وطبيعة أهدافنا، وعمق مشاركتنا ونوع البيئة التي نعمل فيها (في سوريا) مختلفة تماماً عن غيرها”. مشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ “التأكيدات بأنّ الولايات المتحدة لن تغادر قد تم نقلها أيضاً إلى قادة قوات سوريا الديمقراطية بشكل واضح وصريح”.
في الوقت نفسه، تنظر واشنطن إلى أنّ صراع الأطراف المختلفة على شمال وشرق سوريا قد يعيد إحياء داعش ويضعف حلفاءهم المحليين “قوات سوريا الديمقراطية”، التي تعهدت واشنطن بدعمها بشكل كامل، رغم أنّ ذلك يثير العديد من الأزمات والمشاكل مع تركيا، التي بدورها تهدد بهجوم جديد يستهدف الكرد شمال سوريا.
ويبدو أنّ الديناميكيات الجيوسياسية في المنطقة، مثل تكثيف الجهود التركية للقضاء على قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من قبل واشنطن، أو المحاولات الروسية لإقناع “قوات سوريا الديمقراطية” بالتخلي عن راعيها الأمريكي والتصالح مع نظام الرئيس بشار الأسد، قد دفعت واشنطن لتغيير حساباتها الاستراتيجية للولايات المتحدة وتأجيل الانسحاب حتى إشعار آخر.
وعلى عكس الانسحاب من أفغانستان، الذي كان مدعوماً من قبل أغلبية من الناخبين الأمريكيين لسنوات، خاصة منذ مقتل أسامة بن لادن عام 2011، أعرب معظم الأمريكيين عن دعمهم لمهمة مكافحة “داعش” في سوريا والعراق، ما يشير إلى أنّ بايدن مرتاح لدعم خطته بالبقاء في سوريا لوقت أطول.
كما أنّ نوع المهمة التي تتم متابعتها مهم أيضاً، فقد أثبتت الأهداف الأمريكية للبقاء في أفغانستان أنّها لا تحظى بشعبية كبيرة في الداخل، بينما يقول محللون إنّ الأمريكيين على استعداد لتعليق الشك بعمليات إدارتهم الخارجية عندما يتعلق الأمر بمحاربة القاعدة ومقاتلي داعش.
ولا يبدو أنّ الرئيس الأمريكي وإدارته سيكونان على استعداد لتلقي تمزيق آخر في الكونغرس إذا انسحبوا من سوريا، وذلك بعد فترة وجيزة من إدانتهما بشدة في كل من مجلس النواب ومجلس الشيوخ بسبب طريقة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وترك الحلفاء المحليين وحدهم أمام مصيرهم.
ومما قد يطيل أمد البقاء في سوريا، الحديث عن مساعٍ إيرانية لدفعها للخروج من سوريا بالقوة كما خرجت من أفغانستان. إذ تعرض موقع عسكري للقوات الأمريكية في قاعدة التنف العسكرية جنوب سوريا إلى هجوم نوعي بطائرات مسيرة مفخخة الأسبوع الماضي، وصفه البنتاغون بأنّه “هجوم معقد ومنسق ومتعمد”.
فيما قال مسؤولون أمريكيون في وقت لاحق إنّهم يعتقدون أنّ إيران تقف وراء الهجوم، وإنّها قدمت الموارد وشجعت على الهجوم، لكن الطائرات بدون طيار لم يتم إطلاقها من إيران.
ولم يُبلغ عن أي خسائر أمريكية نتيجة الهجوم على القوات الأمريكية المتمركزة بالقرب من منطقة التنف، القريبة من الحدود الأردنية والعراقية، وذلك وفقاً لما أوضحه الجيش الأمريكي، لكن وسائل الإعلام الموالية لإيران روجت للهجوم وعدّته “نصراً”، والذي يعد أول هجوم كبير تشنه إيران ضد قوات أمريكية متمركزة في سوريا.
كما أنّ منصات الأخبار التابعة لإيران لم تحاول التقليل من احتمالية تورط طهران وميليشياتها المتحالفة معها، بل بدلاً من هذا وصفت هذه المنصات الهجوم في تعليقاتها بأنّه نجاح كبير، ولمّحت إلى أنّ مزيداً من الهجمات ضد القوات الأمريكية في الولايات المتحدة سوف تعقبه.
وقد نسبت منافذ الأخبار الإيرانية الهجوم إلى مجموعة لا تُعرف على نطاق واسع تسمى “حلفاء سوريا”، التي أصدرت بياناً في وقت سابق من هذا الشهر تهدد فيه بالانتقام “القاسي” من الهجوم الجوي الإسرائيلي ضد القاعدة الإيرانية الموجودة خارج مدينة تدمر السورية، في 14 أكتوبر/تشرين الأول. وورد في البيان أنّ الغارة الإسرائيلية انطلقت من اتجاه التنف.
قالت وكالة أنباء فارس الإيرانية التي يديرها الحرس الثوري الإسلامي، إنّ الهجوم على نقطة التمركز الأمريكية أظهر “جرأة وقوة كبيرة” من جانب حلفاء سوريا، ما سيغير توازن القوى داخل سوريا.