ربما إذا أراد المرء أن يرسم صورة واقعية للجحيم، فعليه أن يتأمل تلك البقعة التي تسمى “الشمال السوري”، هذه المدن والمناطق التي تعتبر “زوراً” المناطق المحررة، وتُسمى الفصائل الإسلامية التي تسيطر على أغلب مناطقها، “الفصائل المعارضة” للنظام السوري، باتت تضيق بمعظم السوريين الذين يعيشون هناك، بعدما هُجروا من مدنهم وأحيائهم التي دمرها النظام السوري وحلفاؤه.
لكن عمق مأساة ما يحصل في “الشمال”، هو احتكام تلك الفصائل للاحتلال التركي وطموحاته في المنطقة، التي كانت تتركز على طرد القوى الكردية من المنطقة، لتتحول تلك الفصائل، إلى مجرد جيش تابع للاحتلال، مذ قامت تركيا بما يسمى عملية “درع الفرات” في 24 آب/ أغسطس 2016، وبعدها عملية “غصن الزيتون” في 20 كانون الثاني/ يناير 2018، وأخيراً عملية “نبع السلام” في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.
ومنذ ذلك الوقت ونحن نشهد انتهاكات بحق السوريين الكرد في المنطقة من تهجير وقتل واعتقالات وتعذيب، وما يحصل في منطقة عفرين من استيلاء على بيوت السكان المحليين (من الكرد) وممتلكاتهم، وسرقة أراضيهم، على يد الجيش التركي والفصائل المعارضة التي تسيطر على المنطقة، لا يمكن اعتباره سوى عملية سحق للمكون الكردي، وانتقام من أهالي المنطقة.
لكن المشهد في عفرين تحديداً، تحول من فصائل تسيطر على المنطقة، إلى فصائل تتصارع في ما بينها، للاستحواذ على أكبر قدر من البيوت والممتلكات التي استولت عليها من أهالي المنطقة.
في 22 أيلول/ سبتمبر الماضي، حدثت اشتباكات عنيفة بين فصيل “لواء صقور الشمال” وفصيل “جيش النخبة” في قرى ناحية بلبل في ريف عفرين شمال غربي حلب، علماً أنّ الفصيلين تابعان لـ”الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا. وكان سبب الاشتباكات، هو اعتداء عناصر من فصيل “لواء صقور الشمال” على مدنيين نازحين من أرياف محافظتي حماة وإدلب. وكان وجه لهم عناصر “صقور الشمال” بتاريخ 13 و14 أيلول الماضي إنذارات بإخلاء البيوت التي يسكنونها، بحجة عودة أصحابها الأصليين. كما أعطى الفصيل مهلة عشرة أيام لإخلاء البيوت.
وبحسب تقرير لـ”جريدة عنب بلدي” السورية، فإنّ الاعتداءات أدت إلى إصابة اثنين من المدنيين بشظايا “نتيجة إطلاق صقور الشمال النار على الأرض، واعتقلوا أشخاصاً في المكان بينهم عنصر في “جيش النخبة”.
كما جاء في التقرير أن “جيش النخبة” حشد بعدها عناصره وسيطروا على أحد حواجز “صقور الشمال”، بحسب أحد القادة الميدانيين في “جيش النخبة”، ليزداد التوتر ويصل إلى مرحلة الاشتباكات المباشرة واستخدام رشاشات متوسطة، وسط مطالبة أهالي المنطقة بقية فصائل “الجيش الوطني” بالتدخل لفض الاشتباك.
في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، تم تشكيل “لجنة رد الحقوق المشتركة في عفرين”، خلال اجتماع ضم فصائل “الجيش الوطني السوري” مع قادة أتراك، لإفراغ مدينة عفرين من المقار العسكرية، ومتابعة المظالم الخاصة بالسكان المحليين. وتم تشكيل اللجنة من فصائل: “جيش الإسلام”، “السلطان مراد”، “الجبهة الشامية”، “فرقة الحمزة”، “جيش الشرقية”، “أحرار الشرقية”.
لكن على رغم تشكيل هذه اللجنة، لم تتوقف الانتهاكات والاعتقالات بحق ما تبقى من السكان المحليين (الكرد) في عفرين، من قبل بعض الفصائل العسكرية التي شكلت اللجنة ذاتها، وما زالت عمليات الاستيلاء على منازل السكان المحليين وممتلكاتهم مستمرة. إذ حصل “المرصد السوري لحقوق الإنسان” بتاريخ 20 أيلول الماضي على “قائمة تضم أسماء 65 مدنياً من أهالي ناحية بلبل، كان فصيل “سلطان مراد” قد استولى على منازلهم بقوة السلاح، ونهبوا أثاثها ومنعوا المدنيين من العودة إليها، لتوطين عائلات المسلحين الموالين لأنقرة في تلك المنازل، ما أجبر الأهالي على استئجار المنازل في عفرين بمبالغ باهظة، أو نزولهم ضيوفاً عند أقربائهم أو نزوحهم إلى القرى المجاورة للسكن هناك.
وأفاد المرصد بأنّه “وعلى رغم تقديم شكاوى ضد الفصيل إلى لجنة ما يسمى رد الحقوق، لم تثمر شكواهم إلا خيبة الأمل”.
كما وثق المرصد سلسلة انتهاكات حصلت خلال شهر آب الماضي وهي: “اعتقال 115 مواطناً من أهالي عفرين، واعتقل معظمهم بشكل تعسفي لتحصيل فدية مالية تراوحت ما بين 1000 و10 آلاف دولار أميركي، من بينهم نساء ومسنون منهم من تعرض للضرب المبرح والاعتداء الوحشي، إضافة إلى عمليات بيع شقق سكنية بأسعار زهيدة تراوحت ما بين 1000 و1500 دولار أميركي للمنزل الواحد”.
الإعلامي السوري أحمد قطمة المنحدر من مدينة عفرين، شكك في صحة ما يتم تداوله في الإعلام عن إعادة البيوت لأصحابها الأصليين في عفرين، ويرى أن ما يحصل هو محاولة بعض الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا، الترويج لنفسها على أنّها أفضل من غيرها.
يقول قطمة لـ”درج”: ” في 18 آذار/ مارس 2018 تمَّ غزو مدينة عفرين، التي كانت واحدة من أكثر المناطق السورية أمناً، بغض النظر عما إذا كانت تركيا تتفق مع السياسة الموجودة في المنطقة أم لا، ولكن من الناحية الأمنية كانت المنطقة آمنة جداً، وأبناء المنطقة كانوا موجودين بالكامل فيها. بالطبع بين أبناء عفرين هناك مهاجرون خارج سوريا، ومنهم من اختار الهجرة إلى أوروبا على سبيل المثال، لكن عموماً كان معظم السكان الأصليين، موجودين في عفرين”.
وأضاف: “كانت إدارة المنطقة بنسبة 90 في المئة بيد أبناء مدينة عفرين. صحيح أنّ كان هناك أطرافاً خارجية تتحكم، نوعا ماً، بالقرار في المنطقة، لكن في المحصلة كان أهالي عفرين يعيشون بأمان، وذلك من طريق نظام سياسي أعلنوا عنه عام 2014، واسمه (نظام الإدارة الذاتية) وهو معروف في مناطق شمال سوريا”.
ويرى أحمد أنّ الفصائل العسكرية المدعومة من تركيا، لا يمكن وصفهم سوى بـ”المرتزقة”، وكانت القوى الكردية تصفهم بهذا الشكل منذ بداية الاحتلال التركي، وسيطرة هذه الفصائل على عفرين، لكن هذا التوصيف لم يُعمَّم على هؤلاء المسلحين عند غزو عفرين، إنّما عممه لاحقاً المجتمع الدولي بعد مشاركتهم الجيش التركي غزو ليبيا وأرمينا، بحسب تعبيره.
مخيمات الشهباء:
يعتقد أحمد أيضاً أنّ ما يتم الترويج له منذ فترة قصيرة من قبل بعض الفصائل السورية التابعة لتركيا عن عودة المهجّرين إلى عفرين، ينحصر بالتركيز على المهجرين الموجودين في شمال حلب، في منطقة الشهباء، أو ما يسمى “مخيمات الشهباء”، والتركيز كان على هؤلاء تحديداً، ولم يُدعى المهجرون الآخرون من الأكراد الموجودين في مناطق أخرى في حلب، أو في منطقة شرق الفرات، أو أي بقعة أخرى في سوريا، بحسب قوله.
كما يرى أحمد أنّ وجود هؤلاء المهجرين في المخيمات، يعني أن قضية عفرين ما زالت قائمة من وجهة نظر المجتمع الدولي، وهذا ما تخشاه تركيا والفصائل التابعة لها، لذلك عودة المهجرين في “مخيمات الشهباء” إلى عفرين، ستكون بمثابة إقرار للاحتلال التركي وترسيخ له. وسُيعتبر أيضاً قبولاً بالأمر الواقع، وهذا يعني أنّنا أمام “لواء إسكندرون” ثانٍ في عفرين، بحسب تعبيره.
صراع على النفوذ:
عندما سيطرت تركيا وفصائل “الجيش الوطني السوري” على عفرين، تم تقسيم المناطق والبلدات والقرى بين الفصائل، خيث قسمت منطقة عفرين إلى سبعة نواحٍ هي: “عفرين، شيخ الحديد، معبطلي، شران، بلبل، جنديرس، راجو”، ومن يعيش فيها اليوم معظمهم نازحون من الغوطة الشرقية (ريف دمشق)، وحمص وإدلب وحماة.
الصحفي السوري من مدينة عفرين محمد بلو، يشير إلى الاشتباكات التي دارت بين “لواء صقور الشمال” و”جيش النخبة” بالقرب من “ناحية بلبل” إلى الصراع على مناطق النفوذ والاستيلاء على منازل المهجرين من أهل المنطقة.
يقول بلو: “قرية “شيخ خورز” تحديداً مكونة من ثلاثة أقسام، القسم الأوسط والقسم العلوي وهما فارغان من السكان المحليين، الذين منذ تهجيرهم لم يعودوا إلى المنطقة التي تعيش فيها عائلات المسلحين، والمسلحون أنفسهم. لذلك ما يدّعيه قائد “لواء صقور الشمال” حسن خيرية إنّهم يريدون إعادة بعض المهجرين من العائلات الكردية إلى منازلهم، باطل، وعارٍ عن الصحة.
وأضاف: لأنه، وبحسب معلوماتنا، قاموا بإعادة خمس عائلات فقط من أهالي شيخ خورز، وتم إسكانهم بالقسم السفلي من القرية، والإنذارات التي وجهها “لواء صقور الشمال” لعائلات تسكن في القسم العلوي منها، محسوبة على “جيش النخبة”، لذلك يرغب “لواء صقور الشمال” في إخراج هذه العائلات، ليتم استخدام هذه المنازل لمصلحتهم.
موجودون في عفرين إنّما خارج منازلهم!
يوضح بلو أنّ عدد العائلات التي هُجِّرَت من منطقة عفرين وعادت إليها عفرين قليلة جداً، وليس كما يروج له إعلامياً. لكن هناك معاناة أخرى داخل عفرين؛ فمنذ ثلاث سنوات ونصف السنة، كانت مئات العائلات داخل عفرين، من الذين منعتهم فصائل المعارضة التابعة لتركيا من العودة إلى بيوتهم، أي أنّهم مازالوا موجودين في عفرين لكنهم يسكنون في بيوت أخرى بالإيجار أو عند أقربائهم، في المناطق المجاورة.
وهذا ما حدث في بلدة بلبل على سبيل المثال، إذ يقول بلو: عدد المنازل فيها يتجاوز الـ800 منزل، ولم يبقَ منها لأهالي عفرين، سوى 40 أو 50 منزلاً فقط، وبقية المنازل تشغلها عائلات المسلحين، مع العلم أنّ أكثر من 62 عائلة تحديداً من أهالي بلدة بلبل لا يسكنون في منازلهم، بل في مناطق وقرى مجاورة لمدنية عفرين.
وهناك قرى وبلدات أخرى خالية من سكانها، وأيضاً لا يسمح لهم بالعودة، بضغط من الجيش التركي أو الفصائل المعارضة التابعة له. وهناك أيضاً “قرية درويش” التي حولها الجيش التركي إلى قاعدة عسكرية بشكل كامل، مع أنّ أهالي القرية مازالوا موجودين في منطقة عفرين، وهناك قرية أخرى اسمها “جيه” (أو “جبلية” باللغة العربية) وهي تابعة لناحية راجو على سفح جبل هاوار، وهذه أيضاً خالية من سكانها بشكل مطلق، لكن أهلها موجودون في منطقة عفرين، والجيش التركي لم يسمح لهم بالعودة إلى القرية، وتم تحويلها أيضاً إلى قاعدة عسكرية.
والحال نفسه ينطبق على أهالي قرية “بعرافا” التي أُفرغت من سكانها، ويسيطر عليها اليوم فصيل “السلطان مراد” بقيادة المدعو “أبو عبد الله”. فهناك 9 عائلات من سكان القرية تقطن حالياً في قرية “جمان” المجاورة، وأكثر من 15 عائلة في مدينة عفرين نفسها، بينما تتركز عائلات القرية من المهجرين في منطقة الشهباء ومخيماتها. ومن يشغل قرية “بعرافا” اليوم، هم نازحون من مدينة حمص، ولم تسمح الفصائل لأي أحد من الأهالي وأصحاب البيوت بالعودة إلى منازلهم.
الصراع على مناطق النفوذ مستمر، ومنذ اليوم الأول لاحتلال المنطقة، حتى هذه اللحظة، دائماً هناك اشتباكات ومناوشات بين الفصائل سواء كان الاختلاف على موضوع اللصوصية والسرقات والاستيلاء على المنازل أو المحال التجارية، وحتى على المواسم الزراعية.
كواليس “لجنة رد الحقوق المشتركة”
سألنا محمد عن رأيه بـ”لجنة ردّ الحقوق المشتركة في عفرين”، ليجيبنا: “الناس الذين يطالبون بمنازلهم لدى هذه “اللجنة” أو الشكاوى التي يقدمها الأهالي للشرطة المدنية أو العسكرية، يتم تهديدهم بالقتل، أو يقومون بفبركة اتهامات للناس، كتهمة الانتماء لحزب الاتحاد الديموقراطي، أو التعامل مع الإدارة الذاتية سابقاً، كي لا يستمروا بتقديم الشكاوى على الفصائل وانتهاكاتها.
وتعرض كثيرون للقتل، مثل ما حصل في قرية المازن أو (قرية الكبيرة)، التابعة لمركز مدينة عفرين، قبل نحو شهر، فقد قتلوا شاباً بدم بارد، لمجرد أنّه نجح بتقديم الشكوى واستعاد منزله، فقام قائد فصيل فرقة الحمزة بتصفيته بين أشجار الزيتون، وبالطبع كان الشاب يتلقى تهديدات بين حين وآخر، لذلك نحن نتهم “فرقة الحمزة” وقائدها بشكل مباشر، في عملية قتل هذا الشاب”.
مأساة شديدة التعقيد
يقول الباحث السوري بسام الأحمد لـ”درج”: “إنّ حكاية عفرين شديدة التعقيد. من حيث المبدأ، عفرين هي أرض سورية، ومن حق أي مواطن سوري النزوح إليها، كما نزح أهل عفرين وغيرهم من السوريين إلى مناطق أخرى.
لكن ما حصل عند غزو المنطقة واحتلالها، من قبل تركيا وفصائل الجيش السوري الوطني التابع لها، هو عمليات استيلاء ممنهجة على بيوت أهل عفرين وممتلكاتهم وأراضيهم، وطرد أهلها منها وتهجير معظمهم والتنكيل بمن تبقى منهم”.
ويتابع: “من سكن بيوت المهجرين، هم عائلات المسلحين الذي سيطروا على المنطقة، وتقنياً، هؤلاء أيضاً نازحون، لكن تم تمييزهم عن النازحين العاديين، والذين بعدما نزحوا من مناطقهم لم يحظوا بأماكن أخرى، وهذه النقطة مهمة”.
ويرى الأحمد إنّ من يدفع ثمن ما يحصل هم أهل عفرين، فقبل الاحتلال التركي وسيطرة الفصائل، كانت عفرين منطقة آمنة نسبياً، ونأت بنفسها عن النزاع إلى حد ما. أما اليوم فمعظم أهاليها خرجوا من بلداتهم وقراهم، والأكراد كانوا أكثرية في هذه المنطقة، واليوم أصبحوا أقلية، وهم أقلية خائفة، وتتعرض لانتهاكات ما عادت سراً يخفى على أحد، بحسب تعبيره.
تركيا تراقب الفوضى من بعيد:
يرى الأحمد أنّ تركيا قادرة على إيقاف انتهاكات الفصائل السورية المعارضة التابعة لها، في حال كانت لديها النية لتنظيم الأمور، لإيقاف الضرر والانتهاكات بحق الأهالي، والضغط على الفصائل، لكن تركيا تراقب الفوضى من بعيد، ربما، حتى لا تتحمل أي مسؤولية، أو أنّها ترغب في أن تتحمّل الفصائل المعارضة وحدها مسؤولية ما يحدث للفصائل. إلى الآن لا يمكننا التنبؤ بالأسباب التي تجعل من تركيا تراقب ما يحدث بصمت.
يرى بسام أنّ جوهر الحملة العسكرية التركية على مدينة عفرين، هو سحق الوجود الكردي في المنطقة. وهذا ما نراه ماثلاً أمامنا، فتركيا تحاول إحضار مجموعات وشرائح من المجتمع السوري، تشعر بأنّها موالية لها، ولن تتمرد عليها.
ويضيف أنّ “عملية إسكان هذه المجموعات في مناطق كردية مثل رأس العين وتل أبيض وعفرين، تبذل فيها تركيا مجهوداً كبيراً. ونحن لا نختلف عن أنّ هذه المناطق هي لجميع السوريين، ومن حق الناس النزوح إليها، لكن في المقابل، على كل لاجئ أو نازح سوري الرجوع إلى مكانه الأصلي، فلا يمكن مثلاً لابن الغوطة الشرقية أو أي منطقة أخرى، أن يأتي لأخذ بيت لعائلة أو شخص من عفرين (بالقوة). والعكس صحيح، فلا يحق لابن عفرين أن يأخذ بيتاً أو مكاناً لشخص آخر”.