لم تكن نورة تتخيل أن يأتي يوم تُمنع فيه من ممارسة معتقدها الديني بحرية في مسقط رأسها، لدرجة وصفها تاريخ اليوم بـ”المظلم”، وتشبيهها إياه بأولى أيام ظهور المسيح ونشر تعاليمه خلسةً بين الناس.
ثلاث عائلات مسيحية فقط بقيت في مدينة عفرين التي يُسيطر عليها الجيش التركي والفصائل السورية الموالية له منذ 18 آذار/ مارس 2018.
نورة هو الاسم المستعار لسيدة كردية اعتنقت المسيحية منذ 15 عاماً في مدينة حلب السورية، لتعود برفقة عائلتها المؤلفة من خمسة أشخاص لمسقط رأسها عفرين، الواقعة في أقصى الشمال الغربي للحدود السورية التركية، مع بدء الأزمة السورية عام 2011.
“كنا نمارس طقوسنا الدينية بحرية وسلام في عفرين قبل التدخل التركي، واليوم اضطررت لارتداء الملابس الإسلامية في الشارع على خلاف ما كنت عليه سابقاً”، تقول نورة التي كانت برفقة زوجها أثناء حديثهما عبر الهاتف والقلق يبدو واضحاً في كلامها، “سيتم قتلنا أو إجبارنا على اعتناق الإسلام”
عفرين المدينة الكردية التي كانت تقطنها قرابة 290 عائلة مسيحية من أصول كردية وبعض العائلات المسيحية من أصول أرمنية، باتت اليوم شبه خالية من التنوع الديني (مسلمين سنة، وعلوين، وأيزيديين ومسيحيين) الذي كان يميزها قبل عام 2018.
حصل ذلك بعدما عمدت فصائل مسلحة سورية (قرابة 56 فصيلاً) برفقة الجيش التركي إلى شنّ عملية عسكرية واسعة في منطقة عفرين الواقعة أقصى الشمال الغربي لسوريا، بحجة قتال وحدات حماية الشعب الكردية، وقد بدأ التدخل التركي في 21 كانون الثاني/ يناير عام 2018، ثم سقطت المدينة في 18 آذار/ مارس من العام نفسه.
وتُعرف الفصائل السورية الموالية لتركية بتشددها الديني ورفضها التنوع الثقافي والديني السوري، وكانت عفرين قد عرفت قبل الدخول التركي إليها بأنّها سوريا المصغرة نتيجة هجرة قرابة مليون سوري إليها من مختلف الطوائف والمدن السورية.
لم تتمكن نورة وعائلتها من مغادرة المنطقة بعد التدخل التركي، واليوم يخاف هؤلاء من الاختطاف أو القتل بتهمة “الردة” إن أشهروا معتقدهم الديني للعلن.
“نحن الآن ثلاث عائلات مسيحية بقيت في مدينة عفرين، لكننا لا نستطيع إشهار ديننا بين الغرباء، سيتم قتلنا بكل تأكيد أو إجبارنا على اعتناق الإسلام”، تشكو نورة مضيفة بالقول: “منازلنا خالية من رموزنا الدينية، لباسنا يشبه لباس الغرباء، حيث أخرج بغطاء رأس على خلاف سابق عهدي الذي كنت أنتقي فيه اللباس الأنيق المتوافق مع ثقافة مجتمعنا العفريني”. و”الغرباء” الذين تصفهم نورة هنا، هم من وفدوا إلى عفرين بعد سقوطها من أبناء حمص والغوطة وعائلات مقاتلي الفصائل المسلحة المعروفة بتشددها تحت الحماية التركية.
ودفع الغزو التركي أهالي المنطقة الأصليين أي الأكراد بنسبة 95% للهجرة القسرية، ومن ضمنهم المسيحيين الذين ناشدوا خلال أيام العدوان التركي المجتمع الدولي فرض حماية دولية على عفرين ومنع سقوطها أو وقف العدوان، وهو ما يُشير إليه القسيس فالنتين معلقاً: “رغم وصول صوت مسيحيي عفرين إلى لجنة الأديان والحرية الأمريكية والكونغرس وقتها إلا أنّ المصالح كانت أكبر”.
كيف تزايدت أعداد المسيحيين الأكراد؟
قبل عقدين من الزمن، اقتصر وجود المسيحيين في عفرين على عدد من العائلات الأرمنية التي هربت من الإبادة في تركيا بعد عام 1915، حينها استقبل الأكراد عدداً منهم وساعدوهم في إخفاء أثرهم، بينما تقدر الكتب المعنية بتاريخ عفرين عدد العائلات المسيحية من الأرمن بخمسين عائلة، إضافة لعدد قليل من العائلات المسيحية التي قدمت إلى عفرين في ظل الانتداب الفرنسي لسوريا.
وكان نشاط الكنيسة الإنجيلية بين الأكراد قد بدأ قبل 15 سنة من مدينة حلب، فيما يُشير القسيس إلى الأزمة السورية التي لعبت دوراً في زيادة عدد المعتنقين للمسيحية بين الأكراد.
“بعد الأزمة السورية، بات المجتمع أكثر تهيئة لاعتناق المسيحية نتيجة التطرف الظاهر في الدين الإسلامي وحوادث القتل والإرهاب التي انتهجتها بعض الفصائل المسلحة تحت اسم الإسلام، ما سبّب ردة فعل لدى بعض الأهالي الذين ابتعدوا عن النمط الإسلامي متجهين إلى الكنيسة”.
رغم ذلك، لم يكن للمسيحيين نشاط ملحوظ في عفرين، وكانت العائلات المسيحية من أصول كردية وأرمنية تمارس طقوسها الدينية في المنازل. وبعد عام 2013، تزايد عددهم نتيجة الهجرة العكسية من مدينة حلب باتجاه عفرين، حتى افتتحت كنيسة إنجيلية باسم “كنيسة الراعي الصالح” في المدينة عام 2014 وتم توزيع المنشورات الدينية التبشيرية باللغتين الكردية والعربية، إضافة لنُسخ من الإنجيل باللغة الكردية.
تتعدد الأسباب التي دفعت الأكراد لاعتناق المسيحية. يُرجع ريبر بكر الذي آمن بالمسيح عام 2006 ذلك إلى بحثه عن هذا الدين وتعاليمه حتى اكتشاف أنّه الخلاص له، فيما يشير القسيس فالانتين إلى أنّ “طبيعة شعوب الشرق الأوسط عامة مؤمنة بوجود الله، ويربطون آمالهم بالرب والإله، لذا من نفر من الإسلام لم يجد سوى المسيحية، والبعض الآخر اتجه للأيزيدية، لكن الدين الأيزيدي منغلق على نفسه ولا يقبل أحداً، على عكس الكنيسة التي تفتح بابها للجميع في كل مكان”.
فالانتين هو القسيس المشرف على الخدمة الكردية في الكنيسة الإنجيلية في لبنان وسوريا، وهو بدوره عانى من النزوح، إذ خرج من مدينة حلب مع بداية الأزمة السورية واستقر في عفرين التي كانت بمأمن من الحرب السورية لفترة طويلة، وسعى لنشر المسيحية هناك. وفي النصف الثاني من عام 2013، تزايدت أعداد العائلات المسيحية في عفرين نتيجة الهجرة العكسية، وبدأ هؤلاء بتنظيم أنفسهم بشكل أفضل مطالبين الإدارة الذاتية بافتتاح كنيسة في المنطقة.
تقبل الأهالي والإدارة في عفرين وجود عائلات مسيحية رغم الطابع الإسلامي السني الطاغي عليها، وغالبية أهالي عفرين هم من المسلمين السنة مع وجود طائفة علوية في ناحية “معبطلي”، وتوزع عشرات القرى الأيزيدية في عفرين، لكن الدين المسيحي لم يكن له توزع جغرافي معين ضمن عفرين.
يقول فالانتين “بدأ نشاطنا يتزايد رويداً رويداً، حتى أنّ عدداً من العلويين اعتنقوا المسيحية وكذلك الأيزيديين، وكان للكنيسة فرع خيري تحت مسمى جمعية نوروز، مدعومة من كنيسة الراعي الصالح وهي تابعة لكنيسة الاتحاد المسيحي الإنجيلية في حلب والرئاسة الرئيسية لها متواجدة في الشام ولبنان”.
مع التدخل التركي في عفرين، لاقى المسيحيون كباقي أطياف المجتمع العفريني معاناة كبيرة، ومع بداية نزوح المدنيين من القرى الحدودية في عفرين باتجاه المدينة، فتحت الكنيسة بابها لاستقال النازحين. وقدّمت بعض الكنائس ضمن سوريا مساعدات لكنيسة الراعي في عفرين لمساعدة النازحين، وخلال الأيام الـ40 الأخيرة في عفرين، قامت الكنيسة بتوزيع المساعدات، إضافة لشراء كميات كبيرة من حليب الأطفال والمواد الغذائية وتخزينها تحضيراً لحصار المدينة التي لم يتوقع أحد احتلالها بهذا الشكل.
تهمة المسيحي في عفرين “تهمتين”:
ريبر في منتصف عقده الثاني من العمر، وهو يدرس علم اللاهوت في لبنان لكنه يقطن في مدينة حلب. كان مكلفاً بخدمة العوائل المسيحية في ناحية راجو، وهي إحدى نواحي عفرين السبع، ويقول إنّه على تواصل مع العائلات المتبقية في عفرين، وكان على تواصل شخصي مع رضوان محمد الشاب المسيحي الذي اختطف في نهاية شهر تموز المنصرم، من قبل فصيل “فيلق الشام” المعروف بتشدده الديني وذلك بتهمة “الردة”.
هذه التهمة كانت مشهورة عند تنظيم داعش وحكمها القتل أو العودة إلى الإسلام، وهذه هي المرة الثانية التي يختطف فيها رضوان، إذ اختطف قبل عام وتعرض للتعذيب ودفع الفدية، وفق ما قاله ريبر.
ويُعرف “فيلق الشام” (أو “فيلق حمص”) بتشدده الديني، وكان يشكل حجر أساس في داعش، لكن نتيجة خلافات على السلطة انفصل الفيلق عن “جبهة النصرة” وأسس شبه إمارة في ريف حلب، إلى أن بات اليوم تحت لواء “الجيش الوطني السوري” الموالي لتركيا تحت مسمى “المعارضة المعتدلة”.
صير رضوان وشاب عفريني مسيحي آخر لم يكشف المصدر عن اسمه اختطف بعد شهر من الحادث الأول لايزال مجهولاً، رغم دعوة منظمة التضامن المسيحي العالمي (CSW) واللجنة الأميركية للحرية الدينية الدولية (USCIRF) السلطات التركية في عفرين لكشف مصيره.
“تهمة المسيحي في عفرين تهمتين، الأولى أنّه كردي والثانية هي المسيحية، وربما يشارك الأيزيدين في عفرين هذا المصير”، بهذه الكلمات يختصر ريبر حال مسيحيي عفرين اليوم، وُيشير إلى أنّ الأقليات الدينية في مناطق النفوذ التركي معرضة للإبادة بشكلٍ فعلي لذا فضل المسيحيون مغادرة عفرين بعد التدخل التركي.
إعادة تأسيس كنيسة الراعي في ظل النزوح:
استقر زهاء 150 ألف مدني من أهالي عفرين على بعد كيلومترات عدة في منطقة الشهباء، واليوم تقطن 180 عائلة مسيحية في تلك المنطقة وباقي العائلات استقرت في حلب ومناطق سورية أخرى والبعض خرج من البلاد.
في الشهباء، حوّل المسيحيون الذين تلقوا الدعم من قيادتهم الروحية في دمشق ولبنان بناءً قديماً كان حظيرة للأبقار إلى كنيسة يصلي فيها اليوم قرابة 300 شخص.
يصف القسيس فالنتين يوم تهجيرهم من عفرين بـ”الأسود”، ويتابع “تركنا منازلنا وكل شيء خلفنا، لكن نشكر الرب لأنّه فتح مناطق الشهباء أمام هذا الشعب واليوم تم افتتاح كنيسة الراعي في حلب، إضافة لافتتاح الخدمة الكردية ضمن كنيسة الاتحاد، وعدد الأشخاص الذين يحضرون في حلب قرابة 180 شخص وفي الشهباء قرابة 300 شخص يحضرون القداس يوم الجمعة صباحاً والثلاثاء لأجل الصلاة”.
أوضاع المسيحيين الأكراد في ظل نزوحهم اليوم لا تختلف عن أيامهم السابقة. أورهان حسن (25 عاماً) مقيم في منزل على مقربة من كنيسة الراعي بالشهباء، يقول “نمارس طقوسنا الدينية بكل حرية رغم نزوحنا، لكن يبقى البعد عن منزلنا وكنيستنا الأساسية في عفرين محط حزن كبير”.
الانتهاكات لن تتوقف:
يتواصل أورهان كباقي أبناء عفرين مع من تبقى في المدينة، ويؤكد أنّ الأحوال تزداد سوءاً كل يوم، فالكنيسة الوحيدة في عفرين تم الاستيلاء عليها من قبل فصيل “أحرار الشرقية”، وقد “سرقت محتوياتها وكل المؤن الغذائية المخزنة فيها منذ أيام الاستعداد للحصار المتوقع آنذاك، كما حفرت الأرضية بحثاً عن الذهب رغم أنّ الكنيسة حديثة الإنشاء”، كما يقول.
“طبعاً من بقوا في عفرين لا يمارسون أبداً طقوسهم الدينية”، كما يشير أورهان مؤكداً على منع معتنقي الديانات الأخرى عدا الإسلام من ممارسة طقوسهم كذلك.
التقى أورهان مؤخراً بعائلة مسيحية هربت من عفرين قبل أربعة أشهر. ويقول: “سمعت منهم عن الانتهاكات التي حدثت بحق المسيحيين الباقين في عفرين، وسمعت عن وحشية (الفصائل المسلحة) معهم وأنّهم تعرضوا للضرب والشتائم وللعنف بشكل مستمر، وقد خُطف البعض ومصيرهم إلى الآن مجهول”.
أفعال السرقة والخطف بهدف الفدية وحتى القتل وانتهاك حرمات الأماكن المقدسة للمسيحيين والإيزيديين والعلويين، باتت شبه يومية، وإلى اليوم لايزال مصير قرابة 3500 مدني تم اختطافهم مجهولاً، والاستيلاء على الأملاك الخاصة والعامة للمهجرين مباح باعتبارها “غنائم حرب”.
ويتوزع عدد من الكنائس الإنجيلية التي تقدم الخدمة للأكراد اليوم في سوريا ولبنان وتركيا، ويُشير فالنتين إلى أنّ الخدمة الكردية في تركيا (أزمير وغازي عنتاب وإسطنبول) تكون تحت حماية كنائس أخرى، خوفاً من الاعتقال والملاحقة الأمنية، في إشارة منه إلى أنّ وضع المسيحين الأكراد في إسطنبول لا يختلف عن حالهم في عفرين.