في سبيل عقيدة الربح.. العنف العاري في تركيا يهلك المجتمع ومحيطه الحيوي


2
تختلف عواقب أزمة البيئة التي تجتاح العالم نتيجة ارتفاع الاحتباس الحراري على المجتمع من منطقة إلى أخرى، بينما تكون المجتمعات في البلدان الغربية والصناعية المتطورة أمام عواقب ارتفاع الحرارة، يجد المجتمع نفسه في الشرق الأوسط وتلك البلدان التي تزعم بإنّها تسير في الطور الصناعي، بين فكي كماشة الأنظمة العنصرية والعواقب الطبيعية معاً، وتشكل تركيا نموذجاً مثالياً للحالة الأخيرة.

ففي الوقت الذي كان العالم منشغلاً في متابعة أخبار الحرائق التي تلتهم سلسلة الغابات المطلة على السواحل الغربية والجنوبية- وهو أشرس حريق يتعرض له البلاد منذ سنوات- كانت مدينة قونيا تشهد بالتوازي مجزرة مروعة بحق عائلة ديدي أوغلو الكردية والتي راح ضحيتها سبعة أفراد بدوافع عنصرية. حيث تداول النشطاء مقطع فيديو الحادثة على وسائل التواصل الاجتماعي بكثرة، الذي يتضمن عبارات عنصرية على لسان جيران العائلة المغدورة مثل:” لا نريد الكرد هنا، ليس مسموح لهم العيش هنا”.

في حين كانت للسلطة القائمة حسابات مغايرة، حيث حاولت مع قاعدتها الاجتماعية المتطرفة إخراج الحدث من سياقه وتوجيه مسار البوصلة بطريقة مضادة، التي تجلت في إطلاق تصريحات عنصرية في خضم انتشار حرائق الغابات التي تضرب عدة ولايات جنوب وجنوب غربي البلاد بعدما وصلت درجة حرارة في تركيا إلى 50. إذ يروّج أردوغان مع الجهات المحلية مثل مؤسسة الشؤون الدينية والصحف الموالية لحكومته بتعزيز خطاب الكراهية، وذلك حينما أكد بدون أي دليل ملموس بأنّ ” أبناء العائلات الكردية من تقف وراء الحريق”.

وعلى إثر تهيج خطاب الكراهية من قبل رأس الدولة، نقلت بعض المصادر الإعلامية من المواقع التي دمرت فيها الغابات والقرى بسبب الحرائق في الأيام الماضية، بأنّ السكان المحليون” القوميون والإسلاميون المتشددون” شكلوا حشود غير شرعية لملاحقة أي شخص يمت صلة بالهوية الكردية،. في حين كان عراب الدولة العميقة وحليف أردوغان، دوغو بيرنجيك، يطلق تصريحات على شاكلة “أفضل استجابة لحرائق الغابات هو إغلاق حزب الشعوب الديمقراطي”.

ثمة خيط مشترك بين الحدثين السابقين، ويقدم لنا مفردة ” التسمم” – بالمعنى الحرفي وليس المجازي- لوحة المناخ الاجتماعي والبيئي السائد في تركيا، بحيث تكمن وراء خطورة عواقب الكارثة الطبيعية الحالية كما يقول صلاح دمرتاش في تغريدة نشرت له على تويتر «الكارثة السياسية في البلاد».

وعليه، هل بالمقدور القول إنّ تركيا بقيادة السلطة الاستبدادية القائمة باتت مهددة للبيئة الاجتماعية والطبيعة وجودياً؟ وهل إيديولوجية الدولة الحاكمة تقرّ أساساً بأزمة البيئة؟ الإجابة على الشطر الأول ستكون غالباً بـ بنعم! وفي الشطر الثاني: لا!. ومن أجل إيضاح هذه العملية بصورة متداخلة ينبغي أخذ عاملين في الاعتبار: أولاً، مساعي حكومة اليمين المتطرف( أردوغان- باهجلي- برنجيك) بوجوب تأسيس قواعد جديدة للبلاد بحلول 2023، وهو موعد سنوي لمئوية اتفاقية لوزان. ثانياً، النزعة المفرطة للنمو الاقتصادي الصناعي وتسخير الموارد الطبيعة بما في ذلك” الحرائق” بغرض اللحاق بركب الأمم المتقدمة، وهي عقيدة التقدم المستقيم التي صبغت بنية الجمهورية منذ تأسيسها.

النمو مموه بالعنف:
لفهم هذه المعضلة، يجدر تسليط الضوء على بعض المفاهيم والسياقات المرافقة. فإن كانت بداية تأسيس الجمهورية متوافقة حينها مع قواعد الدولة القومية في فلك النظام الدولي، غير أنّ إعادة استنساخ هذه الهيكلية مع اقترب اتفاقية لوزان دون قياس متغيرات النظام الدولي الغربي على وجه الخصوص، ستضع مكانة تركيا المتأملة في مخيلة عقيدة اليمين الحاكم في تناقض مفضوح، فثمة عائق اجتماعي وثقافي متنوع يقف حائلاً أمام إعادة هيكلية الدولة القومية، وثمة لوائح ومعايير دولية تخص البيئة تعرقل عجلة عملية التحديث المنشود.

تبعاً للمعطيات الراهنة، يبدو أنّ صنّاع القرار في أنقرة عقدوا العزم على المضي قدماً صوب أهدافهم بصرف النظر عن العوائق المرافقة. ومن أجل ذلك تبدو استراتيجية “صناعة الحرب” ضد التنوع الثقافي والقومي والديني والجنسوي ضرورة ملحة، كما أنّ الاستغلال الانتهازي لموارد البيئة خدمة للنزعة الربحية المفرطة تناسب تماماً سلة الأهداف المطروحة.

هذه المقاربة ليست حدثاً طارئاً في تاريخ الدولة وأيديولوجيتها، ففي ورقة بحثية بعنوان “سياسة المناخ في تركيا: موقف متناقض؟”. أوضح كل من فكرت أدمان ومراد أرسال نقاط ملفتة في بحثهما المشترك:” منذ استقلال تركيا تشكلت عقيدة الدولة على أنها فوق المجتمع وخارجه، وتحتاج إلى ترسيخ هيمنتها على المجتمع إما بالموافقة أو بالإكراه، كشرط مسبق لوجودها”. وأضافت الدراسة بأنّ:” إيديولوجية “التحديث والنمو” في تركيا، تُنظر إليها كترياق لجميع القضايا، ومن المتوقع أن تنقل الأمة من خلال معدلات النمو في الناتج المحلي والإجمالي- باعتباره الهدف الرئيسي والوحيد- من حالتها الحالية (المتخلفة) إلى نقطة مستقبلية محددة مسبقاً (نظرية التاريخ المستقيم) تحددها التجربة الغربية”. وخلصت الدراسة بأنّ:” الحقيقة الفجة تتجلى عندما تصبح البيئة هي العائق أمام قانون التراكم والنمو، بحيث تتنصل الدولة من كل التفاهمات مع الجهات الدولية والمحلية”. ومن أجل ذلك تحديداً، كانت علامات السعادة تزين ملامح أردوغان عندما انسحب دونالد ترامب من اتفاقية باريس عام 2017، حيث قال حينها:” يجعل هذا الانسحاب من تركيا أقل ميلًا للتصديق على الاتفاق في البرلمان”.

عندما يشتد الخناق على تحجيم النزعة الربحية، ويجري التنصل من التفاهمات الدولية في الوقت عينه، ستكون استجابة الدولة التركية حسب عقيدة اليمين المتطرف بوجوب إدراج “صناعة الحرب” على أجندتها. ولدى ذكر عبارة “صناعة الحرب وعلاقته بالنمو والثراء”، يستوجب أن نضعها في إطار رؤية سرّي ثريا أوندر، الذي أوضح في مقابلة له مع صحيفة “دوفار” التركية وترجم نصها المركز الكردي للدراسات في وقت سابق، إذ يشدد أوندر:” عندما نقول “صناعة الحرب” لا نعني تجار الأسلحة فقط لقطاع الحرب، بل أيضا وسائل الإعلام والسياسيين والأكاديميين والمنظمات غير الحكومية والمافيا وجماعات المصالح الخاصة به، بينما تزداد هذه الشرائح ثراءً خلال الحرب، يُحتجز المجتمع في السجن”

وعلى نفس المنوال، ولكن بنظرة أعمق من حيث إنارة المفاهيم، يسدل أوجلان الستار عن هذه العلاقة في مرافعته الخامسة وهو يتطرق إلى عقيدة الإبادة ضد الكرد، حيث يشير:” المال هو أحد أكثر أشكال العنف نقاوةً، حيث يموه نفسه من خلال لمسة إيديولوجية الدولة القومية، ويحقن المجتمع بالعنف بنسبة هائلة، ويشن الهجوم على البيئة الطبيعية( الهجوم التكنولوجي)”.

استناداً على هذه المفاهيم، ينبغي إعادة تفسير أحداث غازي بارك، وهو أول حدث اجتماعي احتجاجي شامل ضد حكومة أردوغان. فقد كانت هذه الاحتجاجات تقف ضد التوسع الحضري على حساب التلاعب بالمساحات الخضراء من قبل الشركات القابضة والموالية لرجب طيب أردوغان. ومنذ تلك الحادثة انعرج البلاد في حالة من العنف المسرطن سواء ضد مناصري البيئة أو مطالبين بالتحرر الاجتماعي عموماً. وشكل استلام حكومة ترامب سدة الحكم في واشنطن والمعروفة بمواقفها المضادة لسياسة المناخ بمثابة “هدية من الله” للسلطة القائمة، حيث استغلت أنقرة هذه الفرصة احسن الاستغلال لتدشن نظام( أردوغان- باهجلي- بيرنجيك)، وذلك عقب إعلان حالة الطوارئ وشن حروب داخلية وخارجية ضد المجتمع والطبيعة، والهيمنة على مؤسسات الدولة، وحقن المجتمع بالعنف مع تسعير عصب الاستقطاب السياسي.

عقب هذا التاريخ، باتت عقيدة النمو والتحديث من قبل حكومة اليمين المتطرف تصون نفسها من خلال العنف العاري، حيث تدرج استخدام العنف عبر مستويات متنوعة ضد المجتمع – من قمع الاحتجاجات والاعتقالات المستمرة ضد نشطاء البيئة والمعارضين والحركة النسوية، والتحكم في شكل القانون والبرلمان والبلديات ومنظمات المجتمع المدني، وصولاً إلى حملة التصفية المستمرة ضد المقاومة الكردية، مجتمعاً وطبيعةً(هذه الأخيرة ستناول تفاصليها في المادة القادمة).

ويلات قطاعيّ البناء والطاقة:
تتمركز عقيدة التحديث والنمو بصورة خاصة في قطاعيّ البناء والطاقة، وهما من أهم الأعمدة لرصف النظام النيوليبرالي في تركيا منذ الثمانينيات القرن المنصرم. إذ أصبح الاستثمار الخاص والعام في العقارات (الجسور- الإسكان- المطارات- الموانئ- الطرقات) ساحة تثير لعاب المستثمرين، وخاصة عندما استغلت “هيئة الإسكان” كارثة زلزال 1999 المدمر كذريعة لتشريع المناطق الحضرية الجديدة عبر تحرير الاستثمار. إذ تزعم هذه الهيئة بأنها مملوكة من قبل الدولة وتعمل لصالح الخير العام، لكن في حقيقة الأمر، حسب ما يكشف الاقتصاد التركي المعروف مصطفى سونمز، بأنها ثاني أكبر شركة احتكارية لعملية الخصخصة في تركيا، بحيث تملك صلاحيات مطلقة في بيع الأملاك العامة وتحويلها إلى مشاريع استثمارية موزعة بين الرأسمال الدولي والمحلي، وذلك من خلال سوق الأوراق المالية. في حين تم تحرير الاستثمار في قطاع الطاقة منذ عام 2005، وتحديداً في قطاع الفحم الذي يستغل موارد الغابات من الخشب والفحم.

ويعتبر قطاع الفحم، الذي يدعم محطات الطاقة الحرارية، من الأسباب الرئيسية للانبعاثات الغازية في تركيا حسب الدراسات الدولية المختصة، حيث تنطلق ثلث انبعاثات الكربون من مناجم الفحم. وبذلك تعتبر تركيا من بين أكبر الدول المصدرة للانبعاثات في العالم، والتي ساهمت بدرجة كبيرة في زيادة الانبعاثات العالمية بين عامي 2008 -2020. كما وصُفت تركيا من قبل بعض الباحثين بأنها “مأوى التلوث” في العالم، وهذه المقولة عادةً تشير إلى السياسة الاستثمارية التي تبحث عن أرخص خيار من حيث استغلال الموارد والعمالة التي توفره الطبيعة والمجتمع بغية الوصول إلى أرباح سريعة.

أمام هذه اللوحة السوداوية تتالت تحذيرات من قبل الهيئات التابعة للأمم المتحدة والمراكز المعنية في حماية المناخ، إذ أشارت بأن تركيا لم تلتزم بخفض انبعاث غازات الاحتباس الحراري بنسبة محددة بحلول عام 2030، على الرغم من أنها إحدى الدول الموقعة على اتفاقية باريس، إلا أنّ البرلمان لم يصدق عليها إلى هذه اللحظة. علاوة على أن تركيا واحدة من بين عدد قليل من البلدان التي لا تجلس في أي من الكتل التفاوضية الرسمية في محادثات المناخ الدولية التي تشرف عليها اتفاقية الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ. فالممثل الدائم لتركيا لدى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، كريم ألكين، يقود حملة معارضة بشأن التصديق على اتفاقية باريس، نظراً أن تركيا -حسب ألكين- تعتبر في طور الدول الصاعدة صناعياً، وتحتاج إلى الطاقة الأحفورية ” الفحم والنفط والغاز” والتي تصل نسبتها حوالي 88% من الطاقة الاجمالية في البلاد.

وتكشف بضعة أمثلة من قبل نشطاء البيئة عن مدى الاضرار البيئية الناجمة عن قطاع البناء المدار من قبل هيئة الإسكان لوحده (التي تشمل الانبعاثات الناجمة عن طريق صناعة الإسمنت وزيادة النقل أثناء مرحلة البناء أو قطع الأشجار، أو الاستخدام الموسع للتدفئة في المنازل الجديدة). وحسب بعض الأرقام أن ما يصل إلى أربعة ملايين شجرة تم قطعها خلال بناء الجسر الرئيسي الثالث في إسطنبول، بينما تؤكد احصائيات أخرى أنه تم قطع ما يصل إلى 13 مليون شجرة لإحداث مطار في إسطنبول والذي افتتح عام 2018.

وقبل أشهر، شكل افتتاح قناة إسطنبول الواقعة في غرب البوسفور صدمة مروعة وسط المعارضة ونشطاء البيئة. فالمشروع حسب النقاد الذي يصل تكلفته حوالي 15 مليار من الرأسمال الأجنبي، سيربط بحر مرمرة بالبحر الأسود على بعد حوالي أربعين كيلومترًا، وستكون العواقب البيئية والاجتماعية على ستة عشر مليونًا من سكان إسطنبول ومنطقة مرمرة كارثية للغاية. بحيث سيدمر أولاً مساحات شاسعة من غابات إسطنبول المدمرة مسبقاً، مع بناء المزيد من المدن على طول القناة، فضلاً على أنه سيتم تغطية جميع المناطق الطبيعية في إسطنبول عمليًا بالمباني وستنمو المدينة من ثلاثة إلى أربعة ملايين شخص، وستصبح إسطنبول (وحشًا عملاقًا) حسب بعض التعليقات.

وحسب المراقبين، لم يكن من الممكن تمرير مناقصة المشروع لولا تلاعب حكومة أردوغان في تحجيم آلية قوانين بلدية إسطنبول. حيث وصف الرئيس الحالي لبلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلوا، المحسوب على حزب الشعب الجمهوري، بأن تدشين المشروع “خيانة لإسطنبول” نظراً أن 40% من تزويد المدينة بالماء تأتي من هذه الغابات التي تقع في الجانب الأوربي، كما أن 60% ممن شملهم استطلاع الرأي في إسطنبول رفضوا المشروع.

ومع ذلك، لم يأبه أردوغان لسخط الرأي العام وتحذيرات العلماء والمختصين، حيث يدافع أردوغان بشراسة عن المصارف الأجنبية المستعدة للمساهمة فيه، وقد تم توقيف مؤخراً عشرة ضباط سابقين على خلفية رسالة مفتوحة تعارض إقامة ” قناة إسطنبول”، وقد هاجم الرئيس التركي هؤلاء الضباط متهماً إياهم بالتلميح إلى “انقلاب سياسي”.

ومن المفارقة، لم يسلم حتى معقل أردوغان نفسه، مقاطعة ريزه، من الهجوم على الطبيعة. ففي مقربة من منزله دشنت شركة جنكيز القابضة مقلع حجري في نيسان الماضي. وتخطط الشركة استخراج 20 مليون طن من الحجر من مقلع في بلدة إيكيزدير في قلب الغابة المطلة على البحر الأسود. علماً أن شركة جنكيز من أكبر شركات الإنشاءات في تركيا والموالية للرئيس التركي، وهي نفس الشركة التي تساهم حالياً في انشاء مطار دهوك في كردستان العراق بعد مشاركتها في تأسيس مطار هولير الدولي.

مجدداً تشق هذه المشاريع المهددة للبيئة طريقها من خلال العنف الذي يفرضها الدولة، حيث قامت السلطات المحلية بقمع الاحتجاجات التي اندلعت بين السكان المحليين في البلدة، وفرضت حظراً شاملاً على السكان. وقد علق مهندس مختص في شؤون البيئة على هذه الحادثة بأن أردغان يفتتح مشاريع من خلال خطابات منمقة إلاّ أنهم:” يحبون اللون الأخضر للدولار أكثر من خضرة الأشجار”. وعلق خسرو أوزكارا، نائب رئيس جمعية الغابات:” الأمر لا يتعلق فقط بقطع شجرة واحدة، فالضرر الفعلي يهدد النظام البيئي برمته”.

وتنطبق هذه المقاربة على محطة الطاقة الحرارية التي تعمل على الفحم وتبلغ تكلفتها 1.7 مليار دولار والتي يتم بناؤها على الساحل الجنوبي لتركيا بالقرب من أضنة، وهو أكبر مشروع استثماري صيني مباشر في تركيا. حيث تمتلك شركة (Shanghai Electric Power) الصينية 78.21 بالمائة من أسهم المشروع. وقد أثار المشروع معارضة محلية ووطنية قوية للغاية بسبب آثاره الملوثة للصحة والبيئة والمناخ. والأمر يسري أيضاً على استثمار المناجم الواقعة في غابات مانيسا التي تتعرض إلى الحريق حالياً.

وتشير الأخبار المتداولة في الأيام القليلة الماضية بأن النيران الناجمة عن حرائق الغابات اقتربت بشكل خطير من محطة الطاقة الحرارية في كيميركوي بمدينة موغلا الواقعة على السواحل الجنوبية الغربية، حيث يوجد في المحطة 40 الف طن فحم، وإذا ما تعرضت المحطة إلى الحريق حسب الخبراء، ستنتشر الغازات السامة في الغلاف الجوي نتيجة احتراق الفحم داخل المصنع بطريقة قد تخرج عن السيطرة.

ففي كل هذه المشاريع نجح عنف الدولة في قمع أصوات النشطاء البيئيين والمجتمع المحلي والمعارضة بغية مواصلة طريق الربح والنمو بصرف النظر عن التكاليف البيئة والاجتماعية الناجمة.

استغلال حريق الغابات:
ولعل طريقة تعامل حكومة أردوغان- باهجلي مع اندلاع الحرائق الحالية في جنوب غربي البلاد، تقدم لنا نموذج شفاف حول كيفية استغلال الكوارث الطبيعية لصالح النزعة الربحية المفرطة. إذ تروج دعاية الدولة – التي لا تعترف بسياسة التغير المناخي- بوجود نظرية المؤامرة التي تقف خلف الحرائق بغية إمعان حملة التطهير والقمع ضد الخصوم. وبنفس الوقت تستغل هذه الكوارث لتمرير المزيد من مشاريع التمدن الجنوني خدمة للمستثمرين العاملين في دائرة تحالف أردوغان – باهجلي- بيرنجيك.

ففي 17 تموز/يوليو الماضي، أقر البرلمان التركي عبر الضغط والتنسيق بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية قانوناً جديداً يسمح بتدشين البناء لأغراض “السياحة” في أراضي الغابات. وحسب نص القانون، سيتم تحديد المناطق التي تحدد للبناء من قبل أردوغان حصراً. هنا علينا أن نستعين بالكاتب الاقتصادي التركي، مصطفى سونمز، الذي كشف وظيفة مؤسسة هيئة الإسكان على أنها تقوم بترتيب هيكلية المؤسسات مثل البلديات وتمرير قوانين داخل البرلمان والحكومة انسجاماً مع النزعة الربحية المحضة. واستناداً لذلك، يبدو مفهوماً من كان يقف وراء هذا القرار في البرلمان. سيما أن ذات المؤسسة استغلت الحرائق المندلعة في الوقت الحالي، لتطلق حملتها الدعاية بغرض تدشين المنازل على انقاض القرى والغابات التي ما تزال تتعرض إلى الحريق.

وجاءت تصريحات رئيس بلدية غوندوغموش في أنطاليا، محمد أوزيرين، وهو عضو في حزب العدالة والتنمية، لتبرهن صحة حيثيات استغلال كارثة الحريق خدمة للأرباح والمنافع المتوقعة بين حكومة أردوغان ومؤسسات الإسكان، إذ أشار:” منازل مواطنينا أصبحت غير صالحة للاستعمال، ستقوم هيئة الإسكان في تركيا (TOKİ) ببناء منازل لهم بالطريقة التي يريدونها، مع فترة سداد تصل إلى 20 عامًا”. وقال أوزيرين الذي أثار أقواله غضباً عارماً على مواقع التواصل الاجتماعي:” إن المواطنين، التي أصبحت منازلهم قديمة جدًا، سيقولون نتمنى أن تكون منازلنا قد احترقت أيضًا”. وعلينا أن نسأل بصورة مباشرة: لخدمة من تصب حريق الغابات المندلعة في السواحل التركية الغربية والجنوبية؟

ينبغي أن نضيف إلى هذه الاعتبارات حمولة التحذيرات المرسلة من قبل الجهات الدولية المعنية إلى حكومة أردوغان حول الاضرار المتوقعة من التغير المناخي، حينها ستضح ملامح سياسة النفاق القائمة في البلاد دون لبس. إذ أرسلت تلك الجهات إنذارات دورية مبكرة تفيد بأن:” تركيا التي تقع في الطرف الشرقي من حوض البحر الأبيض المتوسط، من المتوقع أن تتضرر بشكل كبير من الجفاف بسبب تغير المناخ. كما ستواجه درجات حرارة قصوى في الصيف. ويحدد بلاغ من قبل الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ عن مدى تعرض تركيا إلى مستويات متزايدة من الإجهاد المائي والتصحر في الغابات والآثار الصحية والحرائق التي قد تنجم من تغير المناخ”.

مثل هذه الوقائع والتقارير تكشف لنا أمرين: أولاً، إن سياسة البلاد لا تأبه بالدراسات العلمية المنزهة من الأهداف الربحية، بل تؤمن مثل أنصار اليمين المتطرف في العالم بالذهنية العلمية الدوغمائية (العلموية المتطرفة) التي تدعم النزعة الربحية دون اعتبارات اجتماعية وبيئة محتملة. ثانياً تفند نظرية المؤامرة التي تروج لها السلطة الحالية حيال الحرائق القائمة في البلاد، بل تحمل المسؤولية بصورة مباشرة على كاهل الحكومة المتطرفة، وتسدل القناع عن علاقة السلطة والمال في استغلال الكوارث الطبيعية والبشرية.

الأموال الساخنة:

تركيا التي تعيش في أزمة اقتصادية مستشرية منذ سنوات لا يمكن لوحدها تبني مشاريع النمو والتحديث. ومن أجل ذلك، تتخذ من الاستثمارات برأس المال الأجنبي / أو قروض أجنبية عبر الشراكة مع الشركات القابضة القريبة من السلطة السياسية في البلاد. لأنّ لا الدولة ولا الشركات الخاصة المحلية لديها الرأس المال الكافي لهذه المشاريع الكبيرة. إذ تبلغ حجم ديون الدولة حوالي 450 مليار يورو مع البنوك الأجنبية، والتي بالكاد تستطيع سدادها. وتدرك الشركات الدولية كيفية استغلال الوضع بدعم نشط من حكوماتهم ومن خلال تسخير الشركات القابضة المحلية أو الهيئات التابعة للدولة( مثل شركة جنكيز العقارية- ومؤسسة الإسكان).

وحسب المعارضة، فإن المناقصات الممنوحة للشركات القابضة “العصابة الخماسية” وفق زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال قليجدار أوغلو، هي وسيلة لإبقاء أصدقاء أردوغان في قطاعي البناء والطاقة سعداء بدلاً من تلبية حاجة حقيقية للبنية التحتية. علماً أن نسبة البطالة حسب بعض الأرقام الواقعية قد تصل إلى 30% بالمئة مع الانهيار المستمر للعملة الوطنية. في حين يضيف كل من فكرت أدمان ومراد أرسال في الدراسة المذكورة أعلاه بأن :” تركيا شهدت تحت حكم حزب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة معدلات نمو عالية من انبعاثات الغازات، يغذيها بشكل أساسي قطاعي الطاقة والبناء – التي تم تمويلها إلى حد كبير من خلال دخول الأموال الساخنة (الاستثمارات السريعة التي تعطي انطباعات وهمية عن النمو الاقتصادي).

في دولة ديكتاتورية مثل تركيا، حيث يتم تفكيك المعايير الاجتماعية والبيئية الضعيفة بشكل متزايد، تؤدي الاستثمارات السريعة إلى تدمير شديد للطبيعة والناس. علاوة على ذلك، لا يتم احترام اللوائح والقوانين القائمة عمداً إذا كانت تقف في طريق الاستثمار المعني.

وعلى سبيل المفارقة، يحدد قانون البلديات الصادر عام 1932، من بين العديد من اللوائح التفصيلية المشابهة، المعايير الخاصة بكيفية نقل ديوك إلى الأسواق المحلية! ومن ثم، إذا كانت البيئة ستتم حمايتها، فسيتم تحقيق ذلك من خلال جهاز الدولة نفسه، دون ترك مجال لأيّة وكالات أخرى، وخاصة إذا كانت تلك الدولة تسخر عقيدة النمو والتحديث واستغلال الكوارث الطبيعية بغية شق طريقها في قلب المجتمع والطبيعة عبر صناعة الحرب والعنف. والسؤال القائم: هل تستطيع هذه السياسة الاستبدادية أن تعقد الوفاق مع النظام الدولي القائم؟

2
في تصريح شهير عام 2014، وصف المنسق العام السابق لما يعرف بـ«مشروع جنوب شرق الأناضول» في معرض حديثه عن غرض المشروع على أنه: «مختبر حيث يمكن لعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والعاملين في حقل الهندسة تطوير مهاراتهم ويتعلموا أشياء كثيرة». لدى الاقتراب أكثر من تفسير مضمون هذا المختبر ستقع حركة أبصارنا، ودون مقدمات، صوب كتلة بشرية تبلغ أكثر من 10 مليون فرد، وتعيش على جغرافية كردستان، الغنية بثرواتها الباطنية والسطحية، والتي مع ذلك تعتبر الأفقر على المستوى الوطني في تركيا.

حسب صنّاع ” المختبر” سيكون إتباع نظرية “المهمة الحضارية والتنمية” خياراً أداتياً بغرض تأهيل هذه الكتلة ووضعها في السياق التنموي المفترض، لكنّ فعلياً تسعى إلى تنفيذ ثلاثة أهداف فيما يخص الواقع الكردي، الأول، إنكار التنوع الثقافي لصالح التجانس القومي (الصهر وضبط السياسة السكانية). الثاني، مراكمة المال من خلال تسليع البنية الاجتماعية والطبيعية (التصنيع وقانون الربح التراكمي). الثالث، تسخير صناعة العنف من أجل تدمير المجتمعات المحلية من إبداء قدراتها على الإدارة الذاتية (الإبادة الثقافية والسياسية عبر عنف الدولة).

هذه العمليات الثلاثة متداخلة تبعاً لنظرية العالم الاجتماعي الالماني، جورج إلويرت، تختزل في مفهوم «أسواق العنف». ويعرف إلويرت طبيعة أسواق العنف هذه على أنها:” يتم تقديم العنف فيها أداة فعالة لتشويه الموارد البشرية والمادية واستملاكها وضرب الحياة الاجتماعية والإيكولوجيا. ومن ناحية أخرى، ثمة عوالم “خالية من العنف” ترتبط فيها الأسواق وتعيد إنتاجها إلى بقية العالم، وذلك عبر المنظمات والمؤسسات القومية أو الدولية، هذان المجالان، اللذان يبدو أنهما متضادان، متشابكان مع بعضهم البعض”. ويستطرد إلويرت:” بأنه يمكن العثور على أسواق العنف في المناطق الجغرافية التي يتم فيها ممارسة التجريم والعسكرة واستخراج الموارد وتهجير السكان المحليين”.

ينبغي أن نصقل على هذه الرؤية تتمة نظرية الجغرافي الأمريكي والمؤرخ البيئي، جيسون مور، الذي فسر عملية النمو الرأسمالي على أنها طريقة جديدة لتنظيم الطبيعة وذلك من خلال الانخراط في صناعة البيئة وتفعيل العمليات الاقتصادية من أجل استغلال الغذاء، والطاقة، والموارد الخام وقوة العمل التي تكون عادةً خارج نظام التسليع، ومن ثم إدراجها إلى دائرة مراكمة رأس المال.

في حين يستكمل العالم الاجتماعي، ديفيد هارفي، جوانب غير مضيئة أعلاه، عندما يلفت النظر إلى الطبيعة المراكمة لليبرالية الجديدة عبر عملية «السلب» إثر تجريد السكان المحليين الذين يقعون خارج دائرة التسليع السوقي العالمي من مصادرهم المادية والاجتماعية والإدارية، ومعها تنقلب نمط حياتهم الثقافية والتاريخية ومحيطهم الحيوي.

خلفية المشروع

استناداً إلى هذه المفاهيم، يشكل ” مشروع جنوب شرق الأناضول ” مختبراً عينياً لتجسيد هذه الاستراتيجية، حيث يعود بوادر ظهوره إلى بدايات تأسيس الجمهورية التركية، عندما دعا أتاتورك ضمن “خطة إصلاح الشرق” عام 1925 بوجوب رسم خرائط للأنهار الجنوبية الشرقية(كردستان) داخل أحواض دجلة والفرات، لتكون نقطة انطلاق بغية تسخير إمكانياتها من أجل تلبية احتياجات الطاقة المتزايدة في غرب البلاد، نظراً أن تركيا كانت تفتقر إلى الطاقة النفطية والغازية. لكن علينا أن نتذكر بأن هذه الخطة تتضمن أيضاً حظر اللغة الكردية في مؤسسات الرسمية والمدارس والمحاكم وأسواق العمل والشوارع.

فعلياً، تأسس المشروع 1954 تحت يافطة “التنمية” في قطاع الطاقة وتحديث الزراعة والري وتوريد المياه الشرب، وذلك على مساحة تصل إلى 1.8 مليون هكتار، ويعد بذلك من بين أحد أكبر مشاريع تطوير أحواض الأنهار في العالم، حيث يتضمن 13 مشروعًا للري والطاقة الكهرومائية، بما في ذلك بناء 22 سداً وإنشاء 19 محطة لتوليد الطاقة الكهرومائية على نهريّ دجلة والفرات.

اتخذ المشروع من تسع محافظات ذات الأغلبية الكردية حقلاً له، حيث تبلغ نسبة سكان الكرد حوالي 90%. وهذه المحافظات هي: اديمان، غازي غينتاب، كلس، ديار بكر، سيرت، اورفا، ماردين، شرناخ، باتمان” (يمكن إدراج باقي المحافظات الكردية). كما تحتوي المنطقة 20٪ من الأراضي الصالحة للري في البلاد، وهي بذلك تعتبر سلة خبز البلاد. ووفقاً للأرقام الرسمية الصادرة لهذا العام، فقد تم الانتهاء بالفعل من 78٪ من إنتاج الطاقة الكهرومائية المخطط له، و54٪ من مشاريع الري. وقدرت تكلفتها إلى هذه اللحظة حوالي 28 مليار دولار.

تاريخياً، طرأت تعديلات استراتيجية في تنويع لغة أهداف المشروع، تماشياً مع التغيرات في الخطاب الاقتصادي التنموي الدولي. فمثلاً في فترة الثمانينيات تم توسيع المشروع ليتضمن التخطيط والبنية التحتية (التنمية المتخلفة)، وتبعها إدخال مفاهيم جديدة مثل ” الاستدامة والمشاركة والتنمية البشرية “في التسعينيات (التنمية المفرطة)، وفي عام 2000 وصاعداً، أصبح مشروعًا موجهًا للبناء على طلب السوق والتصدير بعد إعادة هيكلة الاقتصاد السياسي التركي تناسباً مع عقيدة الليبرالية الجديدة. وتداولت معها مفاهيم مثل، استغلال الإمكانات المحلية، وإعطاء الأولوية لاستثمارات القطاع الخاص، والقدرة التنافسية (ما بعد التنمية). باختصار، تحول المشروع تدريجياً من بنية تحتية تقودها الدولة بالتنسيق مع البنك الدولي في مجال الطاقة والزراعة إلى مشروع يغطي مجالات السياحة والتعدين والبناء والتمدن والتعليم والصحة وذلك عبر رأس المال العولمي (البنوك الخاصة والاسهم المالية).

إمحاء القضية الكردية

بعيداً عن حيادية المصطلحات التقنية التي تغلف الوقائع العملية والتاريخية، ينبغي إيضاح غاية المشروع من زاوية معالجته للقضية الكردية على وجه الخصوص. إذ يقوم حزب العدالة والتنمية المتحالف مع الحركة القومية المتطرفة بتأطير شرعية المشروع في التحول الاجتماعي والاقتصادي وفق منظور “مكافحة الإرهاب”. وهذه الصيغة كانت رائجة في أوائل ومنتصف التسعينيات التي شهدت أبشع جرائم الحرب الشاملة ضد البيئة والمجتمع في كردستان. ويلخص تصريح رئيس إدارة لمشروع السابق، معمر يشار أوزغول، فحوى هذه المقاربة، حيث يقول:” عبر ضخ المزيد من الاستثمارات الزراعية لتحسين المشروع، من شأنه أن يعطي زخماً لاقتصاد المنطقة، بحيث تساهم في حل مشاكل البطالة والتخلف الاقتصادي، وهذا بدوره سيقضي إلى حد كبير على المصادر الاقتصادية والاجتماعية للإرهاب”.

ومن أجل تخفيف هواجس المستثمرين، تتبنى حكومة أردوغان مثل باقي الحكومات السابقة استراتيجية صناعة الحرب، معززةً أواصرها مع قانون الأحكام العرفية في المناطق الكردية التي فرضتها الدولة منذ عام 1987 ضد الكفاح الكردي. ومنذ فشل عملية السلام عام 2015، تم الاستيلاء على صلاحيات البلديات المحلية وتصفية المنظمات المدنية واعتقال قيادات حزب الشعوب الديمقراطي، وتبع ذلك شن حرب بربرية مع تشكيلات إرهابية محلية وإقليمية ضد مناصري حزب العمال الكردستاني في تركيا، لتطال باقي المناطق الكردية في سوريا وكردستان العراق (ستكون تفاصليها محور المادة القادمة). وذلك بهدف إزالة المقاومة المحلية أمام قانون النهب والسلب (الربح).

تجفيف مصادر البيئة

بيد أنّ هذه المقاربة بدأت تداعياتها تخرج عن حسابات صنّاع القرار في الآونة الأخيرة وذلك من بوابة أزمة البيئة، حيث باتت آثارها تضرب العالم برمتها وعلى رأسها تركيا، ويؤكد جورج إدغار ديسينجر الذي كتب دراسة شاملة بعنوان :” النزوح الناجم عن السدود في جنوب شرق تركيا “، عن مدى اصطدام التي تسببه النزعة الربحية الجامحة مع الكوارث البيئة الناجمة، ويربطها مع عواقب وخيمة قد تدفع ثمنها المجتمع الدولي والمحلي معاً، قائلاً :” العالم الذي أصبحت فيه انبعاثات الكربون تتزايد بصورة مخيفة، يعمق هذا المشروع القضايا البيئية والاجتماعية بصورة غير مسبوقة، بحيث تشمل التملح وتآكل التربة وتدهور الهواء والماء والتلوث، فضلاً عن التغيرات في استخدام الأراضي والتمدن والتصنيع المفرط”.

تركيا التي لا تعترف إلى هذه اللحظة بقضية المناخ ولم تلتزم بنص اتفاقية باريس، تعاني من الجفاف وارتفاع درجات الحرارة بصورة غير معهودة نتيجة الاحتباس الحرارة وقلة سقوط الأمطار. حيث سجلت في 20 يوليو/تموز رقما قياسياً في مستوى درجات الحرارة التي وصلت إلى 49.1 درجة مئوية في بلدة جزرة بمحافظة شرناق. وعليه، ستكون هذه المنطقة التي تشمل مشروع جنوب شرق الأناضول أكثر عرضة للتصحر وتآكل التربة حسب توقعات مدير مركز التغير المناخي في اسطنبول، ليفنت كورناز، والذي شدد بأن هذه المنطقة قد تصبح مثل البصرة في العراق على المدى المتوسط، إذا ما استمرت الأمور على حالها، وبالتالي ستكون المسألة مرتبطة بشكل مباشر بانهيار الأمن الغذائي برمته.

في ظل هذه المخاطر الموضوعية لا تزال الدولة التركية متشبثة بنظرية التقدم المستقيم التي تشدد بأن ضريبة التنمية يجب أن يدفعها المجتمع والبيئة من أجل غدٍ واعد. وبخلاف من هذه النظرة العقائدية المتصلبة، تبرهن الدراسات العلمية التي تراقب مسار التنمية في هذا المشروع، بأنه فشل على كل مستويات، وعلى رأسها، قضية التحديث الزراعي التي عمقت من تمليح التربة وضربت التنوع البيولوجي بسبب القيود المفروضة على حركة الكائنات الحية، نتيجة إنشاء الخزانات على السدود وشق القنوات والبركات المائية الصناعية التي دمرت معاقل المحيط الحيوي للثروة الحيوانية.

وبدورها، سممت الزراعة الصناعية وتآكل التربة ملايين الهكتارات من الأراضي، بحكم أن طريقة النمو الرأسمالي أثناء معالجة الثروة الزراعية – القطن والحبوب- والثروة الحيوانية التي تجري عبر آلات الصناعات الغذائية والسدود الصناعية، فإنها تتجه إلى مواردها واستغلالها وتدميرها، ثم تنشأ علاقة جديدة بعد الربط الجوهري بين أهداف الإنتاج الربحي المفرط والمزارع الصناعية والموارد الطبيعية المستغلة. وهذه العملية التحديثية بالذات تشهد حالياً آثار بيئية جانبية مدمرة في مشروع جنوب الشرق الأناضول، موطن الثورة الزراعية تاريخياً.

تهديم الآثار وإعادة ضبط السكان

بطبيعة الحال لم تتوقف آثار إنشاء الخزانات على نهريّ دجلة والفرات على المحيط الحيوي فقط، بل ستجرف المواقع التاريخية والأثرية وتفرض التهجير الجماعي. ويتضح ذلك عند سرد بضعة أمثلة مقتضبة: فقد غُمرت أربع بلدات ونحو 143 قرية إثر خزان سد أتاتورك، مع موجة التهجير وصلت إلى 55300 شخص، في حين تسبب إنشاء سد إليسو على نهر دجلة في محافظة باطمان بغمر مناطق أثرية تاريخية في قرية حسنكيف الكردية، وشُرد حوالي 70 ألف شخص من سكان المنطقة. بينما أقتلع سدود منذر، الكتلة الاجتماعية الوحيدة في محافظة ديرسم الشمالية والتي لا تزال تتحدث باللهجة الكردية الزازاكية من موطنهم التاريخي، حيث ستغرق هذه السدود أيضًا الأماكن التاريخية المرتبطة بانتفاضة الشيخ سيد رضا “انتفاضة ديرسم” والتي تعتبر الذاكرة التاريخية للكرد. بينما غمر سد بيريجيك المطلة على الحدود السورية، مساحة هائلة من الأراضي الزراعية العائدة إلى 31 قرية، وهجر على اثرها حوالي 30 ألف شخص، ومعها انغمرت بلدة خلفتي الشهيرة تحت نهر الفرات، البلدة التي باتت تستذكر بين السكان المحليين بـ:” الجنة المفقودة”.

عموماً، تكشف الأرقام الرسمية بأنه نزح أكثر من نصف مليون شخص بسبب السدود وحدها، ومع استمرار حكومة العدالة والتنمية بتوسيع سياسة السدود منذ عام 2002، فقد تضاعفت الأرقام بصورة غير مسبوقة، مما دفع بالمراقبين بأهمية ربط هذه المقاربة مع سياسات التهجير والصهر التي انتهجتها الدولة التركية عبر قوانين إعادة التوطين في عام 1927 – 1934.

لكن القضية لا تتوقف عند عتبة النزوح القسري، ثمة مخطط مسيّس من قبل مؤسسات الدولة ينبغي استكماله حسب الخبراء، وخاصة في مسألة التعويض وإعادة التوطين وحقوق الملكية. حيث راقب جورج إدغار ديسينجر في بحثه المذكور هذه التفاصيل بدقة، وخرج بنتائج هامة، إذ يشير بأن العديد من النازحين تركوا دون التعويض المستحق قانونياً بسبب التحايل على حقوق ملكية الأرض، سيما أنّ قبول المرء سعر الأرض المقترح من قبل الدولة تحت الضغط، يستوجب التنازل معه عن الأرض ونمط الحياة. ستراقب الباحثة سيجدم كورت آثار هذا الانقلاب على حياة السكان، وذلك في كتابها:” العائلات النازحة: سبل عيش الأسرة والعلاقات بين الجنسين”. إذ يتعقب الكتاب مسار حياة النساء والفتيات الصغيرات اللواتي اصبحنّ عرضة لسياسة الأجور الزهيدة والتعليم باللغة التركية في المدينة، بعدما تركوا موطنهم التاريخي، وهي فكرة تهدف للقضاء على الشبكات الاجتماعية والثقافية التقليدية وتدفع نحو تفكيك الأسرة.

وبالعودة إلى قضية توزيع حقوق الملكية، فقد كشف دسينجر بأن إشكالية التعويض وإعادة تخصيص الموارد الاجتماعية والطبيعية أفضت إلى إعادة ترسيخ نفوذ كبار ملاك الأراضي الزراعية بما تتناسب مع أهداف أنقرة الاستراتيجية. ففي مشروع أتاتورك على سبيل المثال، كانت النخب المحلية المتواطئة مع أنقرة، على دراية أفضل حول كيفية إثبات ملكية الأرض التي ستشمل مناطق بناء السد، وذلك عبر عمليات الفساد مع جمعيات الري.

وتشير الدراسة بأن المزارعين كانوا يشكلون حوالي 65% ويملكون حوالي 10% من الأرضي الزراعية بعدما تقاعست الدولة عن عمد في تطبيق قانون الإصلاح الزراعي، بينما كان كبار الملاك، والذين يشكلون حوالي 10%، يستحوذن على 65% من أراضي المنطقة، لكن نسبة كبيرة من الأراضي التي تم تدشين السد عليها كانت ملكيتها مشاعيه. وفي نهاية المطاف، استغلت هذه الشريحة ملكية الأراضي المشاع بالتواطؤ مع جمعيات الري، بحيث سنحت لهم المبالغ التي حصلوا عليها من التعويضات بإعادة شراء أراضي جديدة، وهذه الخلاصة تتفق مع وجهة النظر الباحث المختص في تقييم مشروع جنوب شرق الأناضول، أردا بيلغن.

وحسب الدراسات المذكورة، فإن تعزيز نفوذ الهياكل الاجتماعية الجديدة المتواطئ، ربما تقلل -حسب وجهة نظر أنقرة- من المقاومة الشعبية ضد التنمية المزعومة، وبنفس الوقت تشدد الخناق على الشريحة المؤيدة للنضال الكردي الحقوقي، سيما أنّ صغار ملاك الأراضي لا يستطيعون دفع المبلغ الذي تحدده جمعيات الري في شراء الأراضي الجديدة، وكان عليهم تسليم أنفسهم مجبرين للمستوطنات الحكومية المشيّدة، وهي أماكن جديدة تخضع للرقابة وقانون الصهر. علاوة على أن تم استيراد عمال المناجم من غرب تركيا بعدما تم استبعاد السكان المحليين، مما أدى إلى نوع من ضخ الأتراك إلى المنطقة، وهذا يبرهن بأن عملية النزوح القسري كنظام أساسي للتنمية يوازي جهد مضاعف لتوطين الأتراك عوضاً عنهم وفق ديسنجر.

يتفق آردا بيلغن مع ديسنجر حول أهداف المشروع فيما يخص التجانس القومي التركي، لكنه يضيف أيضاً بأن مؤسسات التنمية الدولية والحكومات والخبراء والاستشاريين وتعليمات الحكومة المركزية مع المنظمات غير الحكومية تحاول فرض رؤية نخبوية والتدخل والهندسة الاجتماعية من الأعلى ضد تركيبة السكان المحليين.

وفي المحصلة، تشير الأرقام الرسمية من مؤسسات الدولة التركية نفسها بأن نسبة البطالة في كل من ماردين وباتمان وشرناق وسيرت وصلت إلى 30.9 %. في حين يشكل نصيب الفرد من الناتج القومي في مناطق غرب تركيا حوالي 27 ألف دولار، بينما يكون في محافظة أورفا حوالي 9 آلالف دولار.

هذه الأرقام بطبيعية الحال لا تكشف الوقائع الملموسة، لكنها تبين ولو نسبياً بأن حصة السكان المحليين من عائدات المشروع تكاد تكون معدومة، في حين تكون حصة الأسد من نصيب فئة صغيرة محلية متواطئة مع المستثمرين في غرب تركيا والعالم. وبذلك يصبح شعار المشروع الهادف إلى تقليل الفجوة بين الغرب والشرق بمثابة عنوان مثير للدعاية والسخرية.

دوافع مبيتة

ونظراً أن المشروع برهن على فشله تنموياً، ينبغي أن نعود إلى دوافعه الفعلية من جهة مكافحة القضية الكردية، وذلك مع كل من روبرت حاتم ومارك دورمان في بحثهما الرصين، الذي جاء بعنوان:” حل تركيا لـ ” القضية الكردية”.. تحديات أنقرة”. إذ تطرح الدراسة ثلاث وجهات نظر من قبل صنّاع القرار في أنقرة بغية معالجة القضية الكردية ليس من منظور حقوقي وإنساني، وإنما من خلال أستئصالها من الجذور: الاولى، تنبع القضية بسبب الدعم المحلي لحزب العمال الكردستاني مما يستلزم السيطرة والمراقبة على السكان، وتشكيل جماعات موالية لأنقرة. الثانية، القضية الكردية تنبع من الفقر الحضاري والاقتصادي للمنطقة التي تشكل بذرة مساندة التمرد، وبالتالي يلزم إيجاد حلول تنموية تهدف إلى التهجير القسري والتدمير الثقافي وتشجيع التمدن والصهر التعليمي على غرار سياسيات الهجرة مثل قانون 1927-1934. الثالثة: القضية الكردية تتلقى الدعم من الدول الإقليمية أحياناً والمجتمعات الكردية المنتشرة في العراق وسوريا، ويلزم الضغط على هذه الحكومات من خلال ورقة المياه وضبط الحدود، وتالياً ينصاع السكان المحليين لمتطلبات الدولة عنوةً، ويبتعدون عن مناصرة حزب العمال الكردستاني.

وأكدت الدراسة بأن مشروع جنوب شرق الأناضول يقدم حلاً شاملاً لهذه المزاعم الثلاثة، ويحظى دوماً بموافقة أغلبية القوى الحاكمة مع الطبقة الاقتصادية المتحالفة مع السلطة. إذ يمكن للمشروع علاج مشكلة ” الإرهاب المحلي” عن طريق الحد من التنقلات الداخلية عبر بناء السدود ومشاريع البنية التحتية ومحطات الطاقة وتركيز السكان في المدن، مما يسهل آلية السيطرة والعبور العسكري السريع. تحظى هذه الرؤية برضى الجيش والأمن والدولة العميقة عموماً. وبمقدور المشروع علاج القضية الكردية إقليمياً من خلال تزويد الحكومة التركية بأداة لتهديد الدول الجوار عبر بناء السدود والجدران العازلة وحرق الغابات وتسهيل التوغلات العسكرية، وذلك لإخضاع هذه الحكومات تحت تصرف رغبات أنقرة. وأخيرًا، يستطيع حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية من خلال تشجيع النمو والربح في المنطقة مع تجاهل القضايا الأساسية المعنية بالقضية الكردية، واستمرار سياسة صهر المجتمع عبر القوة والتهجير وإعادة الضبط. ويحظى هذا البند على وجه الخصوص قبولا واسعاً وسط رجال الاعمال والمستثمرين المحليين والدوليين، ويخدم حكومة أردوغان من أجل توسيع قاعدته الانتخابية بين المجموعات الكردية المحافظة (كبار الملاك في الريف، والكتلة الإسلاموية الشعبوية والبرجوازية الناشئة في المدن).

وتتابع الدراسة آثار هذه المقاربات على المجتمع المحلي بعدما فاقمت سياسة جمعيات الري عدم المساواة في الري ودفعت بهم صوب المدينة. لكن بالتوازي جرى التنسيق مع الشركات القابضة المحلية “البرجوازية المدنية”، عبر تسهيل القروض لهم والإعفاء من قوانين الضرائب، من أجل رفع قيمة الأرض في بعض المدن عن قصد من خلال التخطيط وتقسيم المناطق، بحيث تفوق القدرة الشرائية لدى الفقراء، كما هو الحال في ديار بكر وأورفا.

وتذهب الدراسة بأنه يتم تشجيع النازحين الكرد صوب المدن والتي من المفترض أن تكون فيها الفرص التعليمية متاحة. ومع ذلك، فإن العيش في المدن يفرض عليهم أيضًا الاندماج في “المجتمع والثقافة التركية السائدة تعليمياً ودينياً”. وتستنتج الدراسة بأن غرض المشروع هو تعبير سياسي للفكرة الكمالية عن الدولة القومية على أساس الهوية العرقية الواحدة، بحيث تنظر إلى حل القضية الكردية من خلال محو الأكراد وصهرهم في بوتقة الأمة العليا.

كان أوجلان يواكب من سجنه تطورات هجوم الرأسمالية الجامحة على كردستان، حيث لخص هذا المشهد بعبارات عميقة في مرافعته الخامسة، إذ يقول: ” إن كردستان والواقع الكردي بمثابة مختبر بكل معنى الكلمة”. ويضيف بأن:”من يعتقد بأن الواقع الكردي لا يمت صلة بالمقومات الرأسمالية الثلاثة” الدولة القومية، قانون الربح التراكمي، والتصنيع” أو تداعياتها جد محدودة، فهو يعيش في ضلال مبين، فلولا هذه العناصر الثلاثة لما كان الواقع الكردي على عتبة الإنكار والإبادة، وطناً، وأمةً، مجتمعاً، اقتصاداً، ثقافةً، دبلوماسيةً”. وبناء عليه، يؤكد بأن: “السدود تلعب دور الوحوش التي تبتلع أماكن السكن التاريخية، والمساحات الزراعية، والقرى والإيكولوجيا (الابادة التاريخية والزراعية) بينما بناء المصانع ورصف الطرقات ومحطات توليد الطاقة وهي تقدم نفسها بخدمات عصرية فهي” الإبادة الجغرافية”. في حين يشكل بناء الجوامع” استخدام الدين كأداة متسترة على الإبادة الثقافية” بينما تشيد المدارس التركية بمثابة” الإبادة الثقافية”.

الكاتب : فرهاد حمي

-------------------------------

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا عن طريق إرسال كتاباتكم عبر البريد : vdcnsy@gmail.com

ملاحظاتك: اقترح تصحيحاً - وثق بنفسك - قاعدة بيانات

تابعنا : تويتر - تلغرام - فيسبوك