كما يدرك معظم القراء، فلا توجد سوى فرصة ضئيلة للوصول إلى العدالة. استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) ضد جهود فرنسية لإحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي لم يبقَ لدينا سوى محاكمات على مستوى ضيق في أوروبا بموجب الولاية القضائية العالمية. وحتى تاريخه، كان محور تركيز هذه المحاكمات على مقاتلين متطرفين بصفتهم الفردية، على الرغم من وجود محاكمة واحدة تفتح آفاقاً جديدة ضد ضابطين سابقين في المخابرات السورية وأخرى تتعلق بالإبادة الجماعية للايزيديين، ولاتزال التحقيقات جارية. إنّ هذه الجهود جديرة بالثناء ولكنها بعيدة عن أن تكون شاملة.
بالرغم من ذلك ومع احتلال تركيا لأجزاء من شمال سوريا، قد يكون هناك سبيل جديد متاح الآن للضحايا: ألا وهو المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان(ECtHR). حيث أنّ تركيا دولة طرف في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية (ECHR)، وفي سياق مماثل، أكدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أنّ تركيا ملزمة بالتقيد بمعايير الاتفاقية ليس في تركيا فحسب، ولكن أيضاً في المناطق الخاضعة لسيطرتها العسكرية والإدارية الفعلية مثل قبرص (انظر قضية قبرص ضد تركيا). وتمتلك تركيا سيطرة فعلية على أجزاء من شمال سوريا، مع وجود مستمر لقواتها العسكرية، وفرض القانون التركي، وإدارة المدارس وغيرها من الوظائف العامة. وهذا ربما قد يفتح الباب أمام السوريين ليستفيدوا من الولاية القضائية للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، لطلب التعويض عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها القوات (والميليشيات) التركية في سوريا.
الاحتلال التركي وانتهاكاته في سوريا:
هناك أدلة قوية على أنّ تركيا والميليشيات التابعة لها قد ارتكبت العديد من انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا. حيث بدأ هذا في عام 2016 باجتياح ونهب أعزاز وجرابلس في عملية درع الفرات، بحجة محاربة تركيا للإرهاب. واستمرت الانتهاكات التركية، بما في ذلك قمع حرية التعبير، ومصادرة الممتلكات، والتغيير القسري للتركيبة السكانية (الديمغرافية)، داخل عفرين في عام 2018. وفي الآونة الأخيرة، في نهاية عام 2019، اتخذت تركيا من إعلان الرئيس ترامب بالانسحاب الأمريكي من سوريا بمثابة دعوة لغزو مساحات واسعة من شمال شرق سوريا، مع ورود تقارير عن عمليات إعدام بدون إجراءات واستخدام الفوسفور الأبيض، وهو من وسائل الحرب المحظورة ضد السكان المحليين.
السوابق التاريخية – قضية قبرص ضد تركيا:
إنّ غزو تركيا لشمال سوريا يعيد إلى الأذهان فترة سابقة في التاريخ أثناء الحرب في قبرص. في عام 1974، احتلت تركيا شمال قبرص، وأقامت “دولة” جديدة أطلقت عليها اسم جمهورية شمال قبرص التركية، بحضور 30,000 جندي وأنشأت وظائف إدارية مثل المدارس والمحاكم. ولم يعترف المجتمع الدولي بهذا الكيان الجديد كدولة، واعتُبر تابعاً لتركيا. ولكن أثناء سيطرتها على شمال قبرص، اتُهمت تركيا بارتكاب العديد من انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك مصادرة الممتلكات، وتقليص الحقوق الدينية والتعليمية، وغيرت التركيبة السكانية قسريا. وسمحت بمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، ولم تحقق في مصير المفقودين. وقدمت حكومة قبرص شكوى إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR) نيابة عن مواطنيها المتضررين.
طعنت تركيا في الولاية القضائية لهذه المحكمة لأنّ السلوك المزعوم لم يحدث داخل حدود تركيا. ورفضت الغرفة الكبرى للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR) هذه الحجة، قائلة إنّ ولايتها القضائية “لا تقتصر على الأراضي الوطنية للدول المتعاقدة”، بل إنّ مسؤولية تركيا يمكن أن تمتد إلى “أفعال أو أوجه التقصير عن عمل سلطاتها التي ينتج عنها آثار خارج أراضيها”. وقد تنشأ المسؤولية أيضاً “عندما تمارس نتيجة عمل عسكري – سواء كان قانونياً أو غير قانوني – سيطرة فعلية على منطقة خارج الأراضي الوطنية”. (الفقرة 76). وتجدر الإشارة إلى أنّ القانون الدولي واضح في هذه النقطة، حيث أكدت محكمة العدل الدولية (ICJ) في قضية الجدار أنّ إسرائيل مُلزمة بضمان احترام معاهدات حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة (الفقرات 111-113).
وأكدت تركيا أيضاً أنّها ليست مسؤولة عن أي من انتهاكات حقوق الإنسان المزعومة لأنّها تُعزى فقط إلى جمهورية شمال قبرص التركية. ورفضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR) هذه الحجة أيضاً، معتبرة أنّ الأفعال وأوجه التقصير التي ارتكبتها جمهورية شمال قبرص التركية كانت تُعزى إلى تركيا: “نظراً لسيطرتها الشاملة الفعلية على شمال قبرص، لا يمكن أن تقتصر مسؤولية تركيا على أفعال جنودها أو مسؤوليها في شمال قبرص، ولكن يجب اعتبارها مشاركة أيضاً بموجب أفعال الإدارة المحلية [جمهورية شمال قبرص التركية] التي تمكنت من البقاء بفضل الجيش التركي وأشكال الدعم الأخرى من تركيا”. (الفقرة 77).
أولاً، يجب استنفاذ سبل الانتصاف المحلية، مثلا تقديم دعوى في تركيا ورفضها أو عدم وصولها لنتيجة، ثم يحق للمتضررين التقديم في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
هناك محامين متطوعين يعملون في أوروبا. مثل هذا النوع من الدعاوى كونه يرتبط بتعويض مادي، ممكن دفع بعض الأتعاب الرمزية بعد الحصول على حكم بالتعويض مثلا.
المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR) مفتوحة أمام الضحايا السوريين
بالعودة إلى الوضع في شمال سوريا، فإنّ النتائج لا مفرّ منها. حيث احتلت تركيا أجزاء من شمال سوريا، وأقامت مكاتب إدارية وأبقت على كتيبة من القوات والوكلاء. وإنّ إدارة هذه المناطق تتبع إدارياً للحكومة التركية والجيش التركي، وإنّ استمرارها في الوجود هو بفضل الدعم المقدم من الحكومة التركية والجيش التركي. وبكل المقاييس المعقولة، فإنّ وجود تركيا في شمال سوريا يحمل جميع خصائص الاحتلال لأنّها تحتفظ بسيطرة فعلية على هذه المناطق.
ونتيجة لذلك، يجب على تركيا احترام تفويضات الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR) ويحق للسوريين رفع دعاوى حول انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة أو المسؤولة عنها تركيا أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR). وإذا تم إثبات هذه المطالبات أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR) فيمكنها أن تأمر الحكومة التركية بدفع تعويضات للضحايا السوريين. سيعتمد مبلغ التعويض على الظروف المحددة لكل حالة. ومن شأن أي حُكم يصدر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR) أن يكون مصدر إحراج للحكومة التركية، الأمر الذي يمكن أن يكون بمثابة ورقة ضغط في مفاوضات السلام.
لكن أيضا، هل سيُطلب من الضحايا السوريين أولاً رفع شكاواهم أمام محكمة عسكرية أو مدنية في شمال سوريا المحتل؟ ربما لا، لأنّ المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR) قد استغنت عن هذا الشرط عندما يكون استنفاذ سبل الإنصاف المحلية عديمة الجدوى أو غير فعالة. وعلى هذا الأساس، ينبغي أن يكون للضحايا السوريين إمكانية الوصول المباشر إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR) – وإن اقتصر ذلك على حالات انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها تركيا.
قد تكون هناك عقبة محتملة أمام أي دعوى ضد تركيا بشأن هذه الانتهاكات تتمثل في استنفاذ مقدمي الالتماس سبل الانصاف المحلية وهو شرط قانوني أساسي أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR). هل سيُطلب من الضحايا السوريين أولاً رفع شكاواهم أمام محكمة عسكرية أو مدنية في شمال سوريا المحتل؟ ربما لا، لأن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR) قد استغنت عن هذا الشرط عندما يكون استنفاذ سبل الإنصاف المحلية عديم الجدوى أو غير فعال. وعلى هذا الأساس، ينبغي أن يكون للضحايا السوريين إمكانية الوصول المباشر إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR) – وإن اقتصر ذلك على حالات انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها تركيا.
الخلاصة:
بعد مرور تسع سنوات على نزاع مليء بجميع أشكال انتهاكات حقوق الإنسان، يستحق الضحايا السوريون الحصول على العدالة. ولاتزال أبواب المحكمة الجنائية الدولية مغلقة بسبب اعتراض روسيا. ويتوفر طريق ضيق نحو العدالة لبعض الضحايا الذين يمكنهم التعرّف على هوية الجناة الذين يعيشون في أوروبا وفقاً لقضايا مرفوعة بموجب الولاية القضائية العالمية والتي يمكن أن تشق طريقها عبر المحاكم. ولكن هذه القضايا أبعد ما تكون عن الشمولية.
وفر التدخل العسكري التركي للضحايا السوريين فرصة أخرى لالتماس العدالة. من خلال غزو تركيا واحتلالها لشمال سوريا، وفرت تركيا للضحايا السوريين فرصة أخرى للعدالة. على الرغم من أنّ مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان لا يمكن تقديمها إلا إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR) بناءً على الانتهاكات التي ترتكبها تركيا (أو ربما روسيا، والتي – بصفتها دولة طرف في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان ECHR- تخضع أيضاً لاختصاص المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ECtHR)، إلا أنّها فرصة لا ينبغي تجاهلها. على هذا النحو، يشجع مركز العدالة والمساءلة في سوريا الضحايا السوريين في الأراضي التركية المحتلة على تقديم الشكاوى إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لضمان حقوق الإنسان للسوريين ومنع الانتهاكات المستقبلية.
ظهرت هذه المقالة لأول مرة في “Just Security”