لم تكتمل فرحة جوانا (وهذا اسمٌ مستعارٌ لامرأةٍ تخفي هويتها) بحملها بعد أن انتظرت مع زوجها خمس سنواتٍ بعد فتاتهم الأولى، فقد كانت حاملاً بصبي، بحسب ما أكد لها طبيبها الخاصّ بمدينة تلّ أبيض السّوريّة الواقعة على الحدود مع تركيا، قبل أن تُهجّر من المدينة برفقة عائلتها بعد هجوم الجيش التركي على المدينة مع الفصائل الإسلاميّة المسلحة من السّوريين التّابعين لتركيا، والّتي تُعرف بـ “الجيش الوطنيّ السّوريّ”، يوم التّاسع من شهر أكتوبر الماضي.
تقول جوانا التي تعيش عقدها الثالث: ” إنّ الأمور كانت بخيرٍ، ولم أشعر بقلقٍ قبل هجوم الجيش التّركيّ والجهاديين التابعين له، لكن بعد تعرّض المدينة للقصف في الساعة الرابعة من ذلك اليوم، انتابني خوفٌ وقلقٌ شديدٌ، وبالرغم من تمكننا من الهرب خلال السّاعات الأولى، لكنني بعد أيامٍ من نزوحي، شعرتُ أنّ حالتي الصحية تسوء، وبعد مراجعتي للطبيب في مدينة كوباني الّتي نزحتُ إليها، أخبرني أنّ حملي قد يكون ضعيفاً”.
وتضيف جوانا: “إنه بعد نحو شهرٍ من وجودي في مدينة كوباني؛ ونتيجة وضعي المعيشيّ السّيء والتّنقل والبحث عن منزلٍ يأويني مع عائلتي، تأزّمت حالتي وفقدت جنيني”. ويبدو أن جوانا تعاني في الوقت الحالي، من اكتئابٍ مُزمنٍ بعد فقدان جنينها وضعف الاحتمال بحملٍ جديدٍ.
وبحسب إدارة “مشفى آيكور للتوليد” بمدينة كوباني، فقد وصل عدد حالات الإجهاض إلى نحو 80 حالةً تقريباً منذ الهجوم التركيّ الواسع النطاق على المدن السّوريّة ذات الغالبية الكرديّة على الحدود مع تركيا، والتي تُطلق أنقرة عليه بـ “نبع السّلام”.
ويقول الطّبيب نعسان أحمد مدير المشفى وأخصّائي الطب النسائي: ” إن أغلب حالات الإجهاض التي صادفتها هُنا في المشفى، كنّ نساءً نازحاتٍ من مدينتي تلّ أبيض وعين عيسى”.
ويؤكد الطّبيب أنّ أسباب حالات الإجهاض هذه، تعود للقلق والتوتر النّفسيّ وعدم الاستقرار والحركة المفرطة. ويلفت كذلك؛ إلى توثيق 12 حالةً من الولادات المبكرة أغلبهن من النّازحات للأسباب السّابقة نفسها.
ويتابع الدّكتور نعسان “واجهنا ضمن حالات الإجهاض، ثلاث حالاتٍ شديدة الخطورة، وكانت إحداها، حالة تمزّقٍ بالرّحم”، مشيراً إلى أن “تلك السيدة الحامل كانت في منطقة اشتباكاتٍ وحدث المخاض في وقتٍ متأخرٍ من اللّيل، ولعدم قدرتها والخوف من الخروج من المنطقة، تحملت الآلام حتى ساعات الصباح الأولى، وقد وصلت إلى المشفى بعد ذلك، وكان لديها حالة تمزّقٍ بالرّحم، لذلك قام الأطباء باستئصاله بالكامل”.
وكشف الطّبيب عن “أنّ الحالتين الأُخريين كانتا انفكاك المشيمة، وأدّتا لوفاة الجنينين، وكانت الحركة المفرطة، والخوف، والصّدمة النفسيّة، من أسباب ذلك”.
ومن جهته، يؤكد طبيب الأشعة محمد عارف علي، أنّ موت الأجنّة أو ما يطلق عليها علميّاً “موت محصور الحمل” باتت ظاهرةً في المنطقة بعد الاجتياح التّركيّ الأخير.
ويضيف الطّبيب أنّ أغلب اللّواتي يزرن مركزه يكنَّ في الغالب، قد فقدنَ جنينيهن نتيجة تأثرهنَّ بالحرب الّتي تشهدها المنطقة.
ويتابع أنّه “علاوةٌ على ذلك تكاثرت حالات الإجهاض المتعمد، فكثيرٌ من النِّسوة يزرنَ المركز لفحص الجنين للتأكد من حيوتيه قبل ذلك، لأنّ القانون يمنع الإجهاض بعد بدء نبض قلب الجنين والمعروف “بـبدء الحيويّة”.
وتُعلق إحدى النّسوة اللّاتي التقين بها في المركز الطّبّيّ، على حالات الإجهاض المتعمّد بالقول: “إنّ الظّروف وسوء الأوضاع المعيشيّة، وارتفاع الأسعار إلى جانب عدم الاستقرار، والتّخوف من التّهجير، وتنفيذ تركيا لتهديداتها باجتياح المنطقة مرّةً أخرى، يدفع النّساء إلى التّخلص من الحمل”.
وتضيف “إنّه بالرغم من أنّ التّخلص من الحمل أمرٌ مؤلمٌ، لكن كيف نستقبل مولوداً جديداً ونحن نعجز عن تأمين حاجات ومتطلبات أطفالنا وحمايتهم؟”. ولم تكشف هذه المرأة التي رفضت ذكر اسمها فيما لو كانت قد قرّرت أن تُسقط جنينها أم لا. كما أشارت إلى أنّها حاملٌ بجنينٍ “جاء في وقتٍ غير مناسبٍ”، على حدّ تعبيرها.
ويكشف الطّبيب نعسان أحمد في هذا الصّدد عن وجود “فارقٍ كبيرٍ في عدد الولادات بين عامي 2018 و2019 خاصّة في الشّهور الثّلاثة الأخيرة، أيّ خلال فترة الهجوم التّركيّ على المنطقة، فعدا عن قلّة عدد الولادات في المشفى، كانت هناك حالاتٌ كبيرةٌ من الولادات المُبكرة، وأغلبهن كنّ في شهرهن السّابع، وعددٌ من الحالات في الشّهر الثّامن من الولادة”.
ويضيف الطّبيب: “إنّنا في إدارة المشفى مع باقي الأطباء في العيادات الخاصّة نرفض إجراء عمليات الإجهاض، والّذي يطلق عليه (الإجهاض الجنائيّ)، الأمر الّذي يدفع النّسوة إلى سلوك طرقٍ غير آمنةٍ لإسقاط أجنّتهن بعيداً عن المراقبة الطّبّيّة من خلال تناول بعض الأدوية أو وصفات مركّبةٍ، وهو ما يعرّض حياتهن للخطر”.
ورغم أنّ الأطباء في كوباني، يؤكدون أنّهم لم يواجهوا خلال الشّهور الأخيرة أيّ حالة وفاةٍ للحوامل، إلا أنّ تقرير المُنظّمة الدّوليّة يؤكد “إن الإجهاض غير الآمن يُعدّ سبباً لوفاة امرأةٍ من بين 12 من الأمهات حول العالم”.
وتوجّهت بعض المؤسسات والمنظّمات النّسائيّة مؤخراً في كوباني، إلى تشكيل لجنةٍ مشتركةٍ فيما بينهم لمتابعة ورصد حالات الإجهاض المتعمد، وموت الأجنّة نتيجة تأثير الحرب على الحوامل.
وتقول دجلة حيدر ( الباحثة في مؤسسة جينولوجيا (علم المرأة) وهي مؤسسةٌ تهتم في إجراء أبحاثٍ عن النّساء والعنف الأسريّ في روج آفا شمال شرقي سوريا) :”إنّهم يعملون على تقليل أو تخفيض حالات الإجهاض من خلال إقامة محاضرات توعويّة وتوجيه إرشادات للنساء الحوامل من خلال زيارة تجمعات النّساء، والمشافي والقرى القريبة من مناطق الاشتباك”.
وتُشير إلى أنّهم بالتنسيق مع مُنظّمة “مؤتمر اتّحاد ستار” ومُنظّمة “سارة لمناهضة العنف ضدّ المرأة” يعملون على توثيق الحالات ورصدها في كافة المناطق، لتوجيهها إلى المُنظّمات العالميّة المهتمة بالنّساء والحوامل والأطفال، لمساعدتهن على الحدّ من ظاهرة الإجهاض وموت الأجنّة في مناطقهم.
وبحسب الإحصائيات التي تعمل عليها الباحثة الكرديّة، فإنّها توصلت مع زميلاتها لنتيجةٍ مفادها ارتفاع حالات الإجهاض المتعمد في المنطقة بنسبة ١٥٪ مقارنةً بالأعوام السّابقة، أغلبهن نازحاتٍ ونسوةٍ من الطّبقة الفقيرة.
ومن جانبها، تقول منى عبد السّلام وهي إداريةٌ في منظّمة “سارة لمناهضة العنف ضدّ المرأة”: “إنّ أكثر من يواجه الصّعوبات أثناء الحرب والنّزوح هي المرأة وخاصّة الحامل، فهي بحاجةٍ لرعايةٍ خاصّة، كالرّعاية الصّحيّة والنّفسيّة والاجتماعيّة”.
وتتابع، إنّ النّازحات يعشن لأيامٍ في العراء، وكذلك ضمن مراكز الإيواء ذات الحمامات المشتركة في ظلّ الإمكانيّات المعيشيّة الضّعيفة والبرد الشّديد والإهمال وزيادة الأمراض وقلّة العناية والرّعاية وتأثير هذا كلّه على نفسياتهن، يُلحق الضّرر بهن، وبالتالي، تؤدي هذه العوامل، لزيادة حالات الإجهاض، وأيضاً تدفع الحوامل للتفكير بإسقاط جنينهن بسبب الوضع الصّعب الّذي يعشن فيه.
وتؤكد عبد السّلام أنّ قرار إجهاض الجنين يعود للأم والأب معاً، وتُجبر الأم بسبب هذه الظّروف الصّعبة الّتي تعيشها المنطقة باتّخاذ هذا القرار، فكيف لها أن تنجب طفلاً في مثل هذه الظّروف الّتي نمرّ بها، مناشدةً المجتمع الدولي، للوقوف في وجه الحرب والتّهجير وحماية النّساء والأطفال في عموم سوريا.
المصدر: مجلة صور، رضوان بيزار