فاجأ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، زعماء العالم بخريطة رفعها خلال كلمته في الأمم المتحدة منذ أيام، وقال إنها حدود «المنطقة الآمنة» على طول 480 كلم وعمق 30 كلم، وإنه يخطط لإسكان مليوني سوري فيها.
نقل الإعلام التركي تفاصيل هذه الخطة التي تهدف إلى بناء 10 أقضية، عدد سكان كل منها 30 ألفاً، ويتبع لها 140 قرية، وسكان كل منها خمسة آلاف. وسيكون في الأقضية والقرى عشرات المدارس وجامعة وجوامع ومستشفيات وملاعب ومدن صناعية وأراض للزراعة، وهو ما سيكلف حوالى 27 مليار دولار لإسكان مليوني سوري ستجمعها أنقرة من المساعدات الدولية. وقد رأت قيادات «حزب الشعوب الديموقراطي» المشروع «محاولة تركية جديدة لاحتلال الأراضي السورية وإسكان مليوني (سني) موالين لأردوغان في المنطقة ليفصلوا بين أكراد تركيا وأكراد سوريا».
في بداية الأزمة، وبعد بروز الدور التركي، تحديداً في حزيران/ يونيو 2012، جاء إسقاط الطائرة التركية التي دخلت الأجواء السورية من طرف البحر المتوسط ليفتح صفحة جديدة في موضوع الحظر الجوي و«المنطقة الآمنة». تتالت تصريحات المسؤولين الأتراك بمعدل خمسة في الأسبوع عن «المنطقة الآمنة» والحظر الجوي، لتكتسب هذه الأفكار منحى جديداً بعد ظهور «داعش» و«النصرة» على الساحة وسيطرتها على الشريط الحدودي السوري مع تركيا. وضعت أنقرة من أجل «المنطقة الآمنة» سيناريوات بما فيها خطط الاجتياح للشمال السوري، وهو ما أثبته التسجيل الصوتي الذي تم تسريبه للإعلام في 25/3/2014، حيث كان داود أوغلو ومعه وكيل وزارة الخارجية ونائب رئيس الأركان (الآن رئيس الأركان) ورئيس المخابرات هاكان فيدان يناقشون خلق الحجج لاحتلال الشمال السوري.
مع خسارة حزب «العدالة والتنمية» انتخابات حزيران/ يونيو 2015 وإلغاء حوار إردوغان مع أكراد سوريا وتركيا، دخل الدور التركي مساراً جديداً، أولاً بتدريب الأميركيين عناصر «الجيش الحر» في تركيا، ثم إسقاط الطائرة الروسية بحجة أنها دخلت الأجواء التركية. بدأت أنقرة تتحدث عن خططها لمنع الأكراد من إقامة كيان على الحدود والوصول إلى مياه المتوسط، مع تبني التركمان في المنطقة. وقد فتحت الأبواب على مصراعيها باتجاهين: أولاً لدخول المقاتلين الأجانب الجهاديين إلى سوريا، وثانياً لضمان دخول أكبر عدد ممكن من النازحين السوريين الذين أرادت أنقرة أن تستفيد منهم للضغط على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لمساعدتها في إقامة «المنطقة الآمنة». منطقة أقامتها عملياً بعدما اعتذر أردوغان من نظيره الروسي في حزيران/ يونيو 2016 عن إسقاط الطائرة، فأعطى فلاديمير بوتين الضوء الأخضر للجيش التركي الذي دخل جرابلس في 24 آب/ أغسطس.
جاء الوجود والدعم الأميركي لقوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد ليقلق أردوغان الذي هدد وتوعد واشنطن في حال استمرار هذا الدعم، لينتهي به المسار إلى التوقيع مع الأميركيين على اتفاقية «المنطقة الآمنة» بعمق يتراوح بين 5 ــــ 15 كلم. وهو ما يحمل في طياته اعترافاً تركياً بالوجود الأميركي شرق الفرات، وبالتالي الكيان الكردي والعربي (قوات سوريا الديموقراطية) جنوبي «المنطقة الآمنة»، حيث فرض الأميركيون حظراً جوياً على الطائرات التركية، كما فرض الروس حظراً مماثلاً غربي الفرات على الطائرات المذكورة.
يبقى السؤال: لماذا وكيف ارتكبت أنقرة كل هذه الأخطاء التي خلقت مشكلات داخلية وخارجية؛ أهمها تبعات «المنطقة الآمنة» شرقي الفرات والتحركات الروسية المحتملة غربي الفرات. كانت جميع هذه المناطق ضمن ما يسمى حدود «الميثاق الوطني» الذي وضع عام 1920 الشمال السوري وبعدها الموصل ثم أربيل وكركوك والسليمانية ضمن حدود تركيا، فأراد لها أردوغان بعد ما يسمى «الربيع العربي» أن تعود إلى ذكرياتها العثمانية في الخلافة والسلطنة. لكنها اصطدمت بحقائق التاريخ الذي جعل تركيا طرفاً أساسياً في المخطط الأميركي عام 1991 عندما أعلنت واشنطن شمال خط العرض 36 منطقة حظر جوي ومنعت الجيش العراقي من الاقتراب من الأكراد. جاءت القوات الأميركية والفرنسية والبريطانية آنذاك إلى تركيا لحمايتهم، فأصبح لهم كيانهم المستقل بعدما كان الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، يحلم بضم الشمال العراقي، كما يحلم إردوغان ويخطط لضم الشمال السوري.
مهما تكن التسميات التي اصطدمت جميعها بالواقع المرّ في المنطقة التي ثبت للأتراك أنهم يجهلونها جملة وتفصيلاً، فقد دخلوا مستنقعها، والخروج منه يحتاج إلى أكثر من منطقة آمنة!
الاخبار اللينانية \ حسني محلي