انطوت مخرجات القمة التي جمعت الرئيس التركي والإيراني والروسي في أنقرة الاثنين الماضي حول مناقشة الأزمة السورية في شكلها الظاهر، على تبني -أمام عدسات الكاميرا- تلك النزعة الإنسانية والقانونية التي تذهب باتجاه احترام السيادة السورية والحفاظ على وحدة تراب البلاد وضرورة إحقاق السلم والأمن وفق القوانين الدولية. لكن الزعماء الثلاثة في الوقت عينه، ارتؤوا تعظيم خطابهم الأخلاقي وإظهار حرصهم الإنساني الشديد على أهمية عودة اللاجئين، وطردّ الولايات المتحدة الأمريكية من شمال شرقي سوريا، كونها تمثل قوة الشر والاحتلال وفق ما جاء في بيانهم الختامي.
ولم يجف حبر هذه المخرجات بعد حتى تحركت الماكينة الإعلامية التركية بتسليط الضوء على رؤية الرئيس أردوغان وهو يروج لمشروع بناء المستوطنات في شمال شرقي سوريا، وإدراجها كبندٍ حيوي من أجل إنجاح التفاهم مع الولايات المتحدة الأمريكية في شمال شرقي سوريا حول الآلية الأمنية، وكأنّها بصورة ما تترجم ما تم الإجماع عليه في قمة أنقرة، بينما استبق النظام السوري بدوره مناسبة انعقاد القمة بإصدار بيانٍ يحمل لغة التهديد والوعيد ضدّ قوات التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” في تلك المنطقة.
من جملة هذه المُعطيات، وعبر القراءة الأوّلية لهذا الخطاب، يظهر بوضوح مدى فائض خطاب التدليس والتلاعب على الرأي العام بصورةٍ متعمدةٍ ومقصودةٍ بُغية التعتيم على مشهد الواقع السوري، وذلك من خلال التزاوج بين الجانب الحقوقي «السيادة السورية ووحدة البلاد» والبُعد الإنساني «عودة اللاجئين»، وتبرئة ساحاتهم الأخلاقية من مسؤولية إنتاج حمّام الدم الذي يسيل على تراب سوريا منذ سنواتٍ.
ليس بأمرٍ جديٍد أن يتباهى الخطاب الرسمي السوري منذ اندلاع الأزمة في البلاد بقدرته الفريدة بتحريف الصراع السياسي الدموي مع المجتمع، عبر تقديم نفسه أخلاقياً على أنّه يمثل الشرعية ضدّ اللاشرعية، فهذه الأطراف الثلاثة التي اجتمعت في أنقرة، تتقاسم قواتها العسكرية مع حشود المليشيات المرافقة لها أوصال جغرافية سوريا، بحيث لا تحتاج هذه البداهة القائمة إلى أي دليلٍ ملموسٍ كي تثبت صحتها من عدمها كونها واقعةٌ قائمةٌ بحدّ ذاتها، علاوةً على أنّ هذه الأطراف المجتمعة إلى جانب تنظيم “الدولة الإسلامية” والتشكيلات الإرهابية المتطرفة تتحمل في المقام الأوّل مسؤولية بركة الدماء السوريين والدياسبورا الشعبية، وهذا أيضاً لا يحتاج إلى سرد الأدلة والبراهين.
بيد أنّ المهزلة تكمن في مكانٍ آخرٍ، وتحديداً حينما يجنّد ماكينة خطاب النظام السوري نفسه بتفسير هذا التدخل الثلاثي في الوقت الحالي، كنوعٍ من المساعي الإنسانية بُغية حلّ المعضلة السورية بمنأىً عن القوى الغربية الشريرة. في الحقيقة، هذه المقاربة التي تزيح رعونة المصالح السياسية المحضة لتلك الدول المحتلة لسوريا، ترجع بالذاكرة إلى رومانسية الكتلة القومية العربية والإسلامية إبان الحرب العالمية الثانية، وهي تحاول إخفاء مصالحها القومية التي تقاطعت حينها مع النزعة الاستعمارية لدى النازية الألمانية، كما وصمت تدخلات الرايخ الثالث في المشرق بالثوب الأخلاقي والإنساني مقابل شيطنة النفوذ الفرنسي والإنكليزي في المنطقة، بل ذهبت إلى تمجيد القومية الفاشية الألمانية، واعتبرتها أكثر انسجاماً مع حالة العرب والترك والفرس مقابل مساعي شيطنة التنوير الغربي برمته، وكان يتصدّر هذا المشهد باكورة رواد القومية العربية مثل، ساطع الحصري وميشيل عفلق والحاج أمين الحسيني، في الوقت الذي كان تمرد رشيد علي كيلاني بالدعم من النازية الألمانية في العراق ضدّ الانكليز يترجم هذا الخطاب من خلال الأدوات العسكرية الميدانية في مُستهل الحرب العالمية الثانية.
وعليه، يلزم الخروج من هذا القفص الخطابي المبتذل عبر نزع القناع عن إيديولوجية الخطاب الأخلاقي والإنساني الذي يُخفي تكتيكات واستراتيجيات الحرب التي يديرها ما يسمى “المحور الأوراسي” من خلال تمتين التقارب بين كلٍ من تركيا وإيران والنظام السوري بريادة روسيا ودفعها موحدةً ضدّ المحور الأطلسي الغربي على طول ساحة الشرق الأوسط عموماً، وسوريا على وجه الخصوص. وإذا كان النزاع العسكري هو الطاغي في المشهد السوري بحيث يفسح احتمالاتٍ أمام مصالح القوى الإقليمية والدولية، فإنّ السياسة والدبلوماسية المُمارسة (القوى الناعمة) من قبل هذا المحور، هي بحدّ ذاتها تكريسٌ للحرب بطرقٍ مختلفةٍ، ومن هنا تحديداً يلزم قراءة خطاب عودة اللاجئين وفق سردية القمة الثلاثية الأخيرة في أنقرة.
وفي الواقع لو نرفع النقاب عن البُعد الإنساني لماهية هذا الخطاب السياسي، حينها سنكون من المؤكّد أمام حمولة سياسات الهندسة الاجتماعية والتغيير الديمغرافي والتطهير العرقي الذي ينتهجه هذا المحور مع التراجيديا السورية منذ ثماني سنواتٍ. وعند النظر بعينٍ موضوعيةٍ إلى الخارطة الجغرافية والسكانية السورية، ستكون شبكة التنوّع السوري القومي والديني والثقافي مع أماكنهم التاريخية تحت تهديد الفناء والتصفية والإقصاء والتبديل والتهجير الذي يخدم المصالح القومية الروسية والتركية والإيرانية ويعزّز موقع الكتلة الحاكمة في دمشق، وهذا هو الجانب الخفي لهذا الخطاب الإنساني الذي ينثر مشاعره الإنسانية في قاعة المؤتمرات التي تُعقد تحت عنوان السلام والأمن.
بوتين ومعادلة الطرد والاستيعاب
استناداً لبعض المصادر المطلعة إبان الغزو التركي العسكري على مدينة عفرين العام الماضي، والذي تم بالموافقة مع الجانب الروسي، كانت قياداتٌ أمنيةٌ وسياسيةٌ روسيةٌ تسعى إلى تمرير رسائلٍ مبطنةٍ تقتضي بوجوب تنفيذ سياسة التهجير الشامل من عفرين، وكانت تحاول تلبيس هذه الرؤية بمنظور اعتيادي وروتيني تشبه تلك السياسيات الروسية التي تُمارس في إقليم القرم وجورجيا ضدّ الأقليات القومية التاريخية التي تعاني من ويلات التهجير القسري والتغيير الديموغرافي منذ سنواتٍ على يد فريق بوتين. هذه المقاربة وفق الجانب الروسي تُعد أمراً اعتيادياً في النزاعات السياسية والعسكرية، وليست حالةً شاذةً تبعاً للنزعة الميكافيلية لدى الرئيس بوتين، والحال هذه، تتلاشى من هذه الزاوية مساحة القانون الدولي والإنساني والحيز الوجودي البشري الذي يصبح خاضعاً تماماً لبرودة حسابات بوتين وفريقه، بخلاف ما تتفوه به موسكو ليلاً ونهاراً حول أهمية القانون الدولي في حلّ النزاع السوري.
مؤخراً، كشفت بعض المصادر الروسية التي سلطت الضوء على ظاهرة التطهير العرقي والتغيير الديمغرافي الذي ينتهجه الرئيس الروسي بوتين في جورجيا والقرم منذ توليه الحكم، بأنّ بوتين لا يبدو عليه في الوهلة الأولى أنّه يمارس الوحشية مثل ممارسات ستالين في جورجيا أيام حقبة الاتحاد السوفياتي، غير أنّ هذه المصادر أشارت إلى أنّ بوتين لا يتردّد في استخدام القوة من أجل تأمين موارد لبلاده وجعل روسيا قوةً عالميةً.
وأوضحت صحيفة أوراسيا ديلي مونيتور في تقريرٍ لها، وهي تتعقب سلوك سياسة بوتين في مناطق النفوذ مع القوى الدولية الغربية بأنّ الرئيس الروسي يطرح خيار “الصهر أو الطرد” بطريقةٍ صامتةٍ تُجاه الجماعات القومية والدينية التي لا تنسجم مع المصالح الروسية القومية، بحيث لا يشدّ انتباه الرأي العام والمجتمع الدولي. إذ إنّ الرؤية البوتينية كما تقول الصحيفة تتجسد في تشجيع الهجرة لبعض الأطراف القريبة من المصالح الروسية إلى الحيز المكاني المُستهدف، ومحاولة طردّ الأطراف التي لا تتفق مع السياسة الروسية وذلك عبر استخدام قوة العنف الشامل والمفتوح في لحظاتٍ معينةٍ ضمن استراتيجية بث الرعب والخوف. وهذا كان واضحاً في مثال عفرين، بحيث دفعت الأطراف السورية القريبة من تركيا إلى التوطين في المدينة وريفها تحت أعين الجيش الروسي، مستثمراً في الوقت عينه قوة العنف والسلاح الجوي التركي بُغية ترهيب سكان عفرين والإسراع في تهجيرهم عنوةً، بعدما وفّر للسلاح الجوي التركي التغطية الجوية المطلوبة، أي جرى توظيف الترهيب العسكري والترحيل القسري والاستيطان الخارجي في غزو عفرين بصورةٍ متداخلةٍ.
حسابات طهران
هذه العقلية الروسية التي تدعو إلى إحلال الأمن والسلام وعودة اللاجئين إلى شرقي الفرات، بُغية إخفاء الوجه الحقيقي لمشروع التغيير الديموغرافي بهدف فرض السيطرة والهيمنة الروسية على السورية، تنسجم مع الرؤية الإيرانية في إحداث التغيير السكاني والمكاني في سوريا والعراق بغية تعزيز نفوذها الإقليمي الذي يتداخل فيها البعد الديني والقومي التوسعي، أي ثمّة تقسيمٌ للأدوار بين روسيا وإيران في ترسيخ إعادة هندسة المجتمع داخل البيئات المضادة لكلا الطرفين في سوريا. ومن أجل ذلك، عملت إيران بخطواتٍ حثيثةٍ كما تقول العديد من التقارير الميدانية بتعزيز نفوذها في دمشق وضواحيها، بحيث حوّلت الأماكن المستهدفة إلى مكان يطغى فيه اللون الأسود، فضلاً عن تجذير نفوذها الديني من خلال بناء الحسينيات وتعظيم المظاهر الشيعية في مدينة القصير في ريف حمص وتوسيعها إلى مساحةٍ سكانيةٍ منتشرةٍ ومطلةٍ على الشريط الحدودي اللبناني، وبعض الأحياء السكانية في الساحل السوري، إثر الدفع بالكتلة السُنّية صوب الخارج.
إيران وإذ تتفق مع تركيا وروسيا في دعم التصور التركي في بناء المستوطنات وإدراج عودة ملف اللاجئين في شرقي الفرات حسب ما جاء في البيان الختامي للقمة، فهي تسعى من وراء ذلك إلى إحداث خللٍ ديموغرافيٍ لا ينسجم مع البيئة المحلية المتعاطفة مع التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية، نظراً أنّ الأولوية الإيرانية ونظام بشار الأسد في شمال شرقي سوريا، تكمن في توظيف أية ورقةٍ تهدّد بعدم استقرار المنطقة الشمالية الشرقية السورية. من المرجّح أنّ طهران تراهن بأن يفضي هذا السيناريو إلى تفجير صداماتٍ جانبيةٍ بين تركيا والجانب الأمريكي من جهةٍ، وتسعير الصراع بين قوات سوريا الديمقراطية وتركيا من جهةٍ ثانيةٍ، وفي المحصلة قد تؤثر بصورةٍ مباشرةٍ على الوجود الأمريكي في تلك المنطقة، وبالتالي تصبح ورقة عودة اللاجئين صوب هذه المنطقة تحديداً، دون عودتهم إلى ديارهم الذين تهجروا منها، خياراً سياسياً براغماتياً بيد القيادة الإيرانية في توسيع نطاق الحرب ضدّ أمريكا في المنطقة، وإرباك حسابات إدارة ترامب.
حسابات قديمة وجديدة
في حين يحفل ميراث الدولة التركية بتنفيذ سياسة التغيير الديموغرافي والتطهير العرقي وهندسة المجتمع بغرض فرض سياسة الخضوع والتسليم والتصفية حيال القوميات المناهضة للطورانية المتجذّرة في بنية البناء الإيديولوجي للدولة، وعلى هذا النحو، تبدو تركيا أكثر وضوحاً وعلنيةً في تحديد أهدافها، فهي تحاول توسيع نطاق مشروع إصلاح الشرق (إصلاح شرق الأناضول) الذي طبقه على الكرد في تركيا من خلال سياسة الصهر والطرد، وهي وسّعت هذا النطاق مؤخراً ليشمل عفرين داخل الحيز السوري الجغرافي.
وتعقد القيادة التركية آمالاً بأن تساهم عودة اللاجئين إلى شرقي الفرات بتعزيز إحداث التغيير الديموغرافي في شريط شمال شرق سوريا، علاوةً على التخلص من مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا، وهي لا تطرح ورقة عودة اللاجئين من بوابة الحلّ السياسي الشامل، وإنما تستثمر ورقة اللاجئين كنوعٍ من نطاق تنويع أدوات الحرب ضدّ الكرد في سوريا بطرقٍ مختلفةٍ. وهي من أجل ذلك، تجاهد إلى إقناع بعض الدول الأوربية مثل ألمانيا، بغرض الحصول على الدعم المالي المطلوب، لبدء تنفيذ مشاريع الاستيطان العنصرية في قلب المناطق الكردية الواقعة في شرقي الفرات، بعدما اصطدمت مساعيها العسكرية بالرفض الأمريكي حيال أي اجتياحٍ عسكريٍ تركيٍ في شرقي الفرات.
بناء على هذه المعطيات، تبدو خيارات الأطراف الثلاثة إلى جانب النظام السوري في طرح قضية عودة اللاجئين من زاوية شرقي الفرات، بمثابة صيغةٍ مستحدثةٍ من أجل تنوّيع وسائل الحرب القائمة في سوريا ضدّ التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية، فالخطاب الذي يرفع من شأن القضية الإنسانية يُخفي في طياته استراتيجية التغيير الديموغرافي وهندسة المجتمع بما يخدم حسابات هذا المحور في تمكين خاصية السيطرة والخضوع والتوسع والتحكم ضدّ التنوّع السوري، وهو خطابٌ يتحرك وفق منطق القوة والعنف والترهيب ويرفض الحلول الجذرية والسلمية، كما يتهرّب من حلّ أزمة اللاجئين من بوابة الحلّ السياسي الشامل على مستوى البلاد.