تزامنت مظاهرة شعبية خرجت في مدينة كوباني رافضة للانتهاكات التي تقوم بها القوات المسلحة التركية، وفصائل المعارضة في مدينة عفرين مع الذكرى الخامسة لهجوم تنظيم الدولة الاسلامية على مدينة كوباني، في 15 ايلول 2014، وهو الهجوم الذي شكل نقطة تحول مفصلية في الحرب السورية، واختلافا في موزايين القوى وتغييرا في خارطة التحالفات لا سيما وأن الولايات المتحدة دخلت في تلك المعركة لأول مرة لصالح وحدات حماية الشعب، ليكون بداية تعاون طويل الأمد نتج عنه تأسيس قوات سوريا الديمقراطية التي خاضعت معارك كبيرة انتهت في الباغوز بتدمير الخلافة الاسلامية التي اعلن تنظيم الدولة الاسلامية اقامتها على ثلث مساحة سوريا والعراق.
تظاهرات شعبية في مدينة كوباني وتل ابيض شمال سوريا تندد بالتهديدات التركية، وانتهاكات حقوق الانسان في عفرين. pic.twitter.com/pOo8zhLmvh
— VdC-NsY Northern Syria (@vdcnsy) September 16, 2019
الاحداث منذ البداية:
بين عامَي 1907 وبدء الحرب العالمية الأولى 1914 بنيت منازل في أحياء جديدة ومستشفيات ومدارس للطائفة الكاثوليكية ومكتب بريد مركزي بالقرب من ساحة باب الفرج في حلب، في عام 1910 بنيت محطة ثانية لسكة الحديد للخطوط الألمانية (محطة بغداد) لربط إسطنبول ببغداد عن طريق حلب. وكان من مقاسم هذه الشركة أن يكون لها مقرٌ فيما أصبحت تعرف لاحقا باسم /كوباني/، نسبة إلى الترجمة الحرفية لكلمة “شركة” (Company)، التي كانت تستخرج الحجارة السوداء من جبل مشتنور لاستخدامها في إنشاء ومد سكة الحديد بين برلين والبصرة.
رواية أخرى تنفي هذا التفسير لاسم المدينة وتقول: تنامت قوة العشائر المدعومة زمن السلطان العثماني (زور تيمور باشا، كلش عبدي، باشا المللي)، وأصبحت تعتدي على جيرانها وتحتل زرعهم وأرضهم. فتكاتف أهل سروج، واجتمع رجال (البرازيين) في موقع (كوباني) الحالية، واتفقوا على الوقوف صفاً واحداً. موقع الاجتماع سمي بـ (كوم بانيا) والترجمة العربية لهذا الاسم (الإجماع على موقف) حيث: “كوم” تعني الجمع، و”بانيا” الاتفاق.
رواية ثالثة تقول: إن عشيرة (مللان) القاطنة في منطقة رأس العين/ سري كاني سمّت الجماعة التي شكلت حلفاً في سهل (سروج) بـ (كوما باني) وترجمتها: الجماعة العليا، وهي تقابل (كوما خوار) والتي تعني الجماعة السفلى. والتسميتان يقصدان بهما الموقع الجغرافي لا القيمي – الأخلاقي. حيث الجماعة العليا يقصد بها الواقعة في المنطقة العليا من منطقة سكن عشيرة (مللان).
قبل ذلك كانت لها أسماء عدة (كاني مشدى – كانى عربان – مرشد بنار –عرب بينار) قبل أن يعرب أسمها بقرار سياسي إلى (عين العرب).
كوباني مدينة تقع في الجزيرة العليا، مركز منطقة كوباني، تتبع محافظة حلب. إلى الشرق من وادي الفرات في أطراف المرتفعات التي تحمل اسمها والتي تشكل أرضاً ناهضة تدعى: نهضة كوباني، وعند التقاء السفحين الشمالي والشمالي الغربي لهضبة مشتنور الكلسية مع سهلَي سروج الشرقي وسروج الغربي.
تغطي الصخور البازلتية أعالي الهضبة وعلى أطرافها تنتشر المراعي الجيدة. أما في السهلين فقد تجمعت تربة لحقيه غضارية خصبة.
تبعد عن مدينة حلب 157 كم باتجاه الشمال الشرقي عند الحدود السورية التركية، وإلى الشمال الشرقي من جرابلس حيث تبعد عنها نحو 40 كم، وتقدر مساحتها الإجمالية بـ 273000 هكتار أي ما يعادل 2730 كم2، وتحد منطقة كوباني من الشمال الحدود السورية – التركية، ومن الشرق والجنوب تحدها المناطق الإدارية التابعة لمحافظة الرقة، ومن الغرب يحدها ويساير حدودها نهر الفرات. والفرنسيون هم الذين وضعوا مخطط المدينة وبنوا أول مخفر وسجن وراجو وسرايا حكوميّة ومركزاً ثقافيّاً ومدرسة.
يعود التاريخ القديم لكوباني إلى عصور ما قبل الميلاد وتشهد على ذلك الآثار المكتشفة في قرى شيران وكه ري سور وتل حاجب وجعده والشيوخ، ومعظمها تعود إلى الحضارتين الحثّية والآشورية، فبلدة شيران المعروفة أيضا باسم أرسلان طاش، كانت تعرف باسم حداتو قديما، وهي حاضرة آرامية، أصبحت مقراً للحاكم الآشوري بعد ضمها إلى إمبراطوريته، وابتدأ التنقيب فيها منذ عام 1929م والقسم الأعظم من آثار هذا الموقع يرجع إلى القرن التاسع والثامن ق.م وحتى الحقبة الهلنستية.
يقيم في كوباني اتحاد قبائل برازي والذي يضم القبائل: ميران، كيتكان، شيخان، شدادان، ميران، بيشان، عليدينان، معفان، زرواران، عاصيان، ديدان، دنان، قره كيجي، أوخيان، كما وأن رئيس عشيرة ميران البرازية بوزان بك كان مندوباً عن ولاية رها (أورفا) في أول برلمان للجمهورية التركية سنة 1920 – 1923 وبذلك فهو يعد من مؤسسي الجمهورية التركية الحديثة، كما وأن الكرد المنتشرين في ريف منطقة الباب والرقة وتل أبيض وحماه وحمص هم من أصول كوبانية والكثير منهم ما يزالون محافظين على الكثير من الثقافة والتقاليد الخاصة بالمنطقة.
عدد سكان كوباني بحسب المصادر المحلية يتجاوز نصف مليون نسمة، وإن قلّل النظام السوري هذا العدد إلى 40 ألف بحسب إحصاء 2004، وسكانها كرد عدا بعض من العوائل العربية التي قدمت بحكم التوظيف في الدوائر الحكومية مع العلم أن معظمهم صار يتحدّث الكردية كأهلها، كما ويسكنها عدد قليل جداً من الأرمن والتركمان، وقديما كانت تسكنها أعداد أكبر من الأرمن الذين نجوا من المذابح التي تعرضوا لها على يد الأتراك وبنوا في كوباني عدة معابد دينية خاصة بهم، وكنيسة، ولكن فيما بعد هاجر غالبيتهم إلى حلب ومنهم إلى خارج سوريا، ولم تتمكن الحكومات العروبية المتتالية من فرض سياسة الحزام العربي في كوباني، أو فرض طمس ملامحها الكردية، حتى وإن عرّبت اسمها، وأسماء القرى التابعة لها، وشدّدت من قبضته الأمنية، في وقت كان يمارس فيه الإهمال الخدمي والاقتصادي، وكان محظورا على أبناء المدينة أن يتسلّموا مناصب إدارية داخل مؤسسات الدولة حتى وإن كانت ثقافية.
كوباني/ 2011، 2013 /:
كان لصوت سيارات الإسعاف وهي تنقل جرحى الحرب في غرب كوباني وتل أبيض / كري سبي وقعها الكبير على الناس الذين لم يألفوا تلك الأصوات وهي تدك سلم المدينة التي ظلت آمنة طيلة عامين من انطلاق الحرب السورية، لتدخل المدينة وعلى نحو غير متوقع في حصار وحرب لم تتوقف ممّا أدّى ذلك إلى تشريدهم من قراهم ومدينتهم التي تحولت إلى أنقاض.
في العشرين من أيلول 2013، بدأت الاضطرابات في مدينة تل أبيض، التي كانت العديد من الفصائل العسكرية تتقاسم السيطرة عليها، ولم يكن لتنظيم داعش حينها نشاط عسكري كبير فيها، وإنّما كان وجوده محصوراً بمجموعات دينية صغيرة غالبيتهم مهاجرون تمكنوا من التسلّل إلى المجتمع، بكلّ الوسائل الإغرائية ومحاكاة عواطف الناس مستغلين بطش النظام، وانشقاق المعارضة وتعدّد الفصائل العسكرية، التي سرعان ما انقلبت عليم.
الحرب الأولى ضد الكرد، جرت للانتقام من المدنيين في تل أبيض حين تم اعتقال الشبان، وتهجير النساء والأطفال وكبار السن باتجاه الحدود التركية، لتسجل أوائل حملات التطهير العرقية بطرد الآلاف من العوائل الكردية من مدينتهم وقراهم، استكمالاً لما كان النظام السوري يقوم به ولتبدأ حرب شاملة، انتهت في مرحلتها الاولى باحتلال العشرات من القرى الكردية غربي المدينة من قبل تحالف فصائل الجيش الحر مع جبهة النصرة مع داعش، وهدأت الاوضاع في تل ابيض بعد تهجير كل اكرادها.
الكثير من التظاهرات خرجت في المدينة ضد النظام تم إطلاق النار على الشبان، واعتقال عدد من النشطاء وإيفاد الشبيحة، استخدم النظام حينها كل الوسائل السياسية، والقمعية في سبيل وأد ثورة المدينة، دون نتيجة تذكر، حيث شن حملات اعتقال شملت قيادات المجتمع المحلي، فتهمة الكردي قبل الثورة كانت / تقسيم البلاد أما بعدها، فأضيفت إليها تهمة ثانية وهي المشاركة في مظاهرات تدعو إلى إسقاط النظام، رغم ذلك سجلت كوباني احداث مهمة، لا سيما أنها تعتبر من أوائل المدن الكردية التي تظاهرت للمطالبة بالحقوق والحرية، وكان اسم كوباني يتصدر عناوين الاخبار العالمية وشبابها يتظاهرون مطالبون بوقف المجازر.
حرب داعش الشاملة التي شنها على كوباني في 15 أيلول/سبتمبر 2014 كانت استكمالا للحرب التي أعلنتها جبهة النصرة، وفصائل الجيش الحر، والتهديد بأنهم سيصلّون العيد في جوامعها، فقبل تاريخ الحرب بعام قامت العشرات من الفصائل العسكرية بفرض حصار على المدينة، شمل قطع الكهرباء، والماء، والغذاء والدواء وحليب الأطفال، ومنع حركة الموصلات، مع تنفيذ هجمات أمنية على القرى والبلدات الكردية، بالإضافة إلى اعتقالات شملت المئات من المدنيين، والموظفين والأطفال لا يزال غالبهم إلى الآن مفقوداً.
وبعد أن هدأت جبهة الحرب في تل أبيض، دخلت كوباني في فترة حرب استنزاف باردة وحصار طويل، فجبهة النصرة، وتنظيم داعش والجيش الحر أطبقوا حصاره على كوباني من الجهة الشرقية، والغربية والجنوبية.
المدينة كانت تئن تحت وطأة حصار أنهكها، ومن حرب على تخومها وفي محيطها من كل الجهات، «داعش، جبهة النصرة، الجيش الحر» حيث كانوا يعتقلان المدنيين، وكانوا يستخدمون مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة في قصف القرى ويهددون مراراً باقتحامها ويتوعدون بحرقها والصلاة في جوامعها.
شباب وبنات كوباني الذين حملوا السلاح في معركة الدفاع مدينتهم وقراهم كانوا قبل الحرب أعضاء في مجموعات مسرح وفنون وثقافة ضمن منظمات مجتمعية، أو طلاباً في مدارس اللغة الكردية… وحينما دقت طبول الحرب انضموا إلى صفوف المقاومة الكردية ليدفع منهم الآلاف أرواحهم ثمن الدفاع عن مدينتهم، وهم الذي كان من الممكن أن يصبحوا أطباء ومحاميين ومدرسين وأن تكون لديهم أسر وعوائل.
استسلام الاجهزة الامنية من كوباني:
في منتصف ظهيرة يوم (19 – 7 – 2012)، تجمعت قوات حماية الشعب YPG مع الآسايش مع حشد من المواطنين في مركز المدينة، حاصرة وحدات حماية الشعب كل المقرات الامنية، حيث كانت المنطقة تخلو من مقرات عسكرية…بعد مفاوضات استمرت 24 ساعة استسلم كل عناصر تلك الاجهزة مع اسلحتهم مقابل فتح معبر لهم الى مدينة حلب أو الرقة حيث تنتشر قوات النظام السوري…سارت الأمور بسلميّتها نحو استلام مقر (مديرية المنطقة) الواقع في السراي الحكومية وهو من أهم مرافق المدينة الأثرية. ورفع العلم الكردي عليه، وصفق الناس المحتشدون في الأسفل وهم ينادون بشعارات الحرية، وبعدها تم الدخول إلى مركز الشرطة المجاور، وقبلها دائرة التجنيد، ومن ثم إلى مقر فرع الأمن الجنائي وأمن الدولة المحاذيين لمبنى مدير المنطقة.
وبحلول ليل (20- 7 – 2012)، كانت الأعلام الكردية ترفرف على كل المقار الأمنية والحزبية والخدمية في كوباني والريف، وانطلقت الاحتفالات، لتصبح كوباني أول مدينة كردية في سورية تتحرر من النظام السوري، ولتبدأ المرحلة الصعبة في إعادة بناء المؤسسات الخدمية، والأمنية المنهارة.
تعقيدات الواقع السياسي:
في كوباني تياران سياسيان رئيسيان يتمثلان في (TEV-DEM ومؤسساته) والمجلس الوطني الكردي، الخلافات بينهما كبيرة حيث تابع الأول إحكام بنيته التنظيميّة الإداريّة وبناء المؤسسات واللجان الأمنية والخدمية، فيما اكتفى الثاني بالوقوف في جانب المعارض لكل شيء وطرح نفسه كبديل.
على رغم أن «الوطني الكردي» كان سباقاً في بناء لجانه إلا أنها كانت لجان على الورق ولم يتم تفعليها، في وقت تابع TEV-DEM انتخاباته الخاصة لاختيار أعضاء مجلس الشعب، ومع إعلان الهيئة الكردية العليا بين مجلس غربيّ كردستان والمجلس الوطنيّ الكرديّ كان حظ الاتفاق وارداً وكانت فرصة الأمل تتسع في أن يتفق الكرد في سورية في موقف موحد يؤمن الاستقرار السياسي في مناطقهم، ويوحد توجهاتهم ضد النظام، وتجاه المعارضة في مطالب حقوقهم.
لكن الهيئة الكردية العليا في كوباني لم تعش إلا اسبوعا من التعاون تجسّد في الاتفاق الجزئي بين اللجان الأمنية المشتركة لإدارة المنطقة، لتعود الخلافات حتى أصدر المجلس الكردي بيان تجميد العمل بالهيئة في تشرين الأول/أكتوبر 2012 وبذا توقف أي تعاون بينهما حتى بدأت حرب «الفصائل» الأولى على كوباني، حينذاك تم تشكيل غرفة مشتركة لإدارة الأزمة سرعان ما تم حلها لاحقاً.
أمام رفض المجلس الوطني العمل مع TEV-DEM كان أمام قيادات الأخيرة تجاهل الأول كمجلس واللجوء إلى مخاطبة الأحزاب، والذي نتج عنه فتح مقر للهيئة الكردية العليا بمشاركة عدد من الاحزاب الكردية الصغيرة.
الخريطة السياسية للأحزاب الكردية في كوباني:
يتمتع حزب الاتحاد الديمقراطي بشعبية كبيرة في كوباني زادت أكثر بعد استلامه الإدارة في المنطقة واعلانه الإدارة الذاتية، وتليه أحزاب المجلس الوطني والتحالف الوطني الكردي، ومع الوقت انضم ثلث الاحزاب المؤسسة للمجلس الى تحالف الاحزاب الداعم والمشارك للادارة الذاتية.
حزب الاتحاد الديمقراطي مع عدد من الأحزاب اتحدت في مشروع الإدارة الذاتية الذي يعتبره الاتحاد الديمقراطي نموذج حل ويدعو لتطبيقه في سورية، وهي أحزاب مؤسسة لهيئة التنسيق الوطنية التي سرعان ما جمدت عضويته فيها.
الحراك الشبابي في كوباني:
تشكلت التنسيقية الأولى في كوباني باسم «شباب الكرد» في (12 – 4 – 2011)، وبعد جلسات تمهيدية عدة قامت بتنظيم تظاهرة في (18 – 4 – 2011)، بينما انطلقت التظاهرات الأولى في 1 نيسان 2011 كان للطلاب دور مهم فيها ليس في كوباني فحسب، إنما تعداه إلى تأجيج التظاهرات في جامعة حلب. ومع تحوّل شعارات التظاهر إلى لاسقاط النظام زاد ضغط الفروع الأمنية فبدأت بالاستجوابات ضد النشطاء وذويهم فتحولت التظاهرات إلى «تظاهرات طيارة أو مسائية».
قبلها برز اسم كوباني في القنوات العالمية كأول مدينة تخرج إلى التظاهر، وشكل ذلك ضغطاً على النظام، ليشدّد قبضته الأمنية على المنطقة وبالتحديد يوم جمعة «لا للحوار» حيث انكشفت أسماء النشطاء وبدأت الاعتقالات فتم تغيير اسم التنسيقية تارة إلى «أحرار كوباني» وأخرى إلى «تنسيقية شباب كوباني» أو «تنسيقية الشباب الكرد» لتتوحد غالب مجموعات الحراك الشبابي في المناطق الكردية ضمن «اتحاد تنسيقيات الشباب الكرد» «بهدف العمل تحت عنوان واحد» واستمرت التظاهرات الطيارة حتى جمعة «الموت ولا المذلة» (2 – 9 – 2011)، حينذاك نفذ النظام السوري أكبر حملة اعتقالات ومداهمات ضد الناشطين فتوقفت التظاهرات حتى إعلان المجلس الوطني الكردي (26 – 10 – 2011) وهو المجلس الذي همش لاحقا الحراك الشبابي المتمثل بالتنسيقيات.
ومع نهاية 2011، عادت «تنسيقية الشباب الكرد» إلى العمل وكذلك «تنسيقية كوباني» و «تنسيقية شباب شيران (نوروز)» واتحدوا تحت اسم (تنسيقية ألند كوباني) إضافة إلى «كروب شباب Girdê» حتى نهاية كانون الثاني (يناير) 2012، فانسحبت «تنسيقية شباب شيران» و «الشباب الكرد» لتبقى أربعة تجمعات من أصل ستة مكونة له.
ونتيجة تعمق الخلافات انسحبت أطراف عدة من «ألند»، وفي نهاية الشهر السابع 2012، ولدت خطوة أخرى لتوحيد الحراك الشبابي من خلال الإعلان عن تشكيل «المجلس الثوري في كوباني»، والذي ضم عدة تنسيقيات وتجمعات ثورية: «حركة شباب الثورة – الائتلاف الثوري لشباب كوباني – تنسيقية كوباني – الشباب المستقلين – تجمع شباب كوباني – شباب Girdê – اتحاد الطلبة الكرد في كوباني» وانسحبت منه غالبية الكتل وبقي فقط «الائتلاف الثوري» هو الذي يعمل باسم «المجلس الثوري»، والذي انضم إلى «آفاهي» ولاحقاً إلى «لجان التنسيق المحلية» وانسحب منهم جميعا فيما بعد، ليتشتت الحراك الشبابي ويزول لصالح نشاط منظمات المجتمع المدني التي تنامى دورها كما تنامى دور النقابات المهنية.
تظاهرات كوباني المزدوجة
كانت تخرج في كوباني أسبوعياً تظاهرتان أو أكثر، باختلاف التوجه فالأولى كانت تحت راية التنسيقيات تارة، والمجلس الكردي تارة أخرى وتأخذ أسماءها وشعاراتها من الثورة السورية، فيما الثانية كانت تحت راية TEV-DEM وكانت تركز على حقوق الكرد أو تندد بسياسات المعارضة والنظام أحياناً، إضافة إلى ممارسات الدولة التركية وتطالب بالإفراج عن السجناء.
وعلى الرغم من أنّ تظاهرات الشباب كانت تجابه بقوى أمنية تارة أو بمضايقات من «مندسين» وجوبهت بإطلاق الرصاص عليها أكثر من مرة فإنه لم يسقط أي شهيد فيها، حتى سقوط ولات حسي في 9 – 11 – 2013 حيث كانت كوباني محررة، وظلت القضية مكتومة في وقت اتهم المجلس الوطني الآسايش بالجريمة فيما اتّهمت الأساييش حزب آزادي بذلك. وفي تظاهرات كوباني أخذت سيارة الثورة – أوتومبيل أبو شلاش – شهرة واسعة فهي كانت مع المتظاهرين في شكل دائم وتحمل مكبرات صوت.
الوضع الإنساني في كوباني قبل الحرب
فرضت كتائب من الجيش الحر، «وجبهة النصرة» حصاراً على مدينة كوباني في آب (أغسطس) 2013، الحصار شمل الغذاء والدواء وحركة المدننين، إضافة إلى قطع الكهرباء والمياه بشكل كامل، وبعد استيلاء تنظيم «الدولة الإسلامية» على المنطقة أكمل مهمة النصرة في حربها وحصارها، وفي اعتقال المدنيين على الهوية، على رغم أنه حدث اتفاق بين الكتائب التي حاصرت المدينة وبين YPG إلا أن تنظيم «داعش» تملص من الاتفاق فور قيامه بطرد الجيش الحر من المنطقة وتابع حصاره.
استمرّ الحصار والحرب عاماً قبل نجاح التنظيم وتفوقه العسكري، بخاصة بعد أن توسع إلى الفرقة 17 في الرقة، ومطار الطبقة حيث حشد أسلحته الثقيلة مدعمة بقوات ضخمة وهاجم المدينة من ثلاثة اتجاهات في أكثر من عشرين نقطة وهو ما أدى إلى انهيار المقاومة وتراجعها إلى داخل المدينة وترافق ذلك مع نزوح كامل للسكان.
وفق الإحصاءات المحلية، فإن عدد سكان كوباني وصل الى 500 ألف، منهم 75 ألف يسكنون المدينة وما تبقى موزعون على 400 قرية في الريف، مع بدء الثورة السورية تضاعف العدد ليبلغ 600 ألف، حيث عاد غالب أهالي كوباني في المحافظات السورية إلى مدينتهم، إضافة إلى نازحين عرب من حمص وريفها، وحماة، وإدلب، ودرعا، وحلب، ليشكل ذلك ضغطاً إضافياً على المدينة، في ظل صعوبات العيش وتوفير المتطلبات الإغاثية لهم، ادى لتفاقم الأوضاع نتيجة الحصار وتملص مؤسسات المعارضة السورية من واجباتها في دعم النازحين.
افتتاح بوابة مرشد بينار
معبر مرشد بينار، على رغم أن افتتاحه كان محدوداً للأغراض الإغاثية والصحية، فإنه اعتبر شريان دعم المدينة التي أصبحت مغلقة تماماً من جانب «داعش». وافتتح المعبر بتاريخ (4 -10 – 2013)، بإدخال مواد إغاثية، والسماح بعبور الحالات الإسعافية، والتي تتطلب تدخلاً علاجياً طارئاً، وشهد المعبر الزيارة الرسمية الأولى التي اعتبرت تاريخية لقيادات حزب الشعوب الديمقراطية HDP الى كوباني (11 – 10 – 2013) لكن بعد تحرير المدينة من داعش اعادت تركية اغلاقة بشكل نهائي.
الواقع التعليمي في كوباني:
مع إعلان تحرير كوباني، وجد المجتمع الكردي المخنوق فرصة لإعادة إعادة تنظيم نفسه، بعد عقود من التغييب، والحرمان من ممارسة أبسط الحقوق الثقافية، فانطلقت بداية حملات تعليم اللغة الكردية بشكل تطوعي، فقام عدد من المعاهد الخاصة بفتح ساعات يومية مجانية لكل راغب في التعلم، فزاد الإقبال من قبل الناس وزاد عدد المعاهد التي استجابت للمبادرة، لتأتي ضرورة توفير معاهد خاصة، وتوفير مدرسين، حتى تم الإعلان عن مؤسسة اللغة الكردية في مبنى السراي القديم، والتي كانت تُخرج شهريا المئات من الطلاب، كما وأن بقية المعاهد ظلت أيضا مستمرة في دوراتها المجانية لتعلم الكردية نطقاً، وقواعد.
عانى الكرد لعقود من حرمان التعليم بلغتهم، ومورست بحقهم أبشع السياسات العنصرية من حظر التعليم باللغة الكردية في المدارس وتعريب أسماء المدن والقرى في محاولة تغيير ديموغرافية المناطق الكردية، وتنفيذ مشاريع عنصرية كالحزام العربي وغيرها من القوانين لغرض صهر القومية والثقافة الكردية في بوتقة الثقافة العربية ومنعها من التحول إلى لغة تعلم وتعليم، لكن رغم ذلك فإن اللغة الكردية ظلت محافظة على أصالتها كونها كانت جزءا من موروث فكري تم انتقاله عبر الأجيال بقصص شعبية، وحكايا التاريخ والأجداد.
بالنسبة للتعليم المدرسي لم تتغير مواد التدريس كثيراً، حيث تمّ إضافة حصتين أسبوعيا لمختلف الصفوف، كما وطرحت مشاريع لتحويل المناهج إلى اللغة الكردية، لكن تبعات الحصار والحرب فرضت ظروفا مختلفة، عرقلت تنفيذ غالبية المشاريع، بل أدّت إلى توقف التقدّم لامتحانات الشهادتين الإعداديّة والثانويّة بدءاً من العام 2013، ليحرم الطلاب من التعليم، حيث رفضت وزارة تربية النظام قبول تعيين المدرسيين الوكلاء أو صرف رواتبهم، على الرغم من ذلك قامت مؤسسة اللغة الكردية بتنظيم امتحانات الشهادات الإعدادية والثانوية في العالم 2013، لكن الحكومة السورية رفضت قبول نتائجها، ليتشارك النظام، وداعش، وجبهة النصرة في ضياع مستقبل عشرات الآلاف من الطلاب.
كان توجد في كوباني 225 مدرسة تعليم أساسي «من الصف الأول حتى التاسع» إضافة إلى ثلاث عشرة مدرسة ثانوية، وبلغ عدد المدارس المفتوحة أمام الطلاب 64 مدرسة فقط فيما أغلقت 161 مدرسة في شكل كامل ولم تفتح أبوابها أبداً في السنة الدراسية 2013-2014 نتيجة ظروف الحرب، حيث كانت غالب تلك المدارس في قرى الخط الأول من المعارك.
وبلغ عدد الشعب المدرسية 2426 شعبة، إضافة إلى 105 شعبة ثانوية وعدد الطلاب وصل إلى 59 ألف طالب وطالبة، فيما بلغ عدد المدرسين 3000 مدرس وعلى رغم العراقيل والصعوبات التي كانت مديرية التربية في حلب تضعها لوقف التدريس في كوباني، إلا أن المدرسين كانوا أكثر إصراراً على متابعة الالتزام بالتدريس والدوام المدرسي قدر المستطاع حيث داوم حوالى 900 مدرّس لعام كامل من دون أي راتب.
مع الحرب الأخيرة تدمرت 80% من المدارس بشكل كلي، والمدارس المتبقية مدمرة جزئياً، وتعرضت للتخريب، وغير مجهزة بالمعدات والأدوات التعليمية، لكن رغم ذلك تمكنت ” الادارة الذاتية” من ترميم العشرات من المدارس وعاد الطلاب لمدراسهم وهو يدرسون بلغتهم الكردية الام بشكل كامل بمنهاج دراسي جديد.
المجتمع المدني:
وجدت كوباني الفرصة المناسبة لإعادة صياغة القوانين المحلية، في الأيام التالية لإعلان التحرير من النظام، وسرعة انسحابه، ففي فترة قصيرة شهدت المدينة ثورة مدنية على كافة مناح الحياة الاجتماعية والمعرفية والعلمية بهدف إعادة بناء الإنسان وتكريس التربية الأخلاقية، فبدأ الناس يقبلون على مراكز تعليم اللغة الكردية، ومعاهد لتخريج مدرسين مختصين في مختلف العلوم وفق مبادئ وقيم أخلاقية ومهنية، وانطلقت الكثير من النشاطات الثقافية، والإعلان عن العديد من المنظمات المدنية والهنية في فترة قصيرة، ليصبح الأمر وكأنه رد فعل طبيعي على عقود من الحرمان.
ومع تراجع قبضة النظم الامنية منذ حزيران 2011 حتى استعادت نواة المجتمع المدني في كوباني دورها، وشيئاً فشيئاُ انتعشت الحياة المدنية فيها واتسعت دائرتها، وسرعان ما تمحور النشطاء المدنيون ونظموا أنشطتهم كل في حقله إلى أن اكتملت العشرات من المنظمات والاتحادات يمكن تسميتها ب”المجتمع المدني” في كُوباني.
وكانت لممارسات النظام السوري واحتكاره المشهد العام دورٌ في عدم لعب النشطاء الذين يحملون فكر المجتمع المدني في ” الحياة المدنية”، خاصة أنّ النظام كان مسيطراً على كامل الدوائر الثقافية والخدمية والتعليمية، ولم يترك مجالاً لأي نشاط ذات طابع مختلف عن منهجيته (منهجية النظام) إلى درجة أنّ حدوث أي اجتماع في منزل ما لدواعي اجتماعية أو لسرد نشاط ثقافي أو قراءة قصيدة شعرية، كان مراقباً من قبل أجهزة الأمن، حتى أنّ التكلم باللغة الأمّ (الكُرديّة) كان محظوراً يدخل في خانة المضايقات أو الابتزاز.
بيد أنّه وعلى الرغم من كل ذلك كانت هنالك منظمات مدنية تتبع أو تنسجم أو تتغطى بالأحزاب الكردية وتعمل بشكل محدود وسري للغاية، بمعيّة “سياسة غض النظر” التي كان النظام يتّبعها مع الحركة الكُردية منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي (وكان للنظام دور كبير في الانشقاقات الحزبية التي قسمت حزباً كرديّا واحدا إلى ثلاثين حزباً وأكثر) ما أدى أو نتجت عن ذلك هشاشة البُنية السّياسيّة أولاً، وتالياً المدنية وهو ما أثّر سلبا على دورهم في المُمارسة في تلك الدائرة الهامش الدّيمقراطيّ الذي تفضّل الأحزاب الكُردية أن يسمونها؟ في وقت من الأوقات، بحيث تَبْدو أَكْثر فأَكْثر تَجْسيداً للمصالح الخاصّة والجزئيّة.
من المعروف أنّ غياب القانون الحاكم يُنمّي نُزوعاً قويّاً إلى البَحث عَنْ المُواطنةِ، والعُموميّة، والمصالح الوطنيّة، والحرّية داخل المجتمع المدنيّ، الذي أَصبح إحدى الوسائل المُوظّفة والمُستعملة لخدمة المصالح السّياسيّة في الفكر “الحزبيّ الكرديّ” ومَنْ يُسوّقون (بشكلٍ غَيْر مُباشرٍ) لِخطابِه.
المرحلة الانتقالية / الادارة الذاتية، واعلان فدرالية روجافا/:
زاد الاهتمام الدولي بالمنطقة الكردية في سوريا، وشكل التوجه اليها نقطة بالغة الاهمية، وخاصة وأنها كانت الأكثر أمنا، وتفتحا على الاعلام العالمي، حيث توافدت العشرات من الوسائل الاعلامية، وارسلت مراسليهم الى مدن الجزيرة، وكوباني وعفرين وهو ما شكل منعطفا مهما لدعم التجربة الكردية في سوريا، والتي عرفت باسم “روجافا”.
حرب كوباني لعبت دورا مهما في تثبت وترسيخ اعتماد تسمية روجافا في الاعلام العالمي وشهرتها وإن كانت الاحزاب الكردية قبل ذلك تطلق تسمية روجافي كردستان، اي غربي كردستان، حتى تم الاعلان عن اقامة فدرالية روجافا – شمال سوريا في مؤتمر حضره 200 شخصية من مختلف مكونات المنطقة في تاريخ 17/اذار، مارس 2016 كحدث تاريخي يضع اللبنة الاولى لفدرلة سوريا.
بطبيعة الحال، فإن المناطق الكردية في سورية / ظلت ترزح تحت ظروف قاسية، نتيجة الحرب التي يشنها تنظيم الدولة الإسلامية من جهة، والحصار الخانق الذي تفرضه التشكيلات الإسلامية “المعارضة” بالتعاقب، معطوفاً عليه الدور التركي السلبي والرافض لأي صعود للكرد في سوريا، وهو الموقف الذي ينسجم مع وجهة نظر أطياف المعارضة السورية الرافضين لكيان “الإدارة الذاتية” و” الفدرالية” ويعتبرونها مشاريع تقسيم، في الوقت الذي يشدد المسئولون الكرد بأنهم يسعون إلى ترسيخ سورية ديمقراطية موحدة ومتنوعة في آن، ويعملون لتعميم نموذجهم لسوريا المستقبل وفق قاعدة الجمهورية الاتحادية الديمقراطية.
وبعيداً عن المشهد العام المتداول، ظهرت تحديات عميقة تعصف بتجربة الحكم الذاتي المعلن من طرف واحد إذ ما قفزنا فوق التحديات الأمنية والعسكرية، سنصطدم بجملة من عقبات اقتصادية بالغة الصعوبة، فكوباني كاحدى مدن الادارة الذتية ظل تعاني من ويلات تدهور الحياة الاقتصادية، والحرب، والدمار، وهي تقع على الشريط الحدودي مع تركيا حالها كحال باقي المدن الكردية، وكان بإمكان الحكومة التركيّة التخفيف من آثار الحصار، والاستجابة للنداءات المحلية والدولية بفتح بوابتها رسميا، بدل تشديد الرقابة على الحدود حيث لا يتوانى الجنود الأتراك في إطلاق النار على من يحاولون اجتياز الحدود، و”كأن تهريب الاحتياجات الحياتية أخطر من إدخال الأسلحة والجهاديين”.
ومهما كانت الصورة القاتمة إلا أن الحياة في كوباني والمدن الاخرى سارت ببطيئ وبطريقة منظّمة، ولا شيء كان يوحي بتفكيك الشؤون العامة، حيث عملت السلطات المحلية بمؤسساتها وهيئاتها على متابعة شؤون الحياة، وحاولت قدر المستطاع مساعدة الناس في احتياجاتهم اليومية بالحد الكافي عبر منظمات ومؤسسات تقف على تنظيم الخدمات وتدبير احتياجات عوائل الشهداء، والنازحين وذوي الاحتياجات الخاصة، وتحريك عجلة القطاع التعليمي، مع أهمية إيلاء بوجوب تحسين مستوى الأمن عبر عناصر الشرطة ” الاسايش” وإحالة معظم القضايا الشائكة إلى المحاكم المحلية المختصة، لتتفرغ بدورها وحدات حماية الشعب صون الحدود.
حرب تنظيم الدولة:
شن تنظيم الدولة الإسلامية/ داعش في 15 يوليو/أيلول 2014، (تحررت في 27 شباط 2014 بعد 134 يوما من المعارك) حربه الشاملة على كوباني بهدف السيطرة على ما سمّاه عين الإسلام وضمها إلى دولته، مسخّراً لذلك جيشاً من مقاتليه المدرّبين، وأكثر أسلحته فتكاً من مدافع ودبابات، مع تخطيط وتحضيرات كبيرة في حصار وحرب شاملة من ثلاث اتجاهات، الأمر الذي أدى إلى نزوح ما يقارب نصف المليون مدني باتجاه المدن الكردية في تركية، ليسطر أهل كوباني بأنهم أول مدينة سورية رفضت قبول واحتضان داعش، حيث تمّ إخلاء أكثر من 400 قرية وبلدة، إضافة إلى المدينة التي رفض معظم سكانها المدنيّ البقاء فيها، وانتظار حكم دولة البغدادي البعيد كلّ البعد عن الثقافة الكرديّة.
كانت حرب داعش استكمالا للحرب التي أعلنتها جبهة النصرة، وفصائل من الجيش الحر على المدينة، والتهديد بأنهم سيصلّون العيد في جوامعها.
منذ تاريخ إعلان الحرب، وحتى نهاية أيلول 2014، أصبحت كوباني مدينة شبه خالية من المدنيين، بعد أن نظمت وحدات الحماية الشعبية خطط اجلاء المدنيين خشية تكرار مأساة شنكال، المقاتلون الكرد ادركو ان دفاعتهم لن تصمد امام التنظيم لذا نصحوا المدنيين باهمية اخلائها والتوجه لكوباني ليشكلوا مجموعات فدائية في كل قرية، لعرقلة تقدم التنظيم، كل قرية كردية سجلت ملحمة مقاومة وشهدت عمليات فدائية، بصدور عارية وسلاح فردي صمدو في وجه دبابات التنظيم، ولم يقبلوا احتلالها الا بشهادتهم، المئات من قصص المقاومة، والمئات من الابطال الذين سطروا بدمائهم ملحمة كوباني من جودي الى ايريش الى جودي الى زوزان مزكين وغيرهم من الاسماء التي لا تنتهي في ملحمة سرزوري في 15 من أيلول، تعلك، دكرمان، خرخري، كري كاني مشتنور.
غالب المدنيين لجأ إلى بلدة سروج، وقراها على امتداد الشريط الحدودي، وافترشوا الشوارع والصالات والجوامع طيلة أسابيع على أمل وثقة أن هزيمة التنظيم واقعة لا محالة، وأن عودتهم إلى مدينتهم قاب قوسين أو أدنى، فيما ظلّ آخرون وقدر عددهم الثلاثة الاف في المنطقة المحرّمة بين سكة القطار، والأسلاك الحدودية وهم يغامرون بخطر الألغام والقذائف التي تستهدفهم. الحرب كانت تستهدف الوجود الكردي، وضرب منجزاته المتمثلة في اعلان الادارة الذاتية خشية تثبيتها كتجربة تؤدي لاقامة كيان كردي مستقبلا وهنا تقاطعت مصالح المعارضة السورية مع النظام السوري مع الدولة التركية مع داعش في استهداف الوجود القومي للكرد في سورية.
أول غارة للتحالف الدولي على مواقع داعش، بدأت في الرابع والعشرين من سبتمبر2014، حينما استهدفت آليات للتنظيم في قرية “سي تلب” جنوبي كوباني 12 كم، ثم تتالت الغارات، لكنّها لم تستطع عرقلة تقدم داعش الذي كان يهاجم بأسلحته الثقيلة من مختلف المحاور، حتى دخل كوباني في منتصف تشرين الأول، معلناً احتلال أجزاء من المدينة بعد بسط سيطرته على أهم موقعين استراتيجيين وهما جبل مشتنور، وكري كاني، لتدخل المعركة مرحلة جديدة، مرحلة حرب الشوارع، رافقتها خطة إجلاء أولى للمدنيين في 9 أكتوبر 2014 باتجاه تركية، عبر بوابة مرشد بينار، معارك جبل مشتنور كانت الأعنف حيث سعى داعش للسيطرة عليه كونه اهم موقع استراتيجي يشرف على المدينة، والجبل شهد اول عملية فدائية قامت بها آرين ميركان، لتصبح رمزا عالميا في التضحية، ورغم أنّ المقاتلين الكرد كانوا قد تحضّروا لمثل هذه الحرب، لكن سرعان ما انهارت خطوط الجبهات سريعاً، نتيجة عدم تكافؤ نوعية السلاح المستخدم، وعدم وجود أسلحة مضادة للدروع، وكونهم محاصرون من اربع جهات، وليتقدم مسلحو داعش من محورين، في 10 نقاط توزّعت بين الجبهة الشرقية، والجنوبية، والجنوب غربية حتى وصلوا إلى نقاط متقدمة داخل المدينة مع التركيز على إرسال السيارات المفخخة واستهداف مدفعي وهاون لنقاط المقاومة المتبقية، بهدف الوصول إلى بوابة مرشد بينار، فتقدموا إلى الجامع الكبير، والمصرف الزراعي جنوبا، ليحتلوا حي كاني، والمربع الأمني، حتى مطعم الكندي، ومنه إلى شارع 48، وحي مقتلة، وحارة بوتان، والمشفى الحكومي حتى ساحة اكسبريس، بنسبة سيطرة وصلت إلى 90%.
في ليلة العاشر من تشرين الأول، انهارت خطوط الدفاعات الأخيرة، وفقد الاتصال بين مجموعات الـ YPG داخل المدينة، وتمكن مسلحو التنظيم من اختراق الجبهة الشرقية، واقتربوا من البوابة الحدودية، وكانت أصوات التكبيرات تتعالى، في تلك اللحظات، كان القرار الحاسم، خاصة وأن وسائل إعلامية عديدة قد أعلنت ” سقوط كوباني”، ليصدم العالم بالخبر الذي هبط كالصاعقة بين مصدق ومكذب، في وقت كانت فيه التظاهرات تعم مختلف المدن التركية، محملينها مسؤولية ما يحدث، ما أدّى إلى سقوط 41 شهيداً، وأيضا كانت مختلف العواصم العالمية تصدح باسم كوباني ومقاومتها، وتطالب بالدعم الدولي وحمايتها، في تلك الساعات كان العالم برمته ينتظر الأخبار القادمة من تلك المدينة الصغيرة، وهي تتمثل قيم البطولة، والفداء، والقرار المصيري الذي اتخذه أبناؤها بالدفاع عنها حتى الرمق الأخير، ساحة بوابة مرشد بينار تحولت إلى خط جبهة أخير، بقرار الاستمرار في القتال حتى آخر طلقة، فيما اعتقل الجنود الأتراك المجموعة الأولى التي دخلت أراضيهم من مرشد بينار وكان غالبهم صحفيين محليين، وبالفعل تم توزيع الأسلحة، وتقاسم الذخيرة القليلة الباقية واتخذت المقاومة بقيادة محمود برخدان والى جانبه انور مسلم واسيا عبد الله قرار القتال حتى النهاية على تسليم المدينة.
تعالت تكبيرات داعش واقتربت، وعادت الطائرات إلى التحليق، وبدأت أصوات القصف تشتد ليتحول ليل كوباني إلى نهار من شدة الانفجارات، وبعد سبعة وثلاثين يوماً من المقاومة البطولية من أبناء كوباني وعفرين والجزيرة وبعد أن روّت أرض كوباني دماء الشبّان والشابّات من أربعة أجزاء كردستان، وتداخل الدم الكرديّ والعربيّ، تدخل على إثرها التحالف الدولي وكثّف قصفه للمرة الأولى، حيث لم تهدأ الغارات حتى الصباح، ومشّطت مساحات هائلة بدءاً من الجامع الكبير حتى جامع حج رشاد، وحارة بوتان، وساحة إكسبريس مما منح المقاومة فرصة لإعادة استجماع قوّاتها، وإعادة تنظيم الاتصالات مع مجموعاتها، ليبدأ التنسيق الفعلي الأول بين الـ YPG وطيران التحالف، وهو ما منح القوات على الأرض فرصة أكبر لإعادة تنظيم صفوفها وخاصة مع توافد المتطوّعين من كوباني ومن غيرها من المدن الكرديّة في الأجزاء الأربعة وصار المتطوّعون بالمئات إلى داخل كوباني، وانضمامهم إلى مقاومتها، وحتى الحصول على الذخيرة بالدعم الجوي عن طريق الطائرات الأمريكية بتاريخ 20 تشرين الأول 2014، وهو ما شكّل نقطة انقلاب في المواقف الدولية وبالتحديد الموقف الأمريكي الذي كان يشكك في إمكانية صمود المدافعين عن كوباني لتتبدّل النبرة إلى أن كوباني لن تسقط، فسجل مقاتلو كوباني ومقاتلاتها، فصولاً جديدة من المقاومة، فهم لم يطلبوا تدخلا دوليا، أو حماية جوية بقدر ما كانوا يطلبون الذخيرة، والأسلحة وفك الحصار عنها.
كانت الحدود التركية مع كوباني تشهد احتجاجات شعبية متواصلة من قبل الكرد الذين توافدوا الى سروج لمساندة مقاومة كوباني سواء بالتطوع والانضمام للقتال أو تأمين وحماية الحدود من الطرف التركية بتنظيم فرق مراقبة وأمن وحراسة واغاثة خشية تسسل مسلحي الداعش عبرها الى المدينة، كما وشهدت انتفاضة إعلامية بتوافد المئات من الوسائل الإعلامية لنقل تفاصيل الحرب، والقصف، والنزوح في ظاهرة قلما تتكرّر، حيث لم تبق وسيلة إعلامية إلا وسافرت باتجاه الحدود التركية مع كوباني، حتى وسائل الإعلام الأرضية، والمحلية، والإذاعات كانت تتحدث يومياً عن حرب كوباني، ومقاومة نسائها وأبطالها، وصمودهم، ومأساة النازحين.
الكثير من الصحفيين وعلى الرغم من المخاطر دخلوا إلى كوباني من خلال طرق وعرة وخطرة، لتوثيق الحرب من الداخل ونقل مجرياتها، ولينقلوا صور مقاتلي كوباني ومقاتلاتها لتتألق صورهنّ في العالم حيث استطعن كسر أسطورة المحارب، في ظاهرة قلما تحدث في تاريخ الشرق بأن تظهر مقاتلات يحملن البنادق ويتوجهن إلى الصفوف الأمامية على الجبهات المشتعلة ضد داعش، تلك المقاتلات اللاتي تميزن بالبسالة والشجاعة، وحاربن الإرهاب وجهاً لوجه بكل عزم، وإصرار إلى جانب مقاتلي كوباني ليصبح صمودهم أحد معجزات القرن.
تحرير جبل مشتنور في 19 كانون الثاني 2015 كان إيذاناً بتحرير كوباني، الذي تأخر إلى السابع والعشرين من تاريخ 31 من تشرين الثاني كان مختلفاً بالنسبة لكوباني، فهو اليوم الذي نجحت فيه قوات البشمركه بالدخول إلى المدينة وهي تحمل معها الأسلحة الثقيلة والذخيرة القادمة من إقليم كردستان، فقبل هذا التاريخ وبأسبوع كانت المقاومة في كوباني تعيش أصعب مراحلها، فداعش كثّف من هجماته وقصفه للسيطرة على المدينة وكانت منطقة البوابة تقصف يومياً بالمئات من القذائف، وتفجير السيارات المفخخة، في في محاولات متكررة لإنهاء المعركة قبل وصول البشمركة، لكن مقاتلي كوباني صمدوا وتمكنوا من صد كل المحاولات، فترة عصيبة كانت فيها تركية تراهن على سقوطها، حتى نجحت قوات البشمركه من الدخول إلى المدينة، وليتم توزيع الذخيرة والأسلحة، وليمر الأسبوع الأول ولتنتقل المقاومة من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم، ودفْع مسلحي داعش إلى التراجع إلى المربع الأمني، وسوق الهال، ودعم خطوط المواجهة في المدخل الجنوبي، حتى ساحة الإكسبريس، آخر الهجمات القوية لداعش كان بتاريخ 29 تشرين الثاني 2014 حاول اقتحام بوابة مرشد بينار بتفجير سيارة مفخخة دخلت من الطرف التركي، مخلفة العشرات من الشهداء، وأصيب حينها أحد أهم قيادات الحرب في كوباني/ فيصل أبو ليلى الذي كان يتزعم قيادة كتيبة شمس الشمال، والذي نجح مع مجموعته من صد محاولات تسلّل مسلحي التنظيم الذين تحصّنوا داخل الصوامع التركية وجرت معركة قصيرة أدت إلى مقتلهم ابو ليلى استشهد لاحقا في حملة تحرير منبج، بعد اقل من شهر من تعافيه من الاصابة.
في السابع والعشرين من كانون الثاني 2015، اُعلن وفي مؤتمر صحفي عن تحرير كوباني بقيادة محمود برخدان كقائد عسكري وانور مسلم كرئيس حكومة المقاطعة والذي ظل صامدا في المدينة مع عدد من رؤوساء الهيئات. فتحت البوابة الحدودية مع تركية لأول مرة أمام أفواج الصحفيين الذين ظلوا يراقبون ويوثقون حرب كوباني عبر الحدود، فدخل العشرات منهم المدينة، ليصبحوا شهود عيان على حجم المعارك، وعنفها، وكمية الدمار.
وفور دخول اول موجة من الصحفين الى كوباني كان الاستغراب هو المشترك بينهم «لا أصدق ما أراه، أمن المعقول أن تكون هذه كوباني” أي بطش نكل بمدينتنا هذه؟ أية حرب قاسية جرت هنا؟ وتابع: «داعش تقصد البقاء هنا، ليكتمل دمار المدينة، حين أدرك أن انتصاره مستحيل».
حينما كنت تتجول في العدد القليل جداً من الشوارع السالكة لا تستطيع أن تعاين إلا دماراً وخراباً هائلاً، وكذلك تقرأ في كل زاوية وعلى كل حجر متهاوٍ قصصاً من حرب قاسية وحكاية من الاف حكايات البطولة والشهداء يرويها العدد القليل من اصدقاء السلاح الباقيين عنهم.
كل شوارع كوباني كانت تنطق بقصة، وفصول مقاومة، وقتال حتى الرمق الأخير… فخطوط الاشتباكات من خلال آثارها المرسومة ظلت بارزة للعيان، وواضح أنّ الحرب انتقلت من شارع إلى شارع، من خلال الكم الهائل من آثار الرصاص، ومن خلال الدمار والخراب الكبير الذي حلّ بالمكان. ساتر قماشي أسود، وأحمر، وأخضر هنا أيضاً يمكنك أن تميز من كان يقف خلفه، وأين كان يقف هنا وهناك.
كانت هنلك جثث متفحمة على طول الطريق، ورائحة كريهة تنبعث من تحت ركام البنايات التي اجتهد أهل كوباني خلال العامين الأخيرين في بنائها نتيجة الازدهار العقاري، لتتحول معها المدينة الحديثة إلى بقايا صور.
بحسب دراسة اقتصادية أعدها الدكتور مسلم طالاس فإن الخسائر لكامل الناتج المحليّ لكوباني وصل إلى /890/ مليون دولار، والمجموع التراكمي للخسائر بلغ 5,658,222,670 دولار، وهو رقم تقديري فحسب، فنسبة الدمار في المدينة وصلت إلى 70%.
رغم ذلك لم ينتظر أبناء كوباني الكثير قبل أن تبدأ قوافلهم بالتحرك، والعودة منذ 15 فبراير، بعد خمسة أشهر من رحلة المعاناة، والتشرد، والمخيمات، ليحاولوا إعادة الحياة إلى مدينتهم، وقراهم على أمل أن يتحقق الأمان، وأن تزول هذه الحقبة الصعبة، وهم يضعون نصب أعينهم العيش في خيمة فوق ركام منازلهم.
لم يسلم بيت في كوباني من القصف أو من الدمار، أحياء بكاملها سويت بالأرض وظلت بعض الأعمدة منتصبة تروي قصص الحرب وبطولات أبناء هذه المدينة التي تحولت إلى رمز عالميّ للصمود، رغم أنّ المعارك كانت قريبة جداً، فضل الكثيرون العودة، وهو ما جعلهم أيضاً يدفعون الثمن نتيجة اختراقات للتنظيم، والتسلل إلى بعض القرى، إضافة إلى سقوط قتلى بمخلّفات الحرب والمفخّخات، والقذائف.
انتصارات القوات الكردية لم تتوقف عند حدود كوباني، بل امتدت حتى تحرير كامل الريف الغربي حتى جسر قرقوزاق، في 14 مارس 2015، تبعتها معارك شملت تحرير تل أبيض التي كانت تعتبر عاصمة التنظيم الفعلية كونها تحتوي على المعبر الذي يربطها بتركيا، بالإضافة إلى تحرير مسقط رأس التنظيم سلوك، وعين عيسى ومنبج وصولا لعاصمته الرقة، قبل الاعلان النهائي عن تدمير الخلافة في معركة الباغوز، آخر معاقل تنظيم الدولة والتي بدأت 9 فبراير 2019 وانتهت باعلان التنظيم الاستلام بتاريخ 23 مارس 2019.
وكان تحرير تل أبيض في 15 حزيران حدثاً تاريخاً، حيث انطلقت المعارك من ريف كوباني الشرقي، بالتزامن مع معارك في ريف الحسكة، وتمكن المقاتلون القادمون من الجزيرة من الالتقاء بمقاتلي كوباني في يوم 16 حزيران 2015، وهو ما ساهم في فكّ حصار كوباني لأوّل مرة منذ عامين، وربطها بالجزيرة، وأدى بالتالي إلى تدفّق المواد الغذائية، والمحروقات مرافقة بانخفاض في الأسعار، وانتعاش السوق المحلية، وازدياد رغبة الناس في العودة، حتى صباح 25 حزيران حينما تسلّلت مجموعة من مسلحي التنظيم إلى المدينة في الساعة الثالثة صباحاً في اختراق أمني فاضح، وارتكبت إحدى أكبر المجازر بحق المدنيين حيث سقط ما يزيد عن الألف ضحية، نصفهم شهداء بأسلحة التنظيم وسكاكينه التي لم ترحم حتى الأطفال والنساء.
مصطف عبدي