شهادات من ناجين: مجزرة الشعيطات.. إحدى أبشع ما ارتكبه داعش من جرائم في سورية

تقع منطقة “الشعيطات” في ريف محافظة دير الزور الشرقي وعلى الضفة الشمالية لنهر الفرات. تتشكل المنطقة من ثلاث بلدات هي، من الغرب إلى الشرق، أبو حمام والكشكية وغرانيج.

و“الشعيطات” هو اسم عشيرة عربية مسلمة سنية وهي فرع من قبيلة “العكيدات” الزبيدية. تُشير تقديرات سابقة على العام 2014 إلى أن عدد سكان المنطقة كان أكثر بقليل من مئة وخمسين ألف نسمة. لكن وقائع ما بعد العام 2011 أدت إلى تزايد عدد قاطني المنطقة التي استقبلت النازحين من أبناء المدينة بدير الزور الذين اضطروا إلى النزوح منها بسبب القتال. يعتمد أهالي المنطقة على الزراعة والتجارة بشكل رئيس لتحصيل أرزاقهم كما أن عددًا كبيرًا من أبناء المنطقة مهاجر في بلدان الخليج العربي وهؤلاء يشكلون سندًا مُعتبرًا ومفتاحًا أساسيًا لازدهار المنطقة اقتصاديًا.

دخلت قبيلة الشعيطات منذ يوليو 2014 في صراع مع الدولة الإسلامية. حاربت القبيلة للاحتفاظ بالسيطرة على مناطقها ضد تعديات الدولة الإسلامية وانتهى النزاع بتهجير سكانها وقيام التنظيم باعدام واعتقال الآلاف.

في أغسطس 2014، ارتكب مقاتلوا الدولة الإسلامية مجزرة رميا بالرصاص، وقطع الرؤوس والصلب بنحو 700 من أفراد قبيلة الشعيطات خلال فترة ثلاثة أيام ولم تتوقف الملاحقات حيث أصدر قادة التنظيم في صيف سنة 2015، حكماً بالقتل على كل من يتجاوز عمره 14 عاماً من أبناء العشيرة مع مصادرة أراضيهم وبيوتهم وسبي نسائهم.. وأصبحت واحدة من أكثر الفظائع دموية التي ارتكبتها الدولة الإسلامية في سوريا.

في منتصف ديسمبر 2014، أفيد بأن مقبرة جماعية مع نحو 230 من رجال قبيلة الشعيطات في محافظة دير الزور تم العثور عليها من قبل ذويهم. وبذلك يصل عدد أفراد قبيلة الشعيطات الذين قتلوا على يد الدولة الإسلامية منذ صيف 2014 إلى أكثر من 900 لكن الأعداد أكبر من هذا، خاصة المفقودين. تباهت دعاية الدولة الإسلامية في عام 2015 بشأن عودة بعض المدنيين من الشعيطات لقراهم في محاولة لتجاوز جريمتها لا سيما بعد تشكل التحالف الدولي وظهور قوات سوريا الديمقراطية وإدراك التنظيم أنه بات بحاجة للعشائر مجددا للبقاء والسيطرة على الأرض.

تسلسل الأحداث :
بدأ مقاتلو “داعش” بالزحف من الرقة إلى ريف دير الزور فاجتمع مسلحوهاعلى قرار بعدم السماح له بالدخول إلى مناطق ريف دير الزور الشرقي. وخاض المقاتلون من أبناء عشيرة “الشعيطات” حربًا ضروس مع التنظيم لعدة أشهر وسقط في خضم هذه الحرب العديد من الضحايا دفاعًا عن أرضهم.

لكن موازين القوى تحولت بشكل مفاجئ في شهر تموز من العام 2014. لقد كانت معارك الفصائل المقاومة لتنظيم “داعش” قد تركزت في منطقتي أساسيتين هما مدينة “البصيرة” غربًا، حيث تم وقف تقدم “داعش” فيها لفترة طويلة وانحصرت الاشتباكات في أطراف بلدة “الشحيل” من جهة الغرب، ومدينة “البوكمال” شرقاً. في هاتين المنطقتين كانت تدور أعنف المعارك إلى أن فوجئ الأهالي بتغير الولاءات ومبايعة جبهة “النصرة”، هيئة تحرير الشام حاليًا، تنظيم “داعش” و من ثم تسليمه مدينة “البوكمال”، رغم كل الضحايا الذين سقطوا دفاعاً عنها.

أُسقط في يد المقاتلين المقاومين وهبطت معنوياتهم؛ ولم يمض إلا فترة وجيزة لتسقط قرية “الشحيل” بيد تنظيم “داعش”. “الشحيل” التي كان يرابط فيها مقاتلو الشعيطات، وبسقوطها تحت سيطرة “داعش” تفتت الصخرة التي كانت تمنع التنظيم لفترة طويلة من التقدم و استكمال السيطرة على المنطقة.

بالفعل، تقدم تنظيم “داعش” بعد أن قدم العهود والمواثيق بالحفاظ على دماء وأرواح الأهالي ودخل المنطقة، لكن عناصر “داعش” بدؤا بنكص العهد وبعد أسابيع قليلة من دخوله للمنطقة افتعل التنظيم حدثاً يستفزهم به، ودفع هذا التصرف مجموعة من أبناء الشعيطات يحملون السلاح ويهاجمون أحد مقرات تنظيم “داعش” وقضوا على جميع عناصره واستلم الشعيطات إدارة منطقتهم من جديد.

ومع إدراك سكان المنطقة، وخاصة المقاتلين منهم، أن المعركة مع التنظيم ستتواصل وتحسبًا لما يمكن أن يقترفه التنظيم في حقهم من جرائم، فقد أخرج عدد منهم أسرهم، وبوجه خاص الأطفال و النساء و الشيوخ، إلى القرى المجاورة.

و في بداية شهر آب من عام 2014 بدأ التنظيم بالتحشيد مجددًا ضد منطقة “الشعيطات” من جهة بلدة “أبو حردوب” غربًا، ومن جهة قرية “البحرة” شرقًا، ومن جهة البادية، الشامية، عبر الضفة الجنوبية للفرات حيث نصب “داعش” مدافع حديثة كان قد استولى عليها في الموصل ونصبها فوق “تل الصالحية” المشرف على منطقة “الشعيطات” والقرى المجاورة لها.

بدأت المعركة بالتمهيد المدفعي و محاولات اقتحام منطقة “الشعيطات”. وبالمقابل استمات المقاومون من منطقة “الشعيطات” في الدفاع عن أرواحهم وبيوتهم و صمدوا بمفردهم لأكثر من 20 يومًا. زمن أجل حسم المعركة، أدخل التنظيم سلاح المفخخات الذي يستخدمه عندما يعجز في المقارعة المباشرة. فقام بتفجير عربات مفخخة تزن الواحدة منها آلاف الكيلو غرامات من المتفجرات. فكانت المفخخات إضافة إلى طول مدة الحصار، الذي فرضه على المقاتلين من أبناء “الشعيطات”، واستقدامه باستمرار تعزيزات عسكرية كبيرة وكذلك تحالفه مع بعض العشائر عوامل متكاملة ساهمت في حسم المعركة لصالحه.

بسط داعش سيطرته على كامل منطقة “الشعيطات” وبدأ حملة انتقام وحشية مديدة. قام “داعش” بقتل كل من وجده أمامه بُعيد انتهاء المعارك سواء كان مقاتلًا أم طفلًا أم شيخًا مُسنًا. فكان يصفهم بمحاذاة خنادق حفرها ويقتلهم ثم يُمثل بجثثهم وأخيرًا يُلقي جثثهم في الأخاديد المحفورة قبورًا لهم. أطلق “داعش” على مقاومي “الشعيطات” اسم “ضباع الشرقية” نقمة منه وتحويرًا للقب الذي يُطلق عليهم:” أسود الشرقية “. وأيغالًا منه في الوحشية، لم يدفن تنظيم “داعش” كل ضحاياه في مقابر جماعية، بل ألقى بجثث البعض منهم في العراء.

بطبيعة الحال، وثّق “داعش” أغلب جرائمه ضد أبناء “الشعيطات” بإصدارات مرئية بثتها معرفاته الإعلامية مفاخرًا بالفظائع التي ارتكبها بحقهم. ولم يغير التنظيم من ممارساته ضد أبناء “الشعيطات” حتى بعد أن أعدم “الشرعي” التابع له. “الشرعي” الذي أعلن أن عشيرة “الشعيطات” مرتدة وحكم بقتل أبناءها. “الشرعي” الذي أعدمه بتهمة العمالة لإيران.

أغلق التنظيم منطقة “الشعيطات” ومنع المرور منها لمدة 6 أشهر ونهب مقتنيات بيوت سكانها. امتد تعطش التنظيم للدماء ونقمته على “الشعيطات” حد أنه لاحق النازحين الذين خرجوا إلى القرى المجاورة فوسمهم بالمرتدين وقتل واعتقل العشرات منهم.

في نهاية العام 2020 اُكتشفت مقبرة جماعية تضم رفاة شهداء من أبناء “الشعيطات” في بادية قرية الجرذي بريف دير الزور الشرقي؛ هذه الجثث نُقلت وأُعيد دفنها في المقبرة التي ضمت شهداء مجزرة “الشعيطات”. إلّا أن الجراح في جسد “الشعيطات” لا تزال مفتوحة ما دام المئات من أبناء العشيرة مجهولي المصير حتى اليوم.

شهادة :
خطاب الشعيطي، 30 عاما. يشبه نجاته بالخروج من الجحيم والوصول إلى الجنة. ونجح خطاب في الفرار من ريف دير الزور، معقل العشيرة، إلى مدينة أعزاز شمال حلب. فبعد الهزيمة، استطاع بالاتفاق مع أحد المهربين الحصول على جواز سفر مزور يشير إلى أنه من مواليد مدينة البوكمال. وكان داعش أصدر قراراً يقضي بقتل كل من ولد في إحدى قرى الشعيطات الثلاث: أبو حمام، الكشكية وغرانيج. ويقدر عدد سكانها بأكثر من 100 ألف نسمة.

يقول ” استغربنا مع بداية عام 2013 وجود جماعات تحمل فكرا مشوها. معظم تفكيرهم عن القتل والدمار بحجة الدين”.

ويتابع “أول ما دخلوا كانوا متغلغلين في صفوف الجيش السوري الحر وقالوا نحن نقاتل معكم. ولكنهم كانو يمنعون عناصرهم من الاختلاط بنا. ولاحقاً قاموا باغتيالات قيادات الجيش الحر”.

بدأ القتال بين داعش وعشيرة الشعيطات في صيف عام 2014. واستطاع مقاتلو العشيرة دحر التنظيم إلى الشمال، وسيطروا على بلدتي مركدة والشدادي في الريف الشمالي الشرقي لدير الزور. طلب التنظيم هدنة بعد مقتل عشرات العناصر من الجانبين، وهو ما وافقت عليه العشيرة مقابل تسليم الأسرى وتخلي الشعيطات عن السلاح الثقيل. لكن الهدوء لم يستمر طويلاً بعد أن سيطر التنظيم على مدينة الموصل في العراق، استقدم الآليات العسكرية والذخائر وعزز وجوده في المنطقة.

عمل داعش خلال فترة الهدنة على نشر عناصره بين المدنيين في القرى الثلاث. وزادت وتيرة التجاوزات بحق المدنيين. لكن الحادثة التي فسخت الهدنة كانت اعتقال داعش لأحد أبناء الشعيطات (محمد رجب) في ليلة زفافه. قام عناصر التنظيم بذبحه أمام أهله، ما دفع الأهالي إلى الانتفاض في وجه داعش واقتحام مقراته، لتعود معها الاشتباكات لكن هذه المرة بموازين غير متعادلة.

يقول خطاب، وهو ينفخ دخان سيجارته بعيداً “بعد أن قتلوا محمد، أيقنا بأن القتال الآن خير من غد، خاصة وأن داعش كان يزداد قوة. أخرجنا السلاح الذي خبأناه وهاجمناهم”. استمرت المعركة 22 يوما. “استطعنا الدفاع عن مناطقنا لكن ذخائرنا بدأت تنفذ. ونصب داعش المدافع على المرتفعات التي تطل على قرانا وبدء بقصفنا بعشوائية، ناشدنا بقية العشائر لمؤازرتنا، ولكن لم تستطع فعل شيء”، يوضح خطاب.

وبعد فشل التنظيم ومقتل عدد من عناصره، وانحسار وجوده في عدة مناطق بريف ديرالزور الشرقي بسرعة، إذ اضطر لجلب تعزيزات جديدة من العراق لإخماد الانتفاضة ولتبدأ عملية الانتقام الجماعي من السكان، بقتلهم وتشريدهم من منازلهم.

ويتابع الشاب السوري “قررنا بعد مقتل عشرات المدنيين، أغلبهم من النساء، تسليم المنطقة في سبيل حماية المتبقين. لكن داعش قام بقتل الجميع، حتى النساء.. قٌتل واختفى من عشيرتنا الآلاف”.

“حوادث القتل التي ارتكبها داعش في حق المدنيين لا يمكن نسيانها” تتذكر عبير إحدى نساء العشيرة. بعد انتهاء القتال بالكامل، سمح التنظيم لبعض أفراد العشيرة بزيارة قراهم التي هجّرهم منها. “دخلنا إلى قريتنا غرانيج بعد أن ذبح فيها داعش 300 مدني. ملأت رائحة الموت المكان. معظم الضحايا قتلوا ذبحاً بعد أن ربطت أيديهم خلف ظهورهم، ثم ألقوا في قنوات الصرف الصحي”.

عبد الرزاق الخضر من وجهاء عشيرة الشعيطات في قرية الكشكية قال “المجزرة التي ارتُكبت بحقنا أبشع بكثير من مجزرة سبايكر التي حدثت بالعراق، ومرتكبي هذه الجرائم هم من قدموا إلى سورية من خلال الحدود التركية”.

ويذكر أهالي المنطقة قصة الشاب جاسم الذي آتى من السعودية خلال فترة العيد، والتي تزامنت مع هجوم داعش. أوقفه حاجز للتنظيم عند ناحية العشارة، وعندما علم حرس الحاجز أن أصله من قرية الشعيطات قبضوا عليه وصلبوه على شجرة.

أبناء عشيرة الشعيطات أنضموا لاحقا إلى قوات سوريا الديمقراطية وقاتلوا التنظيم على عدة جبهات أبرزها ريف حلب الشمالي، وكانت قوات الشعيطات في الخطوط الأولى خلال حملة طرد التنظيم من ريف الحسكة الجنوبي، ومدينة منبج والرقة والباغوز ويبلغ تعداد قواتهم 3800 مقاتلا.

-------------------------------

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا عن طريق إرسال كتاباتكم عبر البريد : vdcnsy@gmail.com

ملاحظاتك: اقترح تصحيحاً - وثق بنفسك - قاعدة بيانات

تابعنا : تويتر - تلغرام - فيسبوك