“المنطقة الآمنة”.. “حصان طروادة” أو “مسمار جحا”، التي تريد أنقرة تثبيته داخل الأراضي السورية، لأغراض إرهابية بحتة، أبرزها إعلان الوصاية التركية على سورية، إلا أنه إلى الآن تقف الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، فضلا عن النظام السوري، كحجر عثرة في طريق تحقيق هذه المؤامرة.
وبات مصطلح “المنطقة الآمنة”، الأكثر ترديدًا على لسان مسؤولي الحكومة التركية خلال الأيام القليلة الماضية بداية من الرئيس رجب إردوغان، ومرورًا بوزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، ووزير الدفاع خلوصي أكار، ما يؤكد أن المسألة السورية أصبحت الشغل الشاغل لأنقرة التي تستميت من أجل إيجاد دور لها في مستقبل البلد العربي ، وتعمل على احتلال أراضيه.
منذ دعوة إردوغان لأول مرة لـ”إقامة منطقة آمنة في سورية” خلال زيارته إلى واشنطن في مايو 2013 ، لم يتوقف الرئيس التركي عن تكرار الدعوة حتى وصلت إلى إعلان وزير دفاعه خلوصي أكار الاثنين الماضي، أن بلاده قد تنفذ مقترح المنطقة الآمنة “منفردة”، بالرغم من أن الأتراك لا يقدمون مبررات مقنعة للأطراف الدولية لقبول الاقتراح الذي تريد أنقرة تحويله إلى أمر واقع.
واشنطن في مقدمة الرافضين للمنطقة الآمنة التي تريدها تركيا على طول الحدود التركية السورية ( 460 كيلو مترًا)، وبعمق يصل إلى 40 كيلو مترا، وتريد الإدارة الأمريكية أن يكون عمق المنطقة حال تنفيذها 5 كيلومترات فقط، ولا تشمل كامل الشريط الحدودي، إذ تدرك واشنطن بوضوح الأهداف الخفية والمغرضة من وراء إقامة المنطقة بالرؤية التركية، فضلًا عن رفض روسي وسوري وأوروبي للمقترح.
في 25 يونيو الماضي، قال أردوغان في اجتماع بأنقرة أمام نواب من حزب العدالة والتنمية: “نحاول توسيع المنطقة الآمنة على امتداد حدودنا بقدر المستطاع لكي يتمكن اللاجئون السوريون في بلادنا من العودة إلى بلادهم… في الوقت الراهن عاد 330 ألفا، لكنني أعتقد أنه حين تُحل المشكلات في منبج وشرق الفرات سيصل العدد سريعاً إلى مليون”.
تفاصيل الخطة التركية
وزير الدفاع التركي خلوصي أكار قال في تصريحات الاثنين “إن تركيا ستكون مضطرة لإنشاء منطقة آمنة في سورية بمفردها، حال عدم التوصل لتفاهم مشترك مع الولايات المتحدة”.
بيان صادر من وزارة الدفاع التركي أوضح أن أكار اتصل هاتفيًا بنظيره الأمريكي مارك إسبر، وزعم البيان أن “تركيا هي الدولة الأنسب وصاحبة القوة القادرة على ضبط المنطقة الآمنة في سورية”.
ودعا البيان إلى ضرورة مصادرة جميع الأسلحة بحوزة حزب العمال الكردستاني (الذي تصنفه أنقرة كمنظمة إرهابية)، وإخراج عناصر الحزب من المنطقة الآمنة بشكل كامل، زاعمًا أن أنقرة “لا تهدف إلى حماية أمنها وأمن مواطنيها فحسب، بل إلى حماية الأكراد والعرب والآشوريين والمسيحيين والإيزيديين وبقية الإثنيات والطوائف الأخرى في المنطقة”.
عمق المنطقة الآمنة بحسب ما تريد تركيا وأعلنته في بيان وزارة الدفاع “يجب أن يمتد إلى 30 أو 40 كم من الحدود التركية إلى داخل الأراضي السورية”، مطالبة بضرورة سيطرة تركيا عليها بالتنسيق مع الولايات المتحدة.
أهداف خفية
في العلن، تقول الحكومة التركية إنها تسعى إلى وضع آمن لجميع السوريين في الشمال، بإقامة المنطقة آمنة، غير أن الحقيقة هي أن إردوغان يريد التخلص من الأكراد وإبعادهم عن حدود بلاده بتقسيم سورية، وشرعنة تواجد الاحتلال التركي في البلد العربي، فضلًا عن اتخاذ هذه المنطقة مبررًا لإعادة اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا إلى بلدهم، ومنع استقبال لاجئين جدد.
في طرحه لفكرة المنطقة الآمنة في اجتماع لقمة دول مجموعة العشرين في مدينة هانغتشو الصينية في سبتمبر 2016، قال إردوغان إنه طرح الفكرة على الرئيسين الروسي فيلاديمير بوتين والأمريكي دونالد ترامب، ومنذ ذلك الحين لا يزال الاثنان رافضين للفكرة من المنظور التركي.
في البداية، رفضت الولايات المتحدة المقترح بشكل قاطع، وشددت على أن تركيا تسعى إلى تنفيذ لقطع الاتصال الجغرافي بين مناطق الأكراد في شمالي سورية، وهو الأمر الذي يعد من أولويات إردوغان الذي يريد تشتيت أعدائه الأكراد والتخلص منهم، وإبعادهم عن حدود دولته لكي لا يشكلوا خطرًا عليها.
ما هي المنطقة الآمنة؟
بحسب الأعراف الدولية، فإن مصطلح “المناطق الآمنة” يشير إلى مناطق محددة باتفاق لا يقوم بموجبه أطراف النزاع المسلح بنشر قوات عسكرية فيها أو تنفيذ هجمات عليها، كما يتم إنشاؤها بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي، ما يعني أن إصرار تركيا على إقامة المنطقة بمفردها- بحسب ما صرح وزير الدفاع التركي- يعد انتهاكًا للقانون الدولي ويتطلب محاسبة دولية.
رسميًا، فإن الغرض من إقامة المناطق الآمنة في دول النزاعات يكون إنسانيًا، فهي تهدف إلى حماية المدنيين الفارين من القتال، وتسهيل حصولهم على المساعدات الإنسانية، غير أن ما تريده تركيا هو التحكم في شمال سورية، بإصرارها على أن تكون وحدها المشرفة على المنطقة الآمنة، معتمدة على قوات وشركات تركية تتولى التأمين وتأسيس اللوجستيات والبنية التحتية اللازمة.
الوصاية على سورية
إردوغان يحاول دائمًا تصوير نفسه الوصي الوحيد على سورية، وهو ما بدا من ترحيبه بإعلان الولايات المتحدة الأمريكية سحب قواتها العسكرية من سورية بنهاية العام الماضي 2018، كما عبر أكثر من مرة عن سيناريو رسمه في مخيلته لمستقبل سورية سياسيًا وأمنيًا.
في مقال نشره بصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في يناير الماضي، أفصح إردوغان عن رؤيته السامة لمستقبل سورية، إذ اقترح دمج الميليشيات الإرهابية المؤيدة له من عناصر “داعش” و”الجيش السوري الحر” في قوات عسكرية رسمية كحل عسكري مستقبلي.
كما اقترح تشكيل “مجالس محلية منتخبة تضم جميع أطياف الشعب السوري” من وجهة نظره، ليس بينهم الأكراد الذين اعتبرهم غير جديرين بالتمثيل لأن “لهم صلة بالمنظمات الإرهابية” حسب زعمه.
استغل إردوغان المقالة في دعوة المجتمع الدولي لتأييد تدخله العسكري والسياسي في سورية، والسماح له بدور أكبر، زاعمًا أنه منع وصول “داعش” إلى أوروبا، وأنه السبب في هزيمة التنظيم.
كما دعا إلى تنفيذ الانسحاب الأمريكي من سورية بسرعة و”بعناية شديدة وبالتعاون مع الشركاء المناسبين لحماية مصالح الولايات المتحدة والمجتمع الدولي والشعب السوري”، ما بدا أنه طلب ضمني للموافقة على عملية “شرق الفرات” العدوانية التي كان يريد شنها رغم المعارضة الغربية الواسعة.
مروجا لدور سياسي في سورية، كتب إردوغان: “اقترحت تركيا استراتيجية شاملة للقضاء على الجذور المسببة للتطرف، ونسعى لبث الشعور في نفوس الأفراد العاديين بأن المستقبل سيكون مستقرا، للحيلولة دون شعور المواطنين بالانفصال عن حكومتهم”.
بشأن الأكراد، قال: “لا يوجد لدينا خلاف معهم في سورية، لكن لم تترك ظروف الحرب خيارًا للشباب سوى الانضمام إلى وحدات حماية الشعب (الكردية)”، معتبرا أن هذه الواحدت فرع لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة منظمة إرهابية، ما كشف نيتهم المبيتة للقضاء عليها.
مخاوف دولية
لم تذكر اتفاقيات جنيف الدولية لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية ما ينص على إنشاء “المناطق الآمنة” على وجه التحديد، لكن هذه الاتفاقيات اعترفت بمصطلحات مماثلة سمتها “مناطق محمية” و”مناطق منزوعة السلاح” وهي مبان أو مناطق صغيرة يتفق أطراف النزاع على حصول المدنيين داخلها على الحماية، بالإضافة إلى المناطق التي سبق تقديمها بموجب القانون الإنساني الدولي أو قوانين الحرب.
وتسمح اتفاقيات جنيف أيضا لأطراف النزاع بإبرام “اتفاقات خاصة” لتحسين حماية المدنيين، كما أنه من الواجب إبقاء المدنيين المتواجدين خارج المناطق الآمنة محميين من الهجمات العسكرية.
بحسب تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” الدولية المهتمة بحقوق الإنسان، فإن التجارب الدولية السابقة أظهرت أن “المناطق الآمنة” نادرا ما تبقى آمنة، وغالبا ما تشكل خطورة كبيرة على المدنيين داخلها، مضيفة: “سيكون وعد السلامة فيها ضربا من الوهم إن لم تتحقق الضمانات الكافية”.
وتفصح المنظمة الدولية عن خطورة “المناطق الآمنة” وهو ما سيتم في حالة إقدام تركيا على إقامته “منطقتها” في سورية، بقولها: “قد يقوم الأطراف بإنشاء مناطق آمنة بهدف استخدامها لمنع المدنيين الفارين من عبور الحدود بدلا من توفير الحماية الحقيقية لهم، وقد استخدمت هذه المناطق كذريعة لمنع طالبي اللجوء من الهرب إلى الدول المجاورة وكمبرر لإعادة اللاجئين إلى البلاد التي فروا منها”، ما يعني استخدامها كمحرقة لهؤلاء اللاجئين الذين يخشون العودة لسورية، مع استمرار الإرهاب التركي فيها.
كما أن خطورة المنطقة تتمثل في أنها قد تكون هدفًا لهجمات عسكرية بما أنها ستحوي عسكريين، ما يمنع فكرة كونها “آمنة”، فضلًا عن أن تركيا يمكن أن تستخدمها في تجنيد مقاتلين وحتى الأطفال.
“هيومن رايتس” تشير إلى أن المناطق الآمنة بها المشاكل ذاتها التي تعانيها مخيمات النازحين، إذ قد لا يكون السكان قادرين على الوصول إلى العمل أو مزارعهم مثلا، ما قد يزيد اعتمادهم على المساعدات الغذائية والمياه وباقي الخدمات مثل الرعاية الصحية.
وقد تواجه النساء عنفا جنسيا بنسب أكبر بسبب الاكتظاظ والتوتر الأمني والاجتماعي، وحاجتهن إلى الخروج للعمل أو جمع المياه أو لأسباب أخرى، وحتى في حال وجود قوات حفظ سلام دولية تابعة للأمم المتحدة، فإن هذه القوات قد لا يتوافر لديها إمكانية فرض القانون والنظام.