تراجع دور عفرين الاقتصادي بعد السيطرة التركية عليها، ورُبِط النشاط الاقتصادي فيها بقادة الفصائل أو شبكاتهم. فتوقّف عن العمل عددٌ كبيرٌ من المنشآت الصناعية الصغيرة، والورش، والمهن التي افتتحها المهجّرون إليها من حلب، ولا سيما الأرمن والمسيحيون منهم. كما تجنّبت تركيا القيام بعملية تنمية، وسمحت للتجار الأتراك بالبحث عن سوق تصريفٍ لموادهم.
تقييد الإنتاج الزراعي والصناعي
تشكّل الزراعة مصدر الرزق الأساسي في عفرين، إذ كان ٧٥ في المئة من سكانها يعملون فيها قبل العام ٢٠١١. وتشتهر عفرين من بين المناطق السورية بملايين أشجار الزيتون. وقد تعرّض زيت الزيتون إلى حملة نهب منظّمة من قبل فصائل الجيش الوطني، ونُقِل وبيع في الأسواق التركية بقيمة ٧٠ مليون يورو تقريباً.
وسرعان ما فرضت المجالس المحلية على المزارعين، عقب السيطرة التركية، الحصول على موافقتها لقطف محاصيلهم، فارضةً على هذه الأخيرة ضريبةً جديدةً نسبتها حوالى١٠ في المئة. وقد أجبرت الفصائل العسكرية المزارعين على التنازل عند حواجزها عن حصّةٍ من الزيتون وأخرى من الزيت بعد عصره، كما فرضت رسوماً ماليةً على المزارعين المتوجّهين إلى أراضيهم، ما دفع بعضهم إلى الامتناع عن قطف مواسمهم.
وعانى مزارعون آخرون من استيلاء فصائل الجيش الوطني على بساتينهم بسبب تهمة انتمائهم إلى وحدات حماية الشعب الكردية. كذلك فُرِضَت على أصحاب البساتين المسافرين أو المهجّرين ضريبةٌ نسبتها ٢٠ في المئة من المحصول، حتى يتمكّن أقرباؤهم من الحصول على موافقة المجلس المحلي على القطاف. فبقيت أراضي الزيتون التي لم يتمكّن مالكوها المهجّرون من توكيل أقربائهم في جني موسمها، تحت سلطة الفصائل العسكرية، ما دفع قيادة أركان الجيش الوطني إلى الإيعاز إلى الفصائل بتسليمها إلى المجالس المحلية لجني محاصيلها، وحل أمورها العالقة مع مالكيها أو أقربائهم. وقد جاءت هذه الخطوة للتقليل من حدّة الانتقادات للفصائل، لكنّها في الواقع كانت خطةً تركيةً لتمويل المجالس المحلية من محصول الزيتون. بيد أن قسماً كبيراً من الفصائل رفض تسليم البساتين للمجالس، بل عمد إلى قطف محصول الزيتون بقوة السلاح، مُشغّلاً المهجّرين الباحثين عن قوت يومهم في القطاف.
هذا وقام الجيش التركي بجرف بعض الحقول إما لتوسيع المعسكرات والمقرّات التابعة له وللفصائل العسكرية، وإما بذريعة وجود مستودعات أسلحة، واختباء خلايا وحدات حماية الشعب فيها، خصوصاً في المناطق المحاذية للغابات في راجو شمال عفرين.
أما الصناعات في منطقة عفرين فتركّزت بمعظمها على الزيتون، حيث قُدّر عدد معاصر الزيتون بـ١٨٦ معصرةً قبل العام ٢٠١١، إضافةً إلى ١٢ معمل صابون التي تنتج هذا الأخير من زيت البيرين أي بقايا الزيتون، ومعامل البيرين المُعَدّ للتدفئة، وعددها ١٧ معملاً.
ناهيك عن ذلك، استولت الفصائل على بعض معاصر الزيتون أو سرقت معدّاتها، عقب السيطرة التركية، فاضطّر أصحابها إلى دفع مبالغ ماليةٍ طائلةٍ أحياناً لاستعادتها، وقد أُعيد تشغيلها في شتاء ٢٠١٨. الأمر نفسه انطبق على معامل البيرين، وأكياس النايلون، وأنابيب الري، والتنك، ومصانع المخلّلات والمربّى، والمطاعم السياحية في كفر جنة وميدانكي والباسوطة.
شراكات جديدة
فرض واقع الحال على التجار والصناعيين في عفرين السعي إلى ضمان مصالحهم عبر إقامة نوعٍ من الشراكة مع الفصائل، ولا سيما في معامل الصابون والبيرين، ومعاصر زيت الزيتون. فيتولّى الفصيل حماية المنشأة التابعة للشريك الجديد بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، مانعاً باقي الفصائل من محاولة ابتزازها أو سلبها، وذلك مقابل حصةٍ شهريةٍ من الأرباح أو مبلغٍ مُتّفَقٍ عليه. وتُعَدّ شركة كيفو المثال الأبرز على تلك الشراكات. أما المعامل التي رفض أصحابها دفع الإتاوات، فبقيت مغلقةً أو تعرّضت يومياً لابتزاز فصائل المنطقة.
لم تقتصر الشراكات على التجار الأكراد، بل شملت أيضاً التجار المهجّرين إلى عفرين من باقي المناطق. فبرزت طبقةٌ جديدةٌ من التجارفي مجال الأدوات المنزلية ومواد البناء، هم على ارتباطٍ بناء شراكاتٍ مع هؤلاء القادة لزيادة رأس المال وضمان الحماية الأمنية. في المقابل، تحمّس قادة الفصائل لتشغيل أموالهم مع التجار والصناعيين والصرّافين، وفتح استثمارات جديدة، يساعدهم في ذلك أن أموالهم مضمونة كونهم سلطة الأمر الواقع في المنطقة. صحيح أن الشراكات لا تزال غير ظاهرة، إلا أنها من المرجح أن تتوسّع، وتتّخذ شكلاً أكثر وضوحاً مع افتتاح معبر جنديرس.
الواقع أن تركيا كانت أنشأت معبر جنديرس بهدف انساني، ولكن يبدو أن ثمة رغبةً في استخدامه لتسهيل حركة التجارة عبره إلى سوريا، ما من شأنه استقطاب التجار السوريين، وبالتالي نقل الحركة من سرمدا والدانا إلى جنديرس، نظراً إلى قربها من إدلب ومدينة عفرين. وسيشكّل المعبر نقطة دخول البضائع التركية إلى النظام، في حال أُعيد تشغيل طرق الترانزيت السورية، أو الخطّ البرّي إلى دول الخليج عبر مناطق سيطرة النظام.
وتشجّع تركيا مستثمريها على العمل داخل سوريا، على غرار شركات البناء في مدينة الباب، والاستثمار في قطاع الطاقة الكهربائية. وترغب أنقرة في فتح سوق عفرين أمام أعضاء غرفة التجارة والصناعة التركية، ولا سيما في قطاع البناء نظراً إلى الطلب الكبير على المنازل مع ازدياد المهجّرين إلى عفرين.
لهذه الغاية، دعمت أنقرة تشكيل غرفة تجارةٍ وصناعةٍ تابعةٍ للمجلس المحلي في عفرين، في 11 شباط ٢٠١٩، برئاسة التركماني عبد الناصر حسو المُقرَّب منها. وقد أعلن المجلس تلقّي طلبات الانضمام بشرط أن يكون الاستثمار محصوراً في منطقة عفرين، ويكون للمستثمر حساب في أحد المصارف التركية أو مؤسسة البريد التركية (PTT)، على أن تُمنَح أذونات الدخول والخروج من معبر جنديرس فور افتتاحه رسمياً. ضمّت الغرفة في نهاية حزيران، ٢١٦ عضواً أغلبهم من التجار العرب والتركمان الوافدين إلى عفرين والمقيمين فيها حديثاً، مع العلم أن معظم المُسجَّلين من طبقة التجار الصغيرة، ولا ينتمي أحدٌ منهم إلى طبقة التجار المعروفين أو المستثمرين الكبار.
فضلاً عن ذلك، شجّعت ولاية هاتاي عقد مؤتمر رجال أعمال عفرين لغرفتَي التجارة والصناعة في كلّ من عفرين وهاتاي التركية، في ٢٩ نيسان ٢٠١٩، تحت عنوان “معاً للعمل على بناء سوريا المستقبل”، سعياً إلى رفع التبادل التجاري عبر معبر جنديرس إلى ١٠٠ مليون دولار سنوياً خلال المرحلة المقبلة.
وعلى غرار المعابر في منطقة “درع الفرات”، تجني تركيا ضرائب معبر جنديرس الجديد في عفرين بالدولار الأميركي على غرار باقي المعابر وتبلغ ضرائب المعابر حوالي مليونين دولار شهرياً، وتدفع رواتب العاملين في تلك المناطق بالليرة التركية، ما يشكّل دعماً ولو محدوداً لهذه الأخيرة. كذلك فتحت أنقرة فرعاً لمؤسسة البريد التركية في عفرين لضبط الحوالات المالية، حيث تسلّم المؤسسة الحوالات بالليرة التركية، وإن كانت مُرسَلة بالقطع الأجنبي، ما يساهم في ضخّ العملة الصعبة في الخزينة التركية. ويشمل الدعم التركي المالي أيضاً جوانب مثل قوات الشرطة، والمستشفيات، والتعليم، والإغاثة، لكن من غير الواضح ما إذا كانت أنقرة تنفق على تلك القطاعات من واردات المعابر، أو تتلقّى مساندةً من قطر.
فضلاً عن ذلك، تشجّع أنقرة المستثمرين الأتراك على الاستثمار التجاري عبر فتح سوقٍ جديدةٍ أمامهم، بعد أن كانت عفرين تعتمد أساساً على سوق النظام في حلب. فتركيا كانت حُرمت من سوق عفرين لسنواتٍ بسبب سيطرة وحدات حماية الشعب.
لم يشجّع الوضع الأمني غير المستقرّ على تحوّل عفرين إلى منطقةٍ مُستقطِبةٍ للصناعيين الكبار حتى اليوم، وهذا ما حال دون تأسيس تركيا مناطق صناعية كما فعلت في أعزاز والباب. بيد أن أنقرة تسهم نسبياً بإعادة تأهيل البنى التحتية، على غرار سدّ ميدانكي الذي يزوّد مدينة عفرين ومناطق عدّة مجاورة لها بمياه الشفة، والذي كان تعرّض لبعض التخريب منذ بدء العملية العسكرية في كانون الثاني 2018. هذا وأصلحت تركيا عدداً من الطرق الرئيسة المتضرّرة، خصوصاً طريقا الباسوطة – عفرين وجنديرس – عفرين.
ولا تبدو أنقرة مهتمّةً إطلاقاً بإعادة تشغيل المنشآت الصناعية التي توقّفت عن العمل أو تضرّرت جزئياً بعد العملية العسكرية، فما كان من مالكيها إلا أن عقدوا اتفاقيات حماية (أتاوات) مع الفصائل. الواقع أن تركيا تريد إلغاء اقتصاد عفرين ما قبل العام ٢٠١٨، وبناء شراكاتٍ جديدةً تحت سيطرتها، يكون التجار الأتراك عمادها، فتصبح عفرين سوق تصريفٍ من دون أي تنمية اقتصادية، تسعى أنقرة إلى الحدّ من قدراتها الإنتاجية، ولا سيما في قطاع الزيتون.
وتبقى اقتصادات الحرب من سرقة، ونهب أراض، وإتاوات، وخطف مقابل فدية، محصورةً بقادة الفصائل وشبكاتهم. هؤلاء هم أيضاً تحت السيطرة التركية الكاملة، وإغفال العين عنهم من قبل القوات التركية هو زيادة في تورّطهم، وبالتالي ارتهانهم وتحولّهم الى مرتزقة.
خاتمة
نجحت تركيا في السيطرة على عفرين إلى حدّ كبير خلال عام بعد تدخّلها العسكري، وانتهجت سياسة صارمةً مُحدَّدة المعالم في المنطقة، وذلك عبر مسارات عدّة، أهمّها المسار الأمني الذي تحاول ضبطه عن طريق تقوية الشرطة العسكرية التابعة لها لتكون رقيباً على الفصائل كافة، وعبر شرطةٍ مدنيةٍ تضبط وضع المدنيين. وقد أبعدت أنقرة الوحدات الكردية، وطوّعت فصائل الجيش الوطني، ولم يبقَ مَن يتجرّأ على مخالفتها هناك.
كما أنها فرضت تغييراً ديمغرافياً هادئاً عبر إحلال سكانٍ عربٍ جددٍ من المهجّرين والنازحين محلّ الأكراد المهجّرين، وتحكّمت بالمجالس المحلية وعملية التغيير فيها، من خلال التمثيل غير العادل للمكوّنات العرقية والدينية في المنطقة. وإذ تنتهج تركيا سياسةً اقتصاديةً هدفها ربط المنطقة مباشرةً بالمستثمرين الأتراك، يُتوقَّع أن تبرز شركاتٌ تركيةٌ كبرى في عفرين قريباً، وإن لم يجرِ حتى اللحظة توقيع عقودٍ مع أنقرة أو المجالس المحلية، خصوصاً أن المشاورات لا تزال أوّليةً بعد مؤتمر رجال أعمال عفرين. هذا وعيّنت تركيا أكراداً موالين لها في مناصب الإدارات المدنية والعسكرية، وعمدت إلى تقديم الدعم الإنساني والإغاثي الكبير، إضافةً إلى حفظ المنطقة أمنياً، والحرص على عدم تعرّضها للقصف استناداً إلى التفاهم الروسي التركي. وتعمل تركيا على بلورة سياسة تتريك للمنطقة سريعة ولكن هادئة، بهدف ربطها بها على المدى المتوسط، آخذةً بعين الاعتبار كل الاحتمالات لمستقبل سوريا، فإن اتّجهت سوريا نحو التقسيم، تكون أنقرة قد أخذت حصّتها مسبقاً. كذلك تعمل تركيا على ضمان نفوذٍ كبيرٍ لها داخل سوريا في مرحلة ما بعد الحلّ السياسي. أما دورها في عفرين فيبقى رهن علاقتها بموسكو التي أصبحت هي التحدّي الوحيد في وجه تركيا بعد تمكّنها من ضبط المسارات كافة في عفرين.
-------------------------------
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا عن طريق إرسال كتاباتكم عبر البريد : vdcnsy@gmail.com
ملاحظاتك: اقترح تصحيحاً - وثق بنفسك - قاعدة بيانات