تمثلت رمزية حوادث اعتداء مواطنين أتراك على التجمعات السوريين في إسطنبول خلال الأسابيع والشهور الماضية مدى فداحة العنف المادي المحض الذي كان المسكوت عنه في خطاب أطراف من المعارضة السورية طيلة السنوات الماضية، فتلك الأطراف السورية التي تتخندق إيديولوجياً مع حكومة رجب طيب أردوغان وجدت ضالتها في اعتلاء مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو سدة بلدية إسطنبول لتثوير سخطهم ضد الحوادث الأخيرة، وكأن هذا الاحتجاج نوع من امتعاض ضمني تجاه نكسة العدالة والتنمية في أكبر المدن التركية، على أنه إشكالية إنسانية يتذوق مرارتها اللاجئون السوريون في دهاليز المدن التركية منذ سنوات خلت.
في الواقع، ولكي يبدو المشهد أكثر وضوحاً، لا يستقيم إطلاق أحكام قطعية وحصرها داخل دائرة هذه الفرضية لوحدها، التي تحمل ردة فعل آنية في التنديد بالعنف المادي المحض في شوارع اسطنبول، بل ثمة عنف يتلبس داخل منظومة اللغة والخطاب في هيكلية أحزاب السلطة في تركيا ظهر في الطرف المقابل، وهو ما بدأ جلياً على لسان رئيس بلدية اسطنبول إمام أوغلو في الدفاع عن فرضية التفوق القومي التركي، وطهارة ثقافة مدينة إسطنبول ضد الآخر الغريب والشاذ والمنبوذ، وهم تبعاً لمقولات أوغلو يندرجون في خانة “اللاجئين السوريين”. وتالياً هي إشكالية منظومة الدولة القومية وخطاب السلطة معاً في نطاقها العام، وهذا هو الحقل الذي يجدر تسليط الضوء عليه.
في الحقيقة، لم يكن منتظراً أن يغرد إمام أوغلو خارج نسق خطاب حزب الشعب الجمهوري المناهض لاستضافة اللاجئين منذ اندلاع الأزمة السورية، نظراً لموقف حزبه الصريح من مسألة اللاجئين السوريين بخلاف براغماتية حزب أردوغان الذي يستثمر هذه الورقة كنوع من الابتزاز السياسي، لكنّ التشويش الإيديولوجي والإعلامي كان يغوي الرأي العام عبر تصوير إمام أوغلو على أنه فارس ديمقراطي حالم يمتطي جواد المحبة والسلام والتنوع والتسامح والانفتاح على الآخر، بما في ذلك مقدرته في احتواء مسألة اللاجئين إنسانياً، بغرض إزاحة ستار الظلام الذي يسود المناخ السياسي التركي على يد رجب طيب أردوغان. هنا كانت منصة” الديمقراطية التمثيلية” مسرح لهذا الاختبار الديمقراطي الحالم في اسطنبول، وهذه خدعة بصرية ليست إلا لو نقارنها بالموقف المستشارة الألمانية انجيلا ميركل التي راهنت على احتواء اللاجئين دون آليات الديمقراطية التمثيلية أو الاستفتاء الشعبي أو خطابات جهورية أمام الحشود في الساحات العامة لتوظيف قضية اللاجئين سياسياً، لأن المحصلة المنتظرة كانت ستكون محل الرفض وفق آلية الديمقراطية التمثيلية في ألمانيا كما يقول الفيلسوف الألماني يورغان هابرماس. وبالتالي الموقف السياسي الجذري من القضايا الإنسانية يلزم أحياناً إظهار شجاعة فائقة بمنأى عن صخب مكبرات الصوت في الساحات العامة التي باتت تعاني من حلقة عدمية مفرغة.
يحيلنا هذا الأمر إلى التوقف عند خطاب السلطة والمعارضة في تركيا والتي تثبت دوماً مقولة ميخائيل باكونين الشهيرة “إذ أحضرت أعتى شخصية ثورية ومنحت له عرش السلطة، خلال سنة سيصبح أسوء من القيصر”، وعلى هذا المنحى وبفارق زمني أقل مما تصوره باكونين، انبرى الكاتب السياسي ديفيد ليسكا بنشر مادته في موقع “الأحوال التركية”، لتفسير خيانة إمام أوغلو لوعوده عقب اعتلاء سدة الانتخابات البلدية في إسطنبول في غضون أسابيع قليلة.
إمام أوغلو وصف أزمة اللاجئين بأنها صدمة كبيرة في الأسبوع الماضي، ومن ثم تتالت تصريحات ملحقة: “هناك الكثير من السوريين الذين يعملون دون تسجيل ويتعين علينا حماية مصالح شعبنا. لا يمكنهم تغيير لون إسطنبول بتهور”. ثم أضاف في تصريحات أخرى: “يجب عزل اللاجئ في معسكر إذا كان ذلك ضرورياً، أو يجب إعادة تعليمه”. من هذين التصريحين المباشرين، يُستحضر حمولة تراث الإقصاء الكلي في بنية منظومة الدولة التركية الحديثة تجاه الآخر المخالف في صيغة “الصهر والعزل”، فهي ليست بخطاب إيديولوجي مصاغ حصراً لمجاراة واقعة أزمة اللاجئين السوريين الأخيرة في إسطنبول، بل تميط اللثام على قناع تاريخي طويل، يحاكي مخيلة بناة إيديولوجية الكيان السلطوي التركي ضد الجماعات الدينية والقومية والثقافية المقموعة داخل تركيا قبل توجيه البوصلة صوب الخارج الغريب.
لنتوقف قليلاً عند عبارة “صون مصالح شعبنا” بل الأصح إعادة صياغة هذه العبارة في نطاقها المعتاد ونقول على لسان أوغلو “حماية أمننا القومي التركي” ضد الآخر، وهذا الآخر هو بمثابة الغريب الذي لا يسري عليه الصفة القانونية المحلية، كونه لا ينتمي إلى مقولة أتاتورك الشهيرة “لا شيء أفضل من أن يكون المرء تركياً”، فهو لاجئ بلا هوية حقوقية وسياسية ولا يملك الحصانة القانونية، وهو معرض لاستباحة عنيفة إثر أية هزة قد تثير فوران التحريض الشعبي الممنهج. وعليه، تخزن هذه المقولة في محتواها، حكاية تجرد البشر من حقوقهم القانونية والطبيعية وعرضهم أمام موجة العنف بلا رقيب ولا حسيب. أليست هذه الصورة الرمزية لجموع اللاجئين السوريين متطابقة مع مصير المعتقل السياسي صلاح الدين دميرتاش ورفاقه في السجون؟ وتحديداً حين رفع حزب إمام أوغلو مع أردوغان ودولت باهجلي مظلة الحصانة البرلمانية عن نواب حزب الشعب الديمقراطي، ومن ثم زجهم في سجون بدون محاكمات نزيهة وعادلة. ثم ألم تكن عبارة” الأمن القومي” بحد ذاتها، بمثابة سيف ديموقليس مسلط من قبل أردوغان وزعيم الشعب الجمهوري كلجدار أوغلو عل رقاب سكان مدينة عفرين السورية، في الوقت الذي كانت المدن الكردية العريقة في تركيا قد سويت أرضاً تحت ترسانة حمولة شعبوية تلك المزاعم؟
بالعموم، كان منظر المهاجمين الأتراك عقب تصريحات أوغلو، وهم ينهالون بالضرب والتكسير على الأفراد والمحلات التجارية يتقاطع نسبياً مع ” ليلة كريستال” حينما شنت جموع نازية عملية شاملة ضد تكسير محلات اليهود في ألمانيا. لكن من غير المنطقي بطبيعة الحال إرجاع هذا التحشيد العنفي الشعبي المتفجر إلى نبرة الخطاب العنصري الصادر من إمام أوغلو لوحده، فثمة تجييش ضخم يتراكم في المدن التركية من قبل الشرائح العمالية والطبقة المتوسطة، بفعل تجذر الأزمة الاقتصادية في الوقت الحالي، وهذا الانتهاك المتراكم ضد السوريين يجري توثيقه منذ سنوات من قبل المنظمات المدنية والحقوقية ضد اللاجئين السوريين التي تشمل حوادث القتل العشوائي، وبناء جدار خرساني عازل على الحدود، والنهب والسلب واستغلال العمالة الرخيصة، والجرائم المنظمة ضد النساء في تلك المدن التركية التي تستضيف اللاجئين السوريين. هذه العمليات كانت تدار صمتاً من قبل حكومة العدالة والتنمية بالتواطؤ مع التيارات الإسلامية التي تعمل في فلك مظلة الإئتلاف السوري المعارض، وبالتالي بقيت هذه الحوادث بمعزل عن الضجيج الإعلامي بحكم تهرب تلك الأطراف من مسؤوليتها القانونية والأخلاقية والتي كانت تحتمي ذاتها سياسياً خلف قناع مقولة أردوغان الهشة ” كلنا مسلمون وأخوة”.
إمام أوغلو الذي ضاق ذرعاً بحوالي /559/ ألف شخص سوري في مدينة إسطنبول التي تحتضن حوالي /16/ مليون نسمة، لا يريد تدنيس ثقافة إسطنبول العريقة والمتفوقة بلوثة “العبارات العربية على المحلات التجارية” ولديه هواجس إيكولوجية عميقة في تغيير الملامح الديمغرافية في إسطنبول نتيجة تمركز التجمعات البشرية السورية. هذه النزعة الخطابية بالضبط كانت مستوردة من قبل المهاجرين الأتراك الذين قدموا من سالونيك والقوقاز والقرم في مستهل الحرب العالمية الأولى بغرض تدشين ما يعرف بـ”النزعة التركياتية البيضاء” في قلب الجمهورية الناشئة، وهو خطاب سلك طريقه في برنامج حزب الشعب الجمهوري القائم على إيديولوجية “استعلاء تفوق الرجل الأبيض الغربي” والمنغرسة في بنية الطبقة البرجوازية التركية، وبيروقراطية الدولة، والنزعة العسكرتارية العلمانية حيال الطبقات الشعبية المتنوعة، والتي تعيش بالتضاد مع نسق إيديولوجية” التركياتية” المعاصرة المخترعة.
يقدم إمام أوغلو نفسه، كأن به لا شعورياً، كمدافع حماسي عن خطاب اليمين المتطرف في أوروبا الذي يتجرع فعلياً آثار النيوليبرالية سلباً على الاقتصاد المحلي، ويقوم عوضاً عن مواجهة هذه الحقيقة، بعملية التعويض عبر خلق أسطورة كبش الفداء من خلال تثوير قضية ” اللاجئين” بصورة مبالغة. أوغلو مع حزبه، يصمت عن عنف الدولة التركية في سوريا، وتحديداً في عفرين، ويلوم في الوقت عينه لوثة السوريين شوارع إسطنبول العريقة، ويتغافل عمداً عن الملايين من الشعب الكردي وباقي الفئات المهمشة والفقيرة التي تعيش في أحياء مزرية في إسطنبول نفسها، عقب الثورة الصناعية التركية منذ الستينات القرن المنصرم، وتحطيم النقابات العمالية في الثمانينات إثر الانقلاب العسكري بقيادة جنرال كنعان أفرين، لتترك الشريحة العاملة في تركيا بلا أي سند قانوني وسياسي وإنساني.
أمام هذه الوقائع المتناقضة، كان أوغلو يبحث عن حل سحري لا يخرج كما جرت العادة من قوقعة مارد الدولة القومية، حيث يطالب بإنشاء معسكرات معزولة للاجئين السوريين، وإعادة انضباط تربيتهم ثقافياً وحضارياً. مما لا شك فيه، إن هذه المقاربة كانت مادة خصبة لدى العالم الاجتماعي زيغمونت باومان في كتابه “الحداثة وهلوكست” عبر استحضاره مفهوم “البستنة” لتفكيك الرؤية النازية في مواجهة الظاهرة الاجتماعية الشاذة، أي استئصال النباتات الضارة من البستان وعزلها في الغيتوهات. وهذا الخطاب الذي ينعش سيرورة الدولة القومية الحديثة في تركيا، كان بارعاً في تكوين حكاية الهندسة السكانية طيلة القرن الماضي وليجري تنفيذه بحرفية على حقل اجتماعي يسمى “الكرد”، ولا يزال مستمر بصورة يومية في مدينة عفرين السورية من قبل حكومة العدالة والتنمية وبتصديق شرعي من قبل حزب الشعب الجمهوري. والمفارقة أن تلك النخب السورية الشاجبة لتصرف أوغلو في إسطنبول اليوم كانت هي نفسها تسوغ لرجب طيب أردوغان في تعزيز ذات الممارسة في عفرين السورية!
إن كان أردوغان هو حالة الاستثناء في العنف المحض، فإن إمام أوغلو والذي يعكس ماهية خطاب السلطة في تركيا هو القاعدة الدائمة وفق ما يقوله والتر بنيامين. فكيف يلزم علينا أن نفسر بصورة عقلانية شخص ينبذ وجود /559/ ألف سوري في إسطنبول أن يكون متعاطفاً مع /15/ مليون كردي الذين يتماهون مع صورة اللاجئين من جهة تحطيم “الهوية القانونية والسياسية”. وفوق محنتهم تلك، يمد إمام أوغلو قبل أيام يد العون والتنسيق لأردوغان نفسه، ليصبح الاختلاف الظاهري في خطاب السلطة إلى كتلة أحادية متطابقة.
ولتكن صيغة التساؤل بهذه الطريقة المقلوبة، ونتجاوز مقولة “أهون الشرين”، ألم تكن الحصافة العقلانية تقتضي أن يكون خيار حزب الشعوب الديمقراطي في انتخابات بلدية إسطنبول، مثل موقف احتجاجي لجموع الناس في رواية “أن نرى” Seeing)) لخوزيه ساراماغو، وذلك حينما تقاطرت جموع الناس إلى صناديق الاقتراع بوضع بطاقات بيضاء بدون إجابة بـإشارة “نعم أو لا”، للتعبير عن سخطهم وشجبهم للعملية الانتخابية التمثيلية، وذلك بغرض تعطيل عجلة النظام برمته، بطريقة “غاندية” سلمية وسلبية في آن معاً، وكذلك من أجل رد ضربات نظام الحاكم وأحزاب المعارضة التي تستنسخ صورة النظام نفسه حينما تعتلي السلطة؟
المصدر: فرهاد حمي