لم تكن آخر جمعة من عام ٢٠١٨ هادئة نسبيا مثل بقية جُمَع آخر عامين في مدينة منبج الصغيرة، إذ عاد شبح الخوف والقلق يسري في أوصال المدينة الصغيرة التي كان الثابت الوحيد بها منذ الأزل هو التغير، واضعا سكانها في حلقات مفرغة من الخوف والقلق وانتظار المجهول، هذه المرة بدا أنها قد تنتهي مجددا من حيث ابتدأت: من النظام السوري وإليه في ظل التهديدات التركية بغزو المدينة وهو سيعني مصيرا مشابها لبقية المدن حيث تحتلها تركيا والفلتان الأمني والفوضى خاصة وأنّ المدينة ظلت امنة منذ تحريرها من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية وشكلت فيها إدارة مدنية ومجالس تشرف على تنظيم الامور الخدمية والصحة والتعليم إضافة لقوات امنية، وعسكرية.
التهديد التركي بالاجتياح ترافق مع تحشدات لفصائل سورية مسلحة كانت تقاتل سابقا تحت راية الجيش السوري الحر وهو ما دفع وحدات حماية الشعب في الثامن والعشرين من ديسمبر/كانون الاول 2018، لدعوة “الدولة السورية” لإرسال قواتها المسلحة لحماية المدينة من الغزو التركي، بيان أوضحته لاحقا مسؤولة رسمية في الإدارة الذاتية بتأكيدها أنّ هذه الخطوة أتت برعاية روسية، وإنّ قوات الحكومة لن تدخل مدينة منبج نفسها، بل ستنتشر عند خطوط التماس مع تركيا والفصائل السورية الموالية لها، وهي دعوة قابلها النظام السوري ببيان عسكري أعلن به “دخول وحدات إلى منطقة منبج ورفع العلم السوري”، مؤكدا “ضمان الأمن الكامل لكل المواطنين وغيرهم في منبج”، وهو تزامن مع زيارة يقوم بها كبار المسؤولين الأتراك لموسكو لعرض صفقة تضمنت موافقة روسية على دخول القوات التركية مدينة منبج مقابل اطلاق يدها في إدلب. المبادرة الكردية على مايبدو أنّها أفشلت، أو أجلت تلك الصفقة، خاصة وأنّ تركيا ملزمة بتنفيذ بنود إتفاق إدلب بمعزل عن منبج أولا، وثانيا لعدم وجود نفوذ لروسيا في المدينة، فهي ضمن نطاق سيطرة القوات الامريكية التي ماتزال قواعدها موجودة في المدينة وماتزال تنفذ جولات ودوريات فيها.
كانت “وحدات حماية الشعب” ثم جيش النظام السوري واضحين تماما بدوافع هذا الإجراء، وهو مثلما أعلنوه جاء “كرد على التهديدات التركية”، التي كانوا يقصدون بها حشد 8000 عنصر من “المسلحين الذين تدعمهم أنقرة” والجيش التركي، تمهيدا لاجتياح المدينة بحسب ما توعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومسؤولوه مرارا خلال الشهر الأخير من عام 2018، وقبلها بشكل متفرق على مدى عامين كاملين.
في نهاية اليوم، بدا أنّ العلم مجرد إنذار خاطئ رفعه حيث لم يرفع داخلها، بينما حافظت آليات جيش النظام على مواقعها عند خط التماس خارج المدينة، ونفذت القوات الروسية برفقة مجلس منبج العسكري ومجلس الباب العسكري ثلاث دوريات على خطوط التماس تزامنت مع دوريات أمريكية وهو كان مؤشرا على التنسيق الأمريكي الروسي في منبج، وإنّ لا دور لتركيا في المدينة المستقرة، الآمنة. أردوغان الذي صدم بالخطوة، خاصة وأنّها ساهمت في طرد وفده الذي ترأسه هاكان فيدان، ووزير الدفاع والخارجية من موسكو شكك بها، واصفا إياها بأنّها “حرب نفسية”، كما استفزت قوات التحالف الدولي، لنفيها، بانعكاس واضح على السباق المحموم، بين أنقرة وحلفائها من جهة والكرملين وحلفائه من جهة أخرى، على ملء الفراغ الأميركي الذي أطلقته تغريدة الرئيس الأميركي دونالد ترامب معلناً بها الانسحاب من سوريا، مخلفا فوضى مازالت إدارته تحاول تداركها حتى اللحظة، كانت أبرز ميادينها مدينة “منبج” الصغيرة، كعب أخيل الأقطاب الإقليمية والقوى الكبرى، والتي لم تستطع بعد، ومنذ أكثر من عامين، حل “عقدة منبج”.
لا تبدو هذه الظروف المحيطة بمنبج، ذات التكوين العشائري، جديدة على المدينة التي تتمتع بموقع استراتيجي على حدود الإمبراطوريات والدول الكبرى، فبوجودها على بُعد ٣٠ كم غربي نهر الفرات ومثلها جنوب الحدود التركية؛ كانت “منبج” المعبر الاقتصادي الأساسي الذي يربط ضفتي الفرات (الشرقي المعروف باسم الجزيرة، والغربي المعروف باسم الشامية)، بحاضرة “حلب” ومنها إلى العالم، كما وضع “عاصمة العواصم” -بحسب ما أسماها هارون الرشيد- في موقع عليها به أن تعصم حكّام سوريا المتعاقبين من كل الغزاة الشماليين الطامعين فيها منذ الأزل، مفقدا هذه المدينة لكل أهميتها تحت وقع الحروب والسلاطين.
عشية اندلاع الحرب الأهلية في سوريا؛ كان التقسيم الاجتماعي/السياسي لسوريا شبيها بالتقسيمات المماثلة الواقعة على المحيط والأطراف، معتمدا على شبكات ووسطاء من العملاء المحليين في مختلف أنحاء سوريا من أجل ترسيخ سلطته، فرغم تغيّر الطابع الاجتماعي لـ “منبج” مع مرور الوقت، من خلال تدفق الأسر العربية من مدينة حلب والباب، فإنّ هجرة العشائر من المناطق الريفية إلى المدينة منحت زعماء العشائر سطوة واسعة هناك، فمن خلالهم اكتسب زعماء العشائر الذين مكثوا في قراهم نفوذا في البلدة، وسعى النظام إلى استيعاب هؤلاء المشايخ القبليين عبر عرض مناصب عليهم في مجلس النواب السوري وامتيازات ضمنت ولاءهم للنظام.
خلال الحرب في سوريا، سادت انقسامات داخل الهياكل القبلية في منبج مع سيطرة مجموعات سياسية مختلفة عليها. وقد سعت هذه المجموعات لاستبدال الزعماء التقليديين بآخرين موالين لها كما تفعل تركيا من خلال تبني تشكيل مجالس وهيئات خاضعة إلى سيطرتها. لكنها فشلت في تمكينهم من الحلول مكان زعمائها التقليديين الذين فضلوا البقاء في منبج.
لم تتغير سيرة المدينة المتقلبة بعد عام 2011، حيث سيطر “الجيش الحر” على المدينة بعد انسحاب النظام منها، تم تأسيس مجالس لإدارة المدينة، لكنها فشلت في القيام بدورها المنوط بها في ظل تعدد الفصائل واختلاف اجندات كل فصيل.
وفي مطلع عام 2014، استطاع “تنظيم الدولة” السيطرة على المدينة، ووضع سكانها تحت حكم الترهيب، بنشره الجثث مقطوعة الرؤوس في الشوارع، وقتله أو إخفائه لكل من يرفض قواعده اليومية الصارمة مثل منع الدخان وفرض النقاب، في الوقت نفسه الذي كان فيه مقاتلوه الأجانب يتوافدون إلى أول مدينة ستقابلهم بعد الحدود التركية حيث كانوا يعبرون الحدود بتسهيلات من الجندرمة التركية، وأمن المطارات، قادمين من قلب أوروبا إلى قلب “الخلافة”، مكسبين المدينة التي أقام بها ما يقارب 100 مقاتل بريطاني مع “داعش” لقب “لندن الصغيرة”.
إلا أنّ حلقة “داعش” لم تدم طويلا في سيرة المدينة، إذ كانت من أولى المدن التي استهدفها التحالف الدولي لبُعدها النسبي عن معاقله (الرقة والموصل) في سوريا والعراق، فحشد مقاتلي “قوات سوريا الديمقراطية” و “مجلس منبج العسكري” في معركة استمرت شهرين كاملين، استطاعوا بعدها دخول المدينة في أغسطس/آب لعام 2016، لتصبح منبج، “لندن الصغيرة” سابقا، بصور نسائها وهن يدخنّ ويخلعن النقاب، رمزا لهزيمة تنظيم الدولة والتحرر من سطوته، ونموذجا لبسط الاستقرار في المناطق التي تم استعادتها من سيطرة تنظيم الدولة، بإدارة تتّسم بالفاعلية الوظيفية من خلال إشراك مختلف المجموعات الإثنية الموجودة فيها.
حالما تمكّنت “قوات سوريا الديمقراطية” من السيطرة على “منبج”؛ دق ناقوس الخطر في “أنقرة”، فأطلقت خلال أيام عملية “درع الفرات” حاشدة ما يقارب 15 ألف مقاتل من جنودها ومسلحين موالين لها لقطع الطريق على القوات المدعومة من التحالف، والتي بات واضحا سعيها للاستمرار وتحرير مدينة جرابلس الحدودية مع تركيا من سيطرة التنظيم ولوصل كل من كانتون “عفرين” بكانتون “كوباني”،. وقد أدت “درع الفرات” غرضها حيث سيطرة تركيا على ما يقارب 700 كيلومتر، وعززته بتوسيع سيطرتها على منطقة عفرين في اذار 2018؛ وتسببت العملية هناك في نزوح 350 ألف من سكانها، وسقوط مئات الضحايا في صفوف المدنيين..
لم تهدأ مطالبات أردوغان بـ”منبج”، كما أنّها تعززت بعد عملية عفرين، لا لكونها استعراضا للقوة التركية باستخدام القوة، وإنّما لكونها تمت بالإنفاق مع روسيا التي رفعت غطاءها عن “وحدات حماية الشعب” في عفرين، مما منح أنقرة مزيدا من النفوذ في الشمال السوري، واجهها مزيد من التعنت الأميركي الذي ظهر بعدة تصريحات وزيارات عالية المستوى حول “منبج”، في حزم شهد اضطرابا بالإعلان المبدئي لـ “ترامب” نهاية مارس/آذار من العام الماضي بسعيه الانسحاب من سوريا، قابله سباق تركي وروسي لملء هذا الفراغ في توتر كبير هدأ نسبيا بإتفاق أميركي-تركي على “خارطة طريق” حول منبج، مطلع يونيو/حزيران التالي مباشرة.
لم تُعلن “خارطة الطريق” بشكل رسمي، لكنها تُمثّل خطوة أولى للتقارب الأميركي-التركي معتمدة على عنصرين رئيسين: تسيير دوريات أميركية-تركية مشتركة في منبج، وتغيير هيكلة الحكم بنقله من “مجلس منبج العسكري” المرتبط بـ”قوات سوريا الديمقراطية، وتسليمه إلى القوات الحليفة لتركيا، هذا كان التفسير التركي لخارطة الطريق لكن التفسير الأمريكي كان مختلفا، حيث ركز على تسيير الدوريات لطمأنة أنقرة أنّه لا يوجد تهديد ودعم تشكيل مجالس منتخبة محلية تدير السؤون الخدمية، وهو ما تحقق بالفعل.
بعد قرابة أسبوع ونصف من تغريدة ترامب التي أعلن بها انسحاب قوات بلاده؛ لم يكن الأتراك الذين يحشدون على أطراف منبج الشرقية، أو قوات النظام المدعومة روسيا على أطرافها الغربية، هم الوحيدون الذين يسعون لملء فراغ القوات الأميركية؛ إذ كشفت مجلة “ديبكا” الاستخباراتية الإسرائيلية عن زيارة ضباط مصريين وإماراتيين لمدينة منبج، بالتوازي مع تقارير صحفية كشفت أنّ هذه الزيارة تمت برفقة قوات أميركية، التقوا خلالها قادة “قوات سوريا الديمقراطية” الأمنيين، وتباحثوا خلالها معهم في كيفية دعم عملهم في منبج، وتمكينهم من “حفظ الأمن” و”منع الاعتداءات الخارجية”، في إشارة إلى المسلحين المدعومين من تركيا، بجانب الحديث عن تقديم دعم لوجستي واسع لهم و”للإدارة المدنية” التابعة لها، من آليات وأجهزة اتصال، في خطوة تالية لـ”الانسحاب الذكي” الذي لمح إليه ترامب، والمتمثل كما يبدو بتسليم المواقع الأميركية للقوات السعودية والإماراتية.
يبدو أنّ الخطوة تبدو منطقية من وجهة نظر التحالف العربي، والذي كشفت صحيفة “ميدل إيست آي” أنّه يرى أن التهديد العسكري الأكبر في المنطقة يأتي من تركيا، لا إيران، والذي دفعه كذلك للتقارب مع خصوم تركيا، سواء أكانوا نظام الرئيس السوري بشار الأسد أم المقاتلين الأكراد، الذين يبحثون عن أي تحالف جديد لهم بعد تخلي الأميركيين عنهم، غير مبالين إن كان في دمشق التي عاودوا اجتماعاتهم معها ودعوها للدخول في منبج، أم في الرياض وأبوظبي، أم في التحالف الجديد -الغريب- من كليهما معا، والذي يستبق الخطوات قبل أي اتفاق روسي-تركي على مصير منبج، وهو مصير أخذت به موسكو دور واشنطن بالموازنة بين حليفيها، تركيا والنظام السوري، الذين لن تقف حدود طموحاتهما عند “منبج” وضفة الفرات، متجاوزة إياه إلى الشرق لملء الفراغ الذين سيقسم بينهما والذي يبدو أنّ أنقرة هي الرابحة الأكبر فيه حتى الآن، كما بدا في الاتصال الأخير بين الرئيس الأميركي ترامب ونظيره أردوغان، والذي اتفقوا فيه على تشكيل منطقة عازلة بعمق 30 كم على الحدود التركية-السورية، ستوسع منطقة نفوذ تركيا وتحميها، من أعدائها وحلفائها على السواء. هذا الوعد أنعش أردوغان الذي تلقى صفعة من ترامب بذات التغريدة، حينما توعد بتدمير اقتصاد بلاده إن تجرئ وهاجم وحدات حماية الشعب.