أكدت الأحداث التي مرت خلال الأسابيع القليلة الماضية على العديد من الثوابت الأساسية فيما يتعلق بالعلاقات الأميركية التركية.
لعل أول هذه الثوابت التأكيد على أنّ رئيسي البلدين هما من يحدد مسار هذه العلاقة. وثانيها أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إن لم يكن نظيره التركي رجب طيب أردوغان أيضا، يثق في فرائسه بدرجة تفوق ثقته في مستشاريه.
أما ثالث هذه الثوابت فهو أنّ الرجلين لا يرغبان في القطيعة بهذه العلاقات بين بلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي، غير أنّهما مستعدان لمثل هذه الخطوة إن دعت الضرورة من أجل أن يحقق كل منهما أهداف الأمن القومي لبلده.
في مطلع الأسبوع الماضي، كتب ترامب على تويتر مهددا بالعصف بالاقتصاد التركي إن تجرأت تركيا على مهاجمة الأكراد السوريين من عناصر تحالف قوات سوريا الديمقراطية الذين هم حلفاء الولايات المتحدة في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
كانت هذه الرسالة خطوة لا سابق لها في اللغة المستخدمة مع بلد حليف منذ فترة طويلة.
وفور صدور هذا التهديد، امتلأت أروقة العاصمة الأميركية واشنطن بتعليقات منتقدة تتحدث عن الأثر الكارثي الذي يمكن أن تتسبب فيه مثل هذه الكلمات بما تحمله من تهديد على العلاقات الأميركية التركية.
من أنقرة، رفض كبار المسؤولين الأتراك هذه التهديدات، وأعلنوا أنّ تركيا ستتعامل مع وحدات حماية الشعب الكردية كيفما يتراءى لها.
حدث كل هذا قبل اتصال هاتفي بين أردوغان وترامب. هناك بالفعل اختلاف في رواية كل من الطرفين لتفاصيل المحادثة.
لكن ما حدث بعدها هو تراجع احتمالات فرض عقوبات اقتصادية مدمرة أو جمارك كبيرة على تركيا ثم وجدنا ترامب يكتب على ترامب مؤكدا أنّه وأردوغان متفقان على حماية حلفاء الولايات المتحدة في الحرب وعلى إنشاء منطقة آمنة بطول 32 كيلومترا في شمال شرق سوريا بطول حدودها مع العراق في شرق نهر الفرات.
يشتبه المرء في أنّ الرئيسين اتفقا على أن تتعامل تركيا مع القوى التي تخشاها بالطريقة التي تراها، لكن عليها ألا تُقدم على مهاجمة حلفاء الولايات المتحدة في الحرب، وهي تفاصيل تركها الجانبان لمناقشات تالية.
وقع بعد ذلك الهجوم الدامي الذي قامت بها عناصر تنظيم الدولة الإسلامية على القوات الأميركية ومدنيين سوريين في منبج.
ثارت حينها على الفور في واشنطن احتمالات تتعلق بتأثير الهجوم على قرار ترامب بسحب القوات الأميركية.
أكثر التفسيرات ترجيحا لما قد يقوم به ترامب هو اعتبار ما جرى دليلا على حتمية عودة القوات الأميركية الموجودة على الأرض إلى الوطن.
والأفضل من وجهة نظر الرئيس الأميركي هو أن تواصل قوات محلية أكثر دراية وخبرة بالموقف المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية مع دعم أميركي في صورة عمليات مراقبة عن بعد وإسناد جوي ولوجيستي من قواعد الولايات المتحدة في بلدان مجاورة في المنطقة.
وبالتالي، ورغم أنّ الهجوم الإرهابي للتنظيم في منبج لن يغير من خطط ترامب، فإنّه قد يؤدي إلى درجة أكبر من التنسيق في الانسحاب الأميركي بين القادة العسكريين للبلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي، وهو أمر مفيد بالنسبة للعلاقات، العسكرية منها وغير العسكرية.
من الواضح أنّ أردوغان اقترح إنشاء منطقة آمنة أو منطقة تشبه ما يريده ترامب، أو ربما كان العكس هو الصحيح، فلا يهم كثيرا من كان صاحب الاقتراح، لكن يأتي الآن الدور على التنفيذ.
لا يمكن اعتبار الجيش التركي قوة صالحة للتنفيذ، بالنظر لتخطيطه الاستراتيجي.
ففي عملياته ضد حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق تركيا، اختارت تركية الحل العسكري بدل التفاوض دون تحقيق أي نجاح على مدى أكثر من ثلاثين عاما.
ولا شك أنّ القوات التركية ستستفيد من قرب مواقع الإمداد والإسناد الجوي إن كان نطاق عملياتها مقتصرا على شريط حدودي بطول 32 كيلومترا.
وستتمتع القوات بغطاء توفره المدفعية التركية المتمركزة داخل الجانب التركي من الحدود.
وإن أردنا تفسير هذا عسكريا وسياسيا وكذلك فيما يتعلق بالعلاقات مع الدول الأخرى، فإن نطاقا محدودا نسبيا بطول الحدود تتوفر فيه أقوى الأسلحة الثقيلة في تركيا لهو أمر مفيد يعود بإيجابيات.
نفس الأمر ينطبق على الأفراد إذ إنّ شن غارات داخل العمق السوري مع العودة إلى داخل تركيا أو إلى المنطقة الآمنة يمثل خيارا أفضل من القيام بعمليات على مدى بعيد أو لفترات طويلة داخل سوريا.
وبينما لا تتمتع القوات التركية، ولا وحدات حماية الشعب الكردية ولا قوات سوريا الديمقراطية، بالحركية المطلوبة، فإن الإبقاء على أكثر المعدات الثقيلة وأفراد وحدات الدعم داخل تركيا أو قرب الحدود يساعد على تقليل التهديد الذي يمكن أن تمثله هجمات وحدات حماية الشعب.
لكن لعل تلك الوحدات تدرك كيفية صنع أجهزة تفجير محلية من شأنها تحقيق فعالية كبيرة في مواجهة مركبات الجيش التركي وأفراده.
وفي المفاوضات مع روسيا بخصوص مستقبل سوريا بعد انتهاء الحرب، يمكن لأردوغان الادعاء بأنّ الوجود التركي في شريط حدودي ضيق لا يهدف إلا لتسهيل عمليات حماية الأمن التركي ولا يمثل بأي شكل من الأشكال تحديا لسيادة سوريا على أراضيها أو للهيمنة الروسية على هذا البلد العربي.
لكن وبغض النظر عن ذلك التفسير المخادع، فإنّ وجود القوات التركية يعزز وضع تركيا على مائدة المفاوضات.
يعيدنا هذا إلى منبج وإلى احتمال أن يقع أردوغان، مع اتباعه فرائسه، في فخ قطع التزامات في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية تكون في غير صالح الدولة التركية.
فلا شك أنّ التنظيم الإرهابي رغم ما تعرض له من ضربات قد أظهر أنّه لا يزال يتمتع بقدرة على إيقاع قتلى في مناطق تم تحريرها من قبضة مقاتليه.
كما ستكون بمثابة كارثة سياسية لأردوغان إن بدأ تنظيم الدولة الإسلامية في استهداف عناصر الجيش التركي في شمال سوريا وتحقق له في ذلك نجاح.
وبعد أن أقر لترامب وللعالم بأنّه سيتولى أمر من تبقى من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية وأن بوسع الولايات المتحدة إعادة جنودها إلى وطنهم وعائلاتهم، فإنّ أردوغان سيواجه انتقادات حقيقية إن وقع عدد كبير من القتلى في صفوف الجيش التركي.
ولهذا، يمكن القول إنّ أردوغان وترامب يتمتعان بقدرات كبيرة في رسم السياسات الخارجية كل لبلده. وفي كلتا الحالتين، لا يرجح أن يسعى من تبقى لديهما من مستشارين في مجال السياسة الخارجية للتصدي لما يريده الرئيس.
وإن تحقق لكل منهما نجاح وتم انسحاب القوات الأميركية حسب الخطة المرسومة وإن توفرت حماية لحلفاء الولايات المتحدة في المعركة، وإن لم يعد تنظيم الدولة الإسلامية قوة مهمة، وإن واصلت تركيا بنجاح عملياتها ضد فلول تنظيم الدولة الإسلامية، حينها فقط يمكن لترامب التباهي بأنّ فرائسه تفوقت على نصائح مستشاريه.
أما إن تضررت وحدات حماية الشعب من العمليات التركية، وإن لم يتحقق نجاح في مساعي القضاء على فلول تنظيم الدولة الإسلامية، وإن لم يمانع الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والسوري بشار الأسد في مكان لتركيا على مائدة المفاوضات، وإن حقق حزب العدالة والتنمية نتائج جيدة في الانتخابات المحلية بسبب نجاح مناورات السياسة الخارجية، فإنّ أردوغان سيملك حينها القدرة على إظهار نفسه كقائد ماهر في ألاعيب السياسة الخارجية كما هو هندسة السياسات الداخلية.
إدوارد جي ستافورد
أكاديمي عمل في أقسام تابعة للشؤون الخارجية الأميركية ومتخصص في بالشأن التركي