أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنّه قرر سحب القوات الأميركية من سوريا في أعقاب مكالمة هاتفية أجراها مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 14 ديسمبر المنصرم. وواصل تصريحاته فيما بعد بأنّ الحرب مع داعش قد انتهت، وإنّ “الوقت قد حان للعودة إلى الوطن”، في تغريدة نشرها في 20 من الشهر عينه. وفي الثالث من يناير الجاري قال ترامب إنّ القوات الأميركية سوف تنسحب من سوريا “بعد فترة”، و لم يحدد “إطاراً زمنياً” للانسحاب.
في حين أنّ أردوغان شدد في تصريحاته على أنّه “يمكن أن تنفذ تركيا عملية مباغتة في شرق فرات في أي لحظة”، لتبدأ بعدها عملية نقل معدات عسكرية كبيرة نحو الحدود المشتركة مع سوريا.
حسنا، فهل يمكن أن تبدأ تركيا عملية في شرق الفرات قبل انسحاب القوات الأميركية؟
لقد أدلى كل من عضو هيئة التدريس بجامعة “موسكو” الحكومية “كريم هاس”، وسفير تركيا السابق في واشنطن “فاروق لوغو أوغلو” بآرائهما حول المعادلات الإقليمية والتداعيات المحتملة لموقع “أحوال تركية”.
س: ذكرت تقارير أميركية أنّ الانسحاب سيستغرق حوالي أربعة أشهر. فما رأيكم في الموضوع؟ هل ستنسحب القوات الأميركية من المنطقة حقا؟ وما هي المدة التي يمكن أن يتم خلالها الانسحاب الأميركي في تقديركم؟
فاروق لوغ أوغلو: قال ترامب في البداية إنّ عملية الانسحاب ستستغرق شهراً واحداً، ثم عدّل قوله مؤكداً أنًه لم يحدد جدولاً زمنياً للانسحاب، وأنّ هذه العملية ستستغرق مدة أطول. وقد تحدث ترامب هاتفيا مع أردوغان في اللحظة التي أعلن فيها قراره بالانسحاب، ولا بدَّ أنهما تحدثا حول تفاصيل هذا القرار. إذا نظرنا إلى إرسال تعزيزات عسكرية مكثفة إلى حدودنا الجنوبية، يتكون لدينا انطباع بأنّ تركيا لن تنتظر طويلا لإطلاق هذه العملية في شرق الفرات.
أولا؛ قرار ترامب بسحب الجنود الأميركان لا يعني أنّه سحب يده من سوريا وتركها بشكل نهائي.
ثانيا؛ لم يعطِ هذا القرار الضوءَ الأخضر للعمليات العسكرية التركية المزمعة في شرق الفرات.
ثالثاً: القرار لا يعني أنّ دعم أمريكا لوحدات حماية الشعب قد انتهى. إذ أعلن ترامب في تغريدة جديدة أنّ هذا الدعم سيستمر. لذلك نعتقد أنّ تركيا بدأت تعيد النظر في العملية العسكرية التي تريد تنفيذها في شرق الفرات بعد هذه التصريحات الأميركية والمفاوضات التي أجرتها في موسكو قبل عدة أيام.
أظن أنّ الجانب التركي أكد للجانب الروسي في موسكو اعتزامه على إجراء هذه العملية، ومن الممكن أنّه طلب مساعدة من روسيا لاستخدام المجال الجوي السوري، إلا أنّها لم توافق على هذا الطلب. لأنّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تحدث في تصريحات أدلى بها بعد هذه المحادثات عن “التنسيق بين” (القوات التركية-الروسية)، الأمر الذي يعني أنّه استبعد إطلاق عملية مفاجئة من جانب واحد.
كريم هاس: أعتقد إنّ ترامب اتخذ قرار سحب القوات الأميركية من سوريا بالتشاور مع صناع القرار السياسي المقربين له، إلا أنّه لم يتحرك في ذلك بإجماع مؤسسات الأمن القومي والمؤسسات الصانعة للسياسات الأميركية.
ومما يقوي هذه القناعة استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس، والممثل الخاص بريت ماكغورك، والحيرة السائدة في البيت الأبيض ووزارة الخارجية، واعتراض أعضاء مجلس الشيوخ، بما فيهم كبار أعضاء الكونغرس، مثل ليندسي غراهام، على قرار الانسحاب من سوريا.
إذا أخذنا في عين الاعتبار “الضوابط والتوازنات” في النظام السياسي والبيروقراطي الأميركي، فمن الأرجح أنّ عملية الانسحاب ستمتد لفترة أطول مما يريد ترامب، ومن المحتمل أنّها ستتأخر حتى النصف الثاني من عام 2019.
كما أنني لا أعتقد أن يكون الانسحاب شاملاً لكل الجنود والقواعد العسكرية وأعضاء الاستخبارات المركزية الأميركية والاستشاريين والموظفين الآخرين. بأغلب الاحتمال أنّ الولايات المتحدة ستحتفظ بوجودها العسكري في سوريا بنوع من “التغطية”، من أجل الاستمرار في دعم حلفائها قوات سوريا الديمقراطية حتى تتبين وتتبلور العملية السياسية في سوريا، وكذلك التحكمِ بالصراعات التي قد تنشأ في المستقبل بين تركيا وقوات حماية الشعب الكردية أو النظام، أوالجهات الفاعلة الأخرى، بما فيها روسيا، والحد من الجهود الإيرانية الرامية إلى توسيع نطاق نفوذها في سوريا.
وأرى أنّ الإدارة الأميركية ستقلل بهذه الطريقة من مسؤوليتها عن الصراعات المستقبلية المحتملة في المنطقة من جانب، وستُفشِل هدف موسكو الساعي إلى خلق أزمات أمنية جديدة بينها وبين أنقرة من جانب آخر. ذلك لأنّ الكرملين كان يرى السماح للجيش التركي بزيادة مواقعه في شرق الفرات ممكناً إذا كان ذلك سيؤدي إلى تعميق الأزمة بين أنقرة وواشنطن.
لقد أجَّل ترامب بقرار الانسحاب هذه الأزمةَ المحتملة على المدى القصير، وفي الوقت ذاته ألقى الكرة في ملعب الكرملين ليجد “صيغة حل خلاقة” للمشكلة الكردية في المنطقة المستمرة منذ نحو قرن.
س: يقول أردوغان في تصريحاته بإمكانية بدء عملية شرق الفرات في أي لحظة. فهل يمكن أن تبدأ تركيا مثل هذه العملية قبل انسحاب القوات الأميركية تماما من المنطقة؟
فاروق لوغ أوغلو: مع أنّه لا توجد إجابة صارمة لهذا السؤال، إلا أنّ هناك علامات تدل على أن هذه الخطوة في دائرة الاحتمال، من قبيل إرسال تعزيزات عسكرية كبيرة على الحدود التركية – السورية المشتركة. كما أنّه لم تصدر أي تصريحات من أردوغان أو مسؤولين حكوميين تدل على نية التباطؤ في العملية المخططة. ولكني لا أؤيد الرأي القائل بأن ترامب أعطى الضوء الأخضر للعملية التركية في شرق الفرات بقرار الانسحاب. فإنّ ترامب لا يريد مواجهة الأتراك مع المتحالفين معه في سوريا ولا يرى في ذلك أي مصلحة.
من جانب آخر، من الخطأ الاعتقاد بأنّ روسيا تنظر إلى العملية التركية بشكل إيجابي، لأنّ هذه الأراضي أراضٍ سورية، وقوات حماية الشعب في تعاون وتواصل مع دمشق. ومن الممكن أن يُترك شرق الفرات للجيش السوري أيضاً عقب اتفاقية أخرى تشمل كل الأطراف. لذا قد تعترض روسيا كذلك على هذه العملية. أضف إلى ذلك أنّ إيران هي الأخرى لن ترغب بأن تصبح تركيا قوة فاعلة في الشرق السوري من خلال عملية واسعة النطاق.
كريم هاس: يبدو أنّ عملية شرق الفرات سوف تتحدد على ضوء نتائج المفاوضات التي تجري بين دمشق وقوات حماية الشعب على المستوى الأدنى، والمباحثات التي تجري بين واشنطن وموسكو على المستوى الأعلى. وإذا تمت المصالحة بين دمشق وقوات حماية الشعب فإنّ هذا سيعني أيضاً الاتفاق بين موسكو وواشنطن. وفي هذه الحالة، لن تستطيع أنقرة فعل شيء في شرق الفرات من دون أخذها في الحسبان المواجهة مع كل هذه القوى.
من ناحية أخرى، إذا تعذر الوصول إلى الاتفاق بين دمشق وقوات حماية الشعب، وبين واشنطن وموسكو بشأن الكيان الذي سيسيطر على منطقة منبج، وشروط تلك السيطرة، فإنّ أنقرة لن تستطيع القيام بأي شيء دون تقديم تعهدات أو تنازلات لروسيا وأميركا في آن واحد. لكن هذه الخطوة من شأنها أن تجلب على تركيا مخاطر ومصائب عديدة.
بادئ ذي بدء، سيتعين على أنقرة أن تتعهد لواشنطن بأنّها لن تدخل في حرب عدوانية ضد حلفائها الأكراد. إلا أنّه من المرجح أن تعترض موسكو على تنفيذ أنقرة مثل هذه العملية بموافقة واشنطن فقط.
ثانيا، ليس من المستبعد أن تعطي روسيا لتركيا الضوء الأخضر وتمنحها بعض الجيوب أو تنشئ لها مناطق عازلة على خط الحدود لتمكّنها من تنفيذ العملية التي تريدها، وذلك من أجل توظيف الجيش التركي كـ”عصا” لتهديد قوات حماية الشعب من جهة، وتقديم انتصارات عسكرية رمزية لأردوغان قبيل انتخابات البلدية في مارس حتى يشعر بـ”المديونية” لموسكو من جهة أخرى.
أعتقد أنّ موسكو لن تشعر بالرضا من انتقال منبج إلى سيطرة الجيش التركي تماما. وحتى إن نفذت أنقرة عملية محدودة في شرق الفرات فإنّ الكرملين سيزيد ضغوطه عليها في وقت لاحق لتنسحب من تلك المنطقة، إلى جانب انسحابها من مدينة إدلب وخط عفرين-اعزاز-جرابلس.
وعندها سيتساءل الرأي العام، بالنظر إلى النتائج، لماذا يتصرف نظام أردوغان وكأنّه شريك سري لنظام الأسد بحيث تصبّ كل خطواته في صالحه في المحطة الأخيرة!
من جانب آخر، يمكن أن نتوقع أنّ روسيا ستسعى إلى الإيقاع بين الجيش التركي والأميركي في الميدان ما دامت واشنطن ستُبقي على وجودها العسكري في المنطقة، مما يدل على أنّ ما تنتظره أنقرة من عملية شرق الفرات وما تنتظره موسكو مختلف بشكل كلي.
وعلى المنوال نفسه، فإنّ واشنطن قد تخطط إلى إحداث نوع من القطيعة في العلاقات التركية-الروسية، ما يكشف اختلافاً بين أهداف كل من واشنطن وأنقرة من عملية شرق الفرات كذلك.
ولا بد أن تضع تركيا في حسبانها أنّ الدعم الأمريكي لقوات حماية الشعب، والحوار الروسي مع الأكراد، ومساومات “الحكم الذاتي” بين دمشق والأكراد، والمحادثات الجارية بين واشنطن وموسكو، واحتمالية توجه النظام السوري إلى الانتقام من أنقرة من خلال الترويج بأنّها “قوة محتلة” في سوريا، والتأكيد على علاقاتها مع التنظيمات الجهادية في إدلب، بالإضافة إلى المحاولات الإيرانية الرامية إلى إخراجها من المعادلة في سوريا.. فكل هذه المعادلات الحساسة قد تسفر عن نتائج غير مرغوبة من الطرف التركي. لذا أرى إنّ عملية مرتقبة في شرق الفرات وسط هذه الظروف السياسية والاقتصادية ستكون مخاطرها الأمنية على تركيا أعظم من المتوقع.
وفي ظل هذا المشهد، يبدو إنشاء “كردستان” المستقلة ذات عدد محدود من السكان غير ممكن بدون فوضى مدمرة في المنطقة، وأخاف من أن تؤدي عملية شرق الفرات المحتملة إلى مثل هذه النتيجة المصمَّمة.
ايسر جينار