تركيا باقية في منطقتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”. ولها طموحات نحو شرق الفرات، وربما غرباً باتجاه مناطق إدلب والريف الشمالي لحلب.
بداية، من الصعب اليوم تخيّل أي عملية عسكرية سورية في إدلب. 3 ملايين سوري يُقيمون فيها. هل بإمكان تركيا تحمّل مثل هذا العدد على أراضيها، وفي ظل وضعها الاقتصادي الحالي؟ أي عملية عسكرية في إدلب سيعني المزيد من انحسار نفوذ تركيا ومصالحها.
المسألة الثانية في قضية مناطق “درع الفرات” على ارتباط بالمشاريع التركية فيها، وانعكاساتها على المستقبل السياسي والتنموي. تستثمر تركيا في شبكة طرقات جديدة منذ الصيف الماضي، تربط مدينة الباب بمعبري باب السلامة والراعي وبالقرى المجاورة لهما، ومنها إلى الداخل التركي وكأنها تسابق الزمن لفرض المزيد من نفوذها وتثبيت سيطرتها حتى ولو تطلب ذلك احداث تغيير ديمفرافي.
والشبكة هذه مرتبطة أيضاً بمنطقة صناعية “أولى” قيد الإنشاء في الباب، هدفها توفير فرص عمل للسكان واللاجئين على حد سواء. تتجه الشركات التركية للاستثمار في هذه المنطقة الصناعية، نظراً الى توافر اليد العاملة الرخيصة مقارنة بالداخل التركي. والأرجح أن ترتبط هذه المنطقة، مثل شبكة الطرقات، عضوياً بتركيا، لجهة رأس المال وإدارة الإنتاج، وأيضاً شبكة تصريف المنتجات. إنها دائرة متكاملة من الارتباط، تشي بها لافتات باللغتين التركية والعربية، وكذلك عشرات الآلاف من رجال الشرطة المدربين على أيدي الأتراك.
والارتباط العضوي أيضاً تعليمي وخدماتي. مكاتب البريد التركي باتت متوافرة في أنحاء المنطقة (5 مدن الى الآن)، وتُقدم للزبائن خدمات التحويل المالي والشحن أيضاً. وبعدما كانت جامعة حلب مقصد طلاب المنطقة، تلعب مؤسسة تعليم عالي تركية هذا الدور فيها. جامعة حران الحكومية التركية، ومقرها في ولاية “شانلي أوروفا” جنوب تركيا، افتتحت فرعاً لها في الباب أيضاً لاستقبال الطلاب.
الجامعة عينها كانت نظمت امتحان “اليوس” لدخول الجامعات التركية في مدينة جرابلس، وذلك ضمن ربط القطاع الطلابي في المنطقة بالنظام التعليمي التركي. سبقها توزيع وزارة التعليم التركية 360 ألف كتاب مدرسي على الطلاب في الباب وجرابلس ومارع وأعزاز وعفرين وبقية أنحاء المنطقة. حتى مديرية الشؤون الدينية التركية وسّعت نشاطها نحو منطقتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” (عفرين وجوارها)، إذ تُوفّر التدريب الديني للأئمة السوريين، وتُخصص لهم رواتب شهرية، أي أنهم باتوا تحت مظلة الدولة التركية ومؤسساتها، لا الفصائل المشتتة.
اللغة التركية باتت تُدرّس ليس لأنها الزامية، بل نظراً لارتباطها بالحصول على وظائف في المنطقة. إذا كان اقتصاد المنطقة، من الأعمال الإغاثية إلى الصناعة، مرتبطاً بتركيا وبشركاتها ومؤسساتها، تصير اللغة التركية وبشكل تلقائي عاملاً مساعداً على النمو، أكثر من الانكليزية أو الفرنسية. إذا أراد طالب في إحدى مدارس المنطقة، متابعة دراسته الجامعية، فلا بد من تعلم اللغة التركية.
وأبناء المنطقة كانوا يشكلون تمييزاً حيالهم في الوظائف والتنمية لمصلحة التركمان، نظراً للارتباط العرقي واللغوي للأخيرين بتركيا. لكن هذا الفارق بين التركماني والعربي، مرشح للتقلص خلال الفترة المقبلة لو أخذنا في الاعتبار الإقبال على تعلم اللغة التركية، ليس بين شباب وطلاب مناطق “درع الفرات” فحسب، بل أيضاً لثلاثة ملايين ونيف سوري يقيمون في تركيا، وإلى حد أقل ثلاثة ملايين آخرين في إدلب. مستقبل هؤلاء السوريين بات مرتبطاً بتركيا، ولا بد أن تُمثل اللغة التركية معبراً لهم الى الوظائف والتعليم العالي.
ليست اللغة منفصلة عن الثقافة السياسية بالمنطقة حيث صار “الاحتلال العثماني”، “فتحاً”، وباتت الخرائط العثمانية وتاريخ السلطنة، جزءاً من وعي يتشكل، بوحي “الصداقة” والعلاقة الوطيدة مع تركيا. ذاك أن الدور التركي يُوفّر اليوم فرص تنمية ووظائف وتعليماً وحريات الحد الأدنى، ستكون معدومة لو عادت المنطقة “الى حضن الوطن”.
بالمختصر بالكاد ستجد سوريا في مناطق درع الفرات، لقد اصبحت كل مظاهر الحياة والثقافة تركية خالصة، لعل الجيل المقبل من السوريين الذين اعمارها من 6 سنوات وما دون لن يعرفو شيئا من سوريا هنا، انها المناطق التركية او الملحقة. لن يتمكنوا من التمييز انها مناطق محتلة، وكانت يوما ما سورية.
في ظل انعدام أي أفق لحل سياسي معقول بالحد الأدنى، وانحسار القتال على الأراضي السورية، تبدو مناطق الشمال السوري معلّقة في المستقبل، تماماً مثل جمهورية شمال قبرص غير المعترف بها: ارتباط كامل بتركيا وانتظار أبدي للحل. هكذا ستنضم جمهورية “درع الفرات” إلى تشكيلة مناطق تملك تركيا مفاتيحها السياسية والاقتصادية.