لم تكن قرية «تل نصرى»، الواقعة فى محافظة الحسكة، هى التى استقبلت النازحين من مدينة «عفرين» وحدها، فقد كانت مدينة كوبانى، التى تبعد عن «عفرين» 200 كم، هى الأخرى فتحت أبواب منازلها أمام النازحين من «عفرين»، الذين هربوا من المذابح التى كانت تنتظرهم.
فى أحد المنازل البسيطة، تعيش «فادية نورى»، فى العقد الخامس من عمرها، كانت فى آخر الأفواج الهاربة من جحيم «عفرين»، فهى سيدة من أسرة تعمل فى الزراعة وتمتلك 30 ألف متر أرضاً زراعية فى ناحية الراجو فى عفرين، لم ترغب فى ترك محاصيلها وأرضها هى وأسرتها المكونة من زوج و4 أبناء. تروى السيدة التى شاهدت الكثير مما جرى فى «عفرين» عن الفظاعات التى ارتكبتها القوات الموالية لتركيا من فصائل الجيش الحر، وتقول: «قعدت شهرين و5 أيام كنت أشوف العالم تخرج وتهرب، وأنا ما أهرب وأضل بقريتى فى الراجو، زوجى تعب، لأنه كان مريض بالقلب، وأنا ظليت، وأولادى التحقوا بالقوات الكردية اللى كانت تقاتل الأتراك والفصائل الإرهابية».
تشير السيدة الخمسينية إلى أنها بقيت وحدها مع عدد من النساء والأهالى الذين رفضوا الخروج من قراهم، حتى أتت القوات التركية على القرى ونشرت الحواجز وسيطرت عليها سيطرة تامة: «كل دقيقة تطلع طيارة تضرب، وأردوغان مشى علينا كل شىء، دبابات وطائرات ومدافع»، لكنها قررت الخروج بعد نحو أسبوع من خروج المدنيين من «عفرين»، وحينها كانت القوات نشرت فرقها للسيطرة على محيط «عفرين»، ولأنها ابنة «عفرين» تعلم خبايا المنطقة المحيطة والطرق والمدقات، فقد سارت فى طرق ملتوية فى مدقات بيت التلال والجبال حتى لا تمر على النقاط الأمنية التى وضعتها القوات التركية، مشيت نحو 8 ساعات فى طريق مهجور لتتفادى هذه النقاط حتى وصلت إلى مدينة عفرين، ومنها اتجهت جنوباً نحو منطقة برج «عبدالله»، حيث قوات النظام السورى، لمساعدتها على اللحاق ببقية النازحين من «عفرين».
«فادية» آخر الهاربين.. تروى «مأساة الخروج»
وبسؤالها عن سبب رحيلها بعد أسبوع من خروج أهالى عفرين وسقوطها فى يد الأتراك، وكيف غيّرت قرارها، توضح «فادية» أن المسألة تعدّت الخطر، وأصبحت متعلقة بالشرف والعرض، فقد قامت القوات الموالية لتركيا من فصائل تدّعى أنها إسلامية بالتعدى على من بقى فى المدينة، وقاموا بنهب البيوت، وتعدوا عليهم بالضرب حتى إنهم أجبروهم على فتح أبواب المنازل وعدم غلقها، لكى يدخلوا أى منزل وقتما يشاءون، مشيرة إلى أنه حتى إذا ما قرر الناس الخروج بعد ذلك، فإنهم كانوا يوقفونهم على مناطق السيطرة الأمنية أو النقاط التى أقاموها ليقوموا بسلب الأموال والذهب الذى يحملونه: «الجيش الحر أخذ مننا الدهب وكل شىء، والبنات والصبايا كانوا يشلحون منهم الدهب، وكانوا يضربوهم ويعتدوا عليهم وياخدوا الدهب ويسكتوا، كانوا يمدوا إيدهم على صدر البنات ويتحرشون بهم، حتى قدام أبوها أو أخوها، شىء فظيع أول مرة أشوف ها الشىء، فيه بنت اعتدوا عليها قدام أبوها، وقالوا له بنتك صارت لنا».
وتوضح «فادية»: «الفصائل الإرهابية كانت تأخذ النساء من أسرها عنوة، وكان لهم طريقة فى الحصول على البنات حتى يحلوا أخذها عنوة.. يحطون إيدهم على رأس البنت ويكبرون تكبير الله أكبر الله أكبر الله أكبر، وبعدين يقول صارت حلالاً لنا، اتركها»، لافتة إلى أن الفصائل أول ما دخلت قامت بهدم المقابر التى كانت موجودة، والتى كان مدفوناً فيها شهداء القوات الكردية والمواطنون العاديون، وحطموا كل شواهد المقابر والأضرحة التى كانت موجودة بالمدينة بالبلدوزرات.
وتتابع: «البيت اللى فيه زلمة (رجل) ومرته، يقول له عيف الباب مفتوح لا تسكر الباب، إذا بدهم بنتك عجبتهم ياخدوها لحالهم ويقولوا للنسوان، تطبخوا لنا وتغسلوا لنا تيابنا، بالليل إلنا والصبح لأزواجكم، وما استوعبنا هيك، كنا مصدومين»، موضحة أن أغلبية القوات من تركيا و«الجيش الحر» وكلهم مرافقون لبعض فى المنطقة.
وعن رحلتها، تقول إنها سارت نحو 8 ساعات حتى وصلت «عفرين» ووجدت أن المنازل يتم نهبها هى الأخرى، وقررت أن تخرج منها أيضاً وتهرب مثل بقية من هرب، مشيرة إلى أنها ارتدت مع مجموعة من النساء جلابيب سوداء لكى تهرب من «عفرين»: «سألونا إذا بدنا نستخرج هويات تركية ونبقى بالمدينة حتى يصير انتخابات لأردوغان ويستغلونا، لكن انتبهنا إننا لازم نخرج»، مشيرة إلى أنها تمكنت من تخبئة الذهب أسفل الجلباب ولم يتمكن المقاتلون من العثور عليه، ووصلت إلى منطقة تسمى «برج عبدالله» يوجد بها قوات النظام السورى، لكنها فوجئت بوجود جنود روس هناك إلى جانب جنود النظام السورى، حتى ساعدوهم فى الهرب مع بقية النازحين باتجاه «الشهباء»، ومن ثم استقلت سيارة، ولحقت بزوجها إلى منطقة كوبانى، مضيفة أن أهالى كوبانى قاموا باستقبال النازحين استقبالاً حاراً، ورحبوا بهم وقدموا لهم ما يمكن تقديمه لمساعدتهم، من منازل وأثاث.
ويضيف زوجها إسماعيل محمد، فى العقد السادس من عمره، إنه خرج قبل زوجته، لكن حتى أثناء خروجه بسبب مرض القلب الذى يعانى منه، تعرّض لوعكة صحية فى الطريق، وهو يجرى أسفل القذائف التى تمطر مدينة عفرين، حتى سقط مغشياً عليه، وتمكن الأهالى من نقله فى سيارة إسعاف خارجها، موضحاً أنه شاهد الكثير من المآسى فى لحظة خروجه، ويقول: «أنا خرجت بسبب مرض القلب، اتجهت لعفرين، حتى أهرب باتجاه جبل الحلال، لكن وأنا فى الطريق فى بداية شهر مارس، كانوا يقصفونها، وشُفت أشياء داعش ما كان يعملها، وأطفال جثث فى الشوارع»، موضحاً أن رحلته قطعها وحيداً، حيث أصرت زوجته على البقاء، بينما أبناؤه ملتحقون بوحدات حماية الشعب الكردية التى تقاتل الأتراك، وأنه كان يظن أنه سيجد أناساً سيعرفهم ويساعدونه على الهرب أو يشاركهم فى الخروج، لكنه كان يفاجأ بأن من كان يعرفهم يجدهم مقتولين أمامه فى الشوارع، واصفاً المشهد بـ«الفظيع»، وأنه شاهد أناساً خرجوا من غير أحذية بقوله: «الناس كانت خارجة حافية».
ويستكمل «إسماعيل»: «هى جريمة كبرى والعالم كله ساكت»، موضحاً أنه كان يهرب وحده، بينما لا يعرف ما كان يجرى لأولاده، مَن الذى مات، ومَن على قيد الحياة.
الفصائل المسلحة الموالية لتركيا نهبت وسرقت البيوت والمحال.. الجيش الحر كان «يشلح» المصوغات الذهبية من أيدى وأعناق النساء.. و«إسماعيل»: «شاهدت مآسى الناس كانت خارجة حافية.. وما حدث جريمة كبرى والعالم كله ساكت».. و«شيركو»: جميع النازحين أتوا من إدلب والرقة خلال الحرب ووصل عددهم بعد الغزو التركى لـ400 عائلة