“ترقية شخص متورط بهذه الجرائم إلى موقع قيادي تمثل إهانة للضحايا وتشجيعًا علنيًا على ارتكاب المزيد من الانتهاكات. الأمر لا يتعلق بأخطاء فردية بل بسياسة ممنهجة تُمارس منذ سنوات”.
“منح مواقع رسمية لقادة متهمين بارتكاب جرائم حرب ينسف أي جهود للعدالة الانتقالية، ويقوّض ثقة السكان في مستقبل يحترم القانون وحقوق الإنسان”.
مع كل تحوّل سياسي تشهده سوريا، يتجدد الأمل في محاسبة من تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء، وتُطرح أسئلة مؤلمة: هل يُمكن بناء مستقبل عادل دون فتح ملفات الماضي؟ وهل يمكن لضحايا الجرائم أن يثقوا بمؤسسات تُعيّن المتهمين بارتكاب جرائم حرب في مواقع السلطة؟
أحدث الأمثلة وأكثرها إثارة للجدل، قرار وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة بتعين محمد الجاسم، المعروف بلقب “أبو عمشة”، قائدًا لفرقة “حماة”. وهو قرار أثار موجة غضب واستنكار بين منظمات حقوقية ونشطاء سوريين، اعتبروه “صفعة للعدالة” و”مؤشراً خطيراً على استمرار ثقافة الإفلات من العقاب”.
من هو “أبو عمشة”؟
محمد الجاسم يقود ميليشيا “السلطان سليمان شاه”، المعروفة محليًا بـ”العمشات”، والتي تنشط في منطقة عفرين شمالي حلب، وهي من الفصائل المحسوبة على تركيا. يُنظر إلى “العمشات” كأحد أبرز التشكيلات المتهمة بارتكاب انتهاكات ممنهجة بحق المدنيين، خصوصًا من الكرد.
تشمل هذه الانتهاكات:
فرض الإتاوات على السكان المحليين، الخطف والتعذيب والقتل تحت التعذيب، الاستيلاء على الأراضي والمنازل والمزارع، اغتصاب نساء تحت التهديد، تجنيد المرتزقة وإرسالهم للقتال في ليبيا، أذربيجان والنيجر، تهريب البشر والسلاح والمخدرات.
وفي أغسطس/آب 2023، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على “فرقة السلطان سليمان شاه” وقائدها محمد الجاسم وشقيقه وليد الجاسم، إلى جانب فرقة “الحمزة” وقائدها سيف بولاد (أبو بكر)، بتهم تتعلق بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
شهادات نساء… وصمت مريب
في أغسطس 2018، ظهرت إسراء الخليل، زوجة أحد مقاتلي العمشات، في مقطع مصوّر تتهم فيه “أبو عمشة” باغتصابها، فيما كان زوجها قد أُرسل إلى ليبيا. ورغم أن لجنة قضائية داخلية أوصت بعزل الجاسم ونفيه، إلا أن القرار لم يُنفذ، بل قُتلت إسراء وزوجها لاحقاً في ظروف غامضة.
وفي سبتمبر 2020، ظهرت اتهامات مماثلة من امرأة أخرى ضد سيف الجاسم، شقيق “أبو عمشة”، لتلقى المصير ذاته. هذا التكرار المأساوي يكشف نمطاً من الترهيب والصمت المفروض بالقوة، وسط غياب تام لأي مساءلة أو تحقيق مستقل.
عندما يصبح المجرم قائداً
تعيين أبو عمشة في موقع عسكري رفيع لا يعكس فقط استخفافًا بمعاناة الضحايا، بل يوجه رسالة مقلقة مفادها أن الجرائم لا تُحاسب بل تُكافأ، وهو ما يُهدد فكرة العدالة الانتقالية برمتها.
ففي الدول الخارجة من النزاعات، تُعتبر محاسبة مجرمي الحرب ركيزة أساسية لإرساء السلم الأهلي، ومنع تكرار الانتهاكات. لكن ما يحدث في بعض مناطق الشمال السوري يظهر عكس ذلك تمامًا: غياب للشفافية، وتكريس لثقافة الإفلات من العقاب، وتدوير للوجوه المتهمة بانتهاكات مروّعة.
مطلب العدالة لا يسقط بالتقادم
العدالة ليست ترفًا، بل ضرورة أخلاقية وسياسية. وعلى السلطات الجديدة، إن كانت جادة في بناء دولة قانون، أن تبدأ من ملفات الانتهاكات، لا بتجاهلها. كما أن على المجتمع الدولي، الذي يراقب بصمت، أن يفعّل أدوات المحاسبة المتاحة، وأن يرفض التعامل مع قادة ميليشيات متورطين في جرائم حرب كأمر واقع.
إن ترقية “أبو عمشة” لا يجب أن تمرّ بصمت. إنها لحظة اختبار حقيقية: إما السير نحو عدالة تداوي جراح السوريين، أو الاستمرار في إنتاج مزيد من الضحايا.
روابط لتقارير سابقة عن جرائم ابو عمشة وميليشياته هنا