القلة من سمع أو يعرف عن نهر قويق ، فهو بات منسيا ولا أحد يتحدث عنه في أحاديث الأنهار وسيرة المياه ، لكن رغم ذلك فإنّ للقويق ذاكرة متأصلة ، لقد كان نهر قويق أحد المصادر الرئيسية للمياه في مدينة حلب طوله 129 كيلو متر يجري في سورية بطول 110 كيلو مترات. منبعه الرئيسي نبع Akpınar الواقع في كلس بهضبة عنتاب، التركية ، حيث نصت اتفاقية ترسيم الحدود بين تركيا وفرنسا المحتلة لسورية والمعروفة باسم اتفاق فرانكلين بويون أو اتفاقية أنقرة عام 1921 م على تقاسم مياه النهر. لكن تركيا كما العادة لم تلتزم بالاتفاق وإنّما قامت بتجفيف النهر من خلال تحويل مجراه إلى داخل أراضيها وجفاف الينابيع الرافدة الأخرى بدءاً من العام 1950 م .
عام 1950 حوّلت أنقرة مجرى نهر قويق الذي يغذي مدينة حلب خلافاً للاتفاق المبرم في أنقرة مع فرنسا نيابة عن سوريا في 20/10/1921 بتقسيم نهر قويق، وكذلك مؤتمر الصداقة وحسن الجوار 1926، ما دفع السلطات السوريّة آنذاك لضخ مياه الفرات عبر الأقنية لمدينة حلب.
بقي النهر ميتا بفعل التجفيف التركي حتى العام 2008 م حيث جُرَّت مياه نهر الفرات إلى النهر الميت لكن دون منسوب النهر الحقيقي قبل جفافه. يقول علاء الصابوني عبر صفحته في الفيسبوك : الغريب أثناء البحث عن تلك الفترة فيما هو متاح من المصادر والمذكرات السورية لم أعثر على أي ذكر لهذا الحدث المهم وهو ما يوحي بأنّ الحدث لم يشكل اهتماما يذكر لدى الساسة السوريين في ذلك الوقت . ولعل السبب هو الخوف السوري الدائم من التهديدات التركية المتكررة باجتياح سورية خلال خمسينات القرن الماضي . كان تجفيف النهر بداية حرب المياه التركية على السوريين ثم العراقيين لاحقا.
كان حدث توتر في العلاقات بين البلدين على توزيع المياه نتيجة انتشار وتعبئة خزاني بحيرة الطبقة والحبانية في سوريا والعراق. وكان سكان مدينة حلب يشربون من نهر قويق الذي ينبع من تركيا في فترة الأربعينات. وقام الأتراك بقطع جريان النهر جراء إقامة مشروعات زراعية، كذلك قامت الحكومات السورية في ذلك الوقت بإقامة محطة ضخ من نهر الفرات لجر المياه إلى حلب. فإنّ ما حصل لنهر قويق ينبع في تركيا، قد تكون له دلالته المستقبلية على الفرات، حيث انقطعت مياه الشرب عن سكان مدينة حلب عندما حولت السلطات التركية مجراه في أوائل الخمسينات من هذا القرن؛ مما دفع السلطات السورية آنذاك لضخ مياه الفرات عبر أقنية لمدينة حلب. ويصر السوريون على تطبيق المفهوم القانوني الدولي بأنّ الفرات نهر دولي وليس نهراً عابراً للحدود من حيث شروط التقاسم لنسب استغلال المياه، ويستندون إلى مبدأ السيادة عند بحث مسألة المياه العربية والسورية.
نهر قويق:
مرّ نهر قويق الذي جففته تركيا بمراحل عدة إلى أن تراجع تصنيفه إلى نهر من أنهار الأحواض المغلقة منذ أواخر عشرينيات القرن العشرين، حيث حولت الحكومة التركية مجراه إلى داخل أراضيها لتحرم سكان حلب وأريافها الاستفادة من مياهه، وبعد أن جفت الينابيع الثلاثة (عين التل والعين المباركة والعين البيضاء) التي تغذي مجراه.
قبل ذلك التاريخ، كان قويق نهراً يفيض شتاء، وتتدفق مياهه في الأراضي السورية التي يمر فيها بطول مئة وعشرة كيلومترات قبل مصبه في منطقة أو سبخة «المتخ»، ماراً ببساتين حلب التي تحولت فيما بعد حول مجراه إلى مناطق مكتظة بالسكان. وكان سكان حلب يعتمدون على قويق في مياه الشرب والري، ومثلت البساتين متنزهاً لهم، كذلك مكاناً لاصطياد السمك. أما في الصيف فكان منسوب النهر ينخفض إلى درجات كبيرة، وصفها الشاعر الصنوبري قديماً بأنّ مياهه لا تغطي قوائم بعوضة، وهو ما استدعى حلولاً لجرّ المياه إليه، كما أورد الغزي في كتابه نهر الذهب عن قيام سيف الدين أرغون الدودار بشق قناة من نهر الساجور (أحد روافد الفرات) شمال حلب إلى قويق، وذلك لضمان تدفقه. استمرت القناة لنحو مئتي عام، حتى زوال دولة المماليك وقيام الدولة العثمانية التي أهملت القناة وصيانتها لتزول تدريجياً.
واختلف المؤرخون في أسباب تسمية النهر، بينهم من نسبوه إلى اسم من شقّ مجراه؛ الشيخ الزاهد محمد بن عبد الله… قويق، أو شخص يدعى قويق آغا التركي اعتنى بالنهر ورصف مساحة من أرضه بالبلاط الحجري، وبين من أطلق عليه قويق نسبة إلى صوت الضفادع المنتشرة بكثرة حول سريره، أو نسبة إلى شجر الحور حول ضفتيه، والحور في اللغة التركية (قواق).
مياه قويق أول الأسلحة العثمانية لمعاقبة حلب:
ضربت تركيا بعرض الحائط اتفاق فرانكلين –بويون الذي أقر في العشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1921، ويقضي بتوزيع مياه نهر قويق بين الجانبين السوري والتركي وفق نسب محددة، وفي العام 1925 حولت تركيا مجرى النهر الذي ينبع من مكان بالقرب من مركز ولاية غازي عنتاب إلى الأراضي التركية بالكامل.
كما أنشأت السدود على ممره الذي يبلغ نحو ستة عشر كيلو متراً في تركيا، مقابل نحو مئة وعشر كيلو مترات في سوريا، ليصبح تصريف النهر نحو ثلاثة أعشار المتر المكعب في الثانية، بعد أن كان لا يقل عن سبعمائة وخمسين لتراً في الثانية، وبذلك تحول إلى وادٍ سَيلي.
استمرت تبعات هذا التحول حتى بداية القرن الحالي، وتحوَّلَ قويق من نهر إلى مصرف للمياه العادمة، يغص بالضفادع وحشرات حبة السنة (اللاشمانيا)، وتمنع رائحته الكريهة السكّان من المرور بجانبه. لم يكن لقويق ضفاف أيضاً، ولا يذكر في أجيال متعاقبة من ذاكرة الحلبيين كنهر للسباحة والتنزه، بل كان الاقتراب منه في عمر المراهقة لأبناء جيلي مثاراً لسخط الأمهات وعقوباتهم. كذلك تمت تغطية ممره داخل مدينة حلب، ليبقى سرير النهر يمر عبر أنفاق تحت المدينة، باستثناء أمتار قليلة في الحديقة العامة وسط حلب، قبل أن يكشف من جديد بعد الخروج من المدينة عند منطقة بستان القصر ليكمل طريقه في ريف حلب الجنوبية.
في الذاكرة الحلبية توصيفات للنهر ترتبط بالذاكرة القريبة، إذ كان يطلق على الأشخاص تهكماً لفظ «ريحتك قويق»، وتبدلت الكلمة مع الزمن لتصبح «قليط» كدليل على عدم الاعتناء بالمظهر، وأيضاً كانت تستخدم لوصف للأخلاق السيئة والتشبيهات. وتحولت بساتين النهر، بفعل منع تركيا لمياهه من التدفق، إلى مبان سكنية، مثل بستان الباشا وبستان الزهرة وبستان كل آب وغيرها، بينما تهدمت جسوره وتحول مكانها إلى مطاعم أو مساجد أو ساحات، كجسر الصيرفي (مطعم لاغونا)، وجسر المعزة (جامع التوحيد)، الجسر الكبير (ساحة سعد الله الجابري)، جسر الناعورة (أمام المتحف حالياً)، جسر الزلاحف (قرب المشارقة).
قويق يستعير يد الفرات:
بطول خمسة وخمسين كيلومتراً، بدئ بتنفيذ قناة جرّ من نهر الفرات إلى قويق في العام 2004، لتنتهي أعمالها في العام 2008، وتدخل مدينة حلب عبر شلّال بالقرب من مخيم حندرات، وتمر في المدينة بمسافة ثمانية عشر كيلو متراً إلى منطقة الشيخ سعيد، حيث بنيت هناك محطة لمعالجة المياه.
القناة شبه المنحرفة المكسوة بالإسمنت المسلح، بكلفة مليارين ومئة مليون ليرة سورية(1 دولار = 45 ليرة سورية)، ضمنت تدفقاً بنحو تسعين متراً مكعباً في الثانية من محطة البابيري التي تستمد مياهها من بحيرة الأسد، لتروي آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية، نحو (197 ألف هكتاراً)، إضافة لاستصلاح نحو خمسة وستين ألف هكتار في ريف حلب الجنوبي.
أعيد كشف سرير النهر داخل المدينة، وأُنشِئت حوله المتنزهات والمطاعم، ورمم المجرى الذي يمر وسط المدينة ليغدو مكاناً يؤمه الحلبيون، خاصة في المنطقة الممتدة على طول (شارع الفيلات) وصولاً إلى الحديقة العامة.
الحرب الأهلية 2011:
توقف تدفق مياه نهر قويق مجدداً في العام 2012، ليعيد للنهر سيرته الأولى، ويحرم سكان المناطق في أرياف حلب الشرقية والجنوبية الاستفادة من مياهه في ري مزروعاتهم، ما تسبب بجفاف كبير في هذه المناطق، وفقدان محاصيل استراتيجية كانوا قد اعتمدوا على مياه النهر في زراعتها كالقطن والخضار الصيفية، كذلك القمح المروي.
وتحولت الأراضي الزراعية، في معظمها، إلى الزراعة البعلية، وهجر قسم من السكان حقولهم للبحث عن مصدر رزق جديد، كذلك عاد النهر إلى مصب للمياه العادمة والصرف الصحي ومخلفات المعامل من جديد.