سيرةٌ حافلة بقصص الفساد المالي وسرقة مواد الإغاثة، والمتاجرة بمصير المواطنين المحاصَرين، وفرض أتاوات على المعابر الحدودية، ومراكمة الثروات الضخمة فوق جثث الأبرياء ومعاناة أهاليهم.
سيرةٌ مفعمة بحقائق راسخة عن علاقات وثيقة ومتشابكة مع أكثر من طرف وجهة، داخلياً وخارجياً، لشراء النفوذ وامتلاك الصدارة. هي جزء من سيرة عائلية لم تجد «أحرار الشام» غير اثنين من أبنائها لتفويضهما بقيادتها، وجعلهما بمثابة الواجهة السياسية لها أمام العالم.
ولا غرابة أن يطلق بعض النشطاء على «حركة أحرار الشام»، من باب السخرية والتهكم، اسم «شركة نحاس إخوان المغفلة». ففي غفلة من القدر، وربما بتخطيط شيطاني متقن، أصبحت الحركة تُساس من قبل الشقيقين لبيب وكنان نحاس، المعروفين بأنهما داهيتان من دواهي الاحتيال والسمسرة وسرقة الأموال.
لبيب نحاس، 33 سنة، خريج هندسة معلوماتية، ولقبه أبو عز الدين هو مدير العلاقات الخارجية في الحركة. أما كنان، فلقبه أبو عزام الأنصاري، وهو عضو مجلس الشورى وعضو المكتب السياسي. وبينما لم يُعرف اسم الأول إلا منذ شرع في كتابة المقالات السياسية، ونشرها في بعض الصحف الغربية والعربية لتلميع صورة الحركة، وتقديمها كشريك مقبول من المجتمع الدولي عسى أن يكون لها حصة ما في «سوريا المستقبل»، فإن الثاني، الذي اعتقل لمدة شهرين في تموز العام 2011، كان معروفاً منذ بداية الأزمة السورية، سواء لقيادته كتيبة مسلحة تتقن نقل البندقية من كتف إلى آخر، أو لمشاركته في أقذر عمليات السلب والنهب التي طالت شريحة من السوريين أجبرتها الظروف أن تكون ضحية حصار قاسٍ، لم تدرك أن من يقف وراءه، ووراء معاناتها وفقرها وجوعها، هو نفسه من يدّعي أنه كان شريكها في هذا الحصار، أي «كتيبة الأنصار» بقيادة كنان نحاس.
«كتيبة الأنصار» بين «الأخونة» والسرقات
تأسست «كتيبة الأنصار» في شهر آذار من العام 2012، وانضمت في آب من العام ذاته إلى «لواء الحق» بقيادة أبي راتب الحمصي الذي وقع تحت تأثير كنان نحاس لدرجة أن البعض أصبح يصف الحمصي بأنه مجرد واجهة، أما الدور الحقيقي فهو لنحاس. بعد ذلك انضم «لواء الحق» إلى «أحرار الشام» و«الجبهة الإسلامية».
وكانت «كتيبة الأنصار» في البداية محسوبة على «جماعة الإخوان المسلمين» من حيث الدعم والتمويل والتدريب، رغم أن قائدها كنان نحاس لم يكن يخفي ميوله السلفية، التي ثبتت عليه مؤخراً بعد توليه منصباً قيادياً في «أحرار الشام».
فقد تلقّت الكتيبة دعماً مالياً من الشيخ عدنان العرعور، المعروف بانتمائه «الإخواني». وكان بسام جنيات، المعروف بلقب جواد الشامي، أحد قادة الكتيبة، هو من يتلقى الدعم العابر للحدود. وما يعطي صورة عن حجم الأموال التي كانت تصل. يكفي أن نشير إلى أن بسام جنيات كان يستأجر منزلاً ومكتباً في اسطنبول تبلغ إجرتهما شهرياً ما يعادل نصف مليون ليرة سورية. كما أقامت الكتيبة علاقات مع الشيخ أبي محمد الرفاعي، وهو أحد قيادات «الإخوان» التي هربت إلى لبنان وأقامت في طرابلس في ثمانينات القرن الماضي، حيث كان يمدها بالسلاح والمال، ويؤمن لها أراضي تصلح كمعسكرات تدريب. وقد أسس الرفاعي بعد ذلك كتيبة «وأعدوا» المقاتلة في القلمون، وقُتل هناك جراء غارة جوية، كما قتل ابنه من قبله. كما تلقت «كتيبة الأنصار» دعماً مباشراً من حركة «حماس» الإسلامية، وذلك عن طريق كل من أحمد ستر وإياد زيدان اللذين عملا على تهريب مجموعات من الكتيبة إلى عكار في لبنان لإخضاعها لدورات تدريبية وإرجاعها إلى حمص.
وخلال حصار الأحياء القديمة في حمص، اتخذ قادة «كتيبة الأنصار» و«لواء الحق» من الحصار وسيلة لمراكمة الثروات، والتشديد على من تبقّى من مدنيين في هذه الأحياء، وهو ما جعل كنان نحاس لا يبذل أي جهود حقيقية لفك الحصار عن هذه الأحياء، لأن الحصار بالنسبة له كان بمثابة منجم من الذهب.
ووصل الأمر به لدرجة أنه لم يكن يسمح لأي شخص أو عائلة من المدنيين (التي كانت أعدادهم تقدر بحوالي خمسة آلاف شخص في ذلك الوقت) أن تغادر الأحياء المحاصرة، وليس ذلك بسبب الخوف عليهم، كما كانت الذريعة المتداولة، بل لأن ذلك يعني أنه قد يصل إلى مرحلة لا يجد فيها «زبوناً» لديه، لأن المواد التي كان يدخلها كنان نحاس إلى الأحياء القديمة عبر الأنفاق، أو عبر شبكات تهريب معروفة، كان يبيعها لهؤلاء الزبائن بأضعاف سعرها الحقيقي. فمثلاً كان سعر كيلو من البندورة يصل إلى ما يعادل عشرة آلاف ليرة سورية. وهذا ما دفع العديد من أهالي هذه الأحياء إلى توثيق سلوكيات نحاس ضدهم، من خلال الكتابة على جدران منازلهم المهدّمة، حيث كتب على أحد هذه الجدران «أبو عزام، أبو راتب: فكوا الحصار وخلّوا العائلات تطلع وحاجي قبض دولار».
والأمر اللافت في سيرة هذه الكتيبة التي كانت تنشط بشكل خاص في محافظة حمص، هو أنها بين ليلة وضحاها قررت الانتقال إلى الحدود التركية، حيث تمركزت في بلدة كللي بريف إدلب، ونصبت الحواجز على طريق معبر باب الهوى. وبعد الخروج من حمص جراء اتفاق تسوية مع الجيش السوري، استلم كنان نحاس منصب مدير عام معبر باب الهوى من طرف «أحرار الشام»، وأصبح عناصر «كتيبة الأنصار» هم المشرفون الحقيقيون على نشاطات هذا المعبر لجهة عبور الأشخاص والسيارات وتنظيمها. وهنا كان «قبض الدولار» ما زال مستمراً، لأن إدخال أو إخراج أي مواد مهربة كان يتطلب دفع «أتاوة» محددة سلفاً لكل غرض ولكل كمية. وكانت «أحرار الشام» قد احتكرت السيطرة على معبر باب الهوى منذ أواخر العام 2013 عندما اقتحمت مقار «الجيش الحر» ومستودعاته وطردته من المنطقة.
المال والارتباط الخارجي.. طريق النفوذ
إذاً، خلع كنان نحاس اللباس العسكري والحزام الناسف الذي كان يتزنّر به، وارتدى ثياباً تناسب مناصبه الجديدة في الحركة كعضو في «مجلس الشورى»، والأهم كعضو في المكتب السياسي. غير أن السياسة لم تمنعه من الاحتفاظ بلقب أبو عزام الأنصاري، الذي التصق بسيرته في أحياء حمص القديمة كقائد كتيبة مسلحة متّهمة بالسرقة والفساد.
ويبدو أن هذه المؤهلات هي التي جعلت بعض أجهزة الاستخبارات تختاره ليكون ذراعها داخل الحركة، وعلى رأسها الاستخبارات القطرية والتركية التي وجدت فيه خامةً يمكن الاشتغال عليها، لاسيما أن الاستخبارات القطرية كانت تعرفه بشكل جيد منذ تعاونه وتنسيقه مع بعض قادة «الإخوان المسلمين» في المنطقة. وقد لفت تعيين شقيقه لبيب نحاس في منصب مدير العلاقات الخارجية، إلى حجم النفوذ الذي بات يتمتع به. وتعتبر عائلة نحاس في حمص من أشهر وأغنى العائلات في المحافظة، وكانت معروفة بتجارة السيارات. وثمة معلومات غير مؤكدة أن الأخوين نحاس يحملان الجنسية الاسبانية.
وفي توزيع واضح للأدوار مع الاستخبارات التركية، كشف أبو عزام الأنصاري، في آذار الماضي، عن حصول الأمن التركي على «داتا» معلومات حول خمسة آلاف محكوم بقضايا جنائية أفرج عنهم النظام السوري من سجونه لإدخالهم إلى تركيا والعمل على زعزعة الأمن فيها، وذلك بالتزامن مع اغلاق تركيا لمعبر باب الهوى بذريعة وجود تهديدات من النظام السوري لها.
وقد تكشف بعد ذلك، تدريجياً أن الجناح السياسي للحركة، الذي يديره الأخوان نحاس، يدين بولاء مطلق لمحور الدوحة – أنقرة الذي يملك التحكم به كيفما يشاء، ويفرض عليه ما يريد من توجهات وخيارات. وهو ما جعل الأمر يبدو في ظل الانقسام بين تيارات الحركة كما لو أن القسم الأكبر من قيادة الحركة لا يملك أي سلطة على الجناح السياسي.
وقد تبدّى هذا الأمر بشكل واضح أثناء انعقاد مؤتمر الرياض للمعارضة السورية، قبل نحو أسبوعين. فقد استمر لبيب نحاس بحضور جلسات المؤتمر، غير مبالٍ بالبيان الذي صدر عن القيادة العامة للحركة، متضمناً إعلان انسحابها من المؤتمر. وكذلك، لدى انتهاء المؤتمر وصدور بيانه الختامي، خرج العديد من قادة الحركة مؤكدين أن ممثلهم نحاس لم يوقع على البيان، وأن الحركة لم تتراجع عن انسحابها كما أشاعت في حينه بعض وسائل الإعلام، ليتبين بعد ذلك أن نحاس كان من بين الموقعين، وأن ما اضطره إلى التوقيع هو اتصال أجراه معه أحد المسؤولين القطريين، حيث قام حينها بالتواصل مع قائد الحركة أبو يحي الحموي، واتفق معه على ضرورة التوقيع، وهو ما حصل من دون علم باقي أعضاء القيادة الذين وجدوا أنفسهم في موقف شديد الإحراج، خاصة بعد تأكيدهم مراراً أن التوقيع لم يحصل.
مع العلم أن نحاس نفسه كان قد سارع قبل ذلك بفترة قصيرة، لنفي ما نشرته بعض وسائل الإعلام حول اجتماع ضم قادة من «أحرار الشام» مع مسؤولين روس، فلو أنه لم يوقع لما كان ظل ساكتاً حتى الآن.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير