بعدما ظلت الرقة مدينة مهمشة تاريخياً من قبل الحكومات السورية ، وكانت تصنفها منطقة نائبة فقيرة رغم ثرواتها، فإنّها اليوم تبدو في وضع أفضل، في ظل الإدارة الذاتية.
وفي هذه المنطقة من سوريا، في الشمال الشرقي، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية ، وتحظى بحماية الولايات المتحدة نشهد تنمية وتطورا كبيرا وتحسنا في ظروف حياة الناس وتعتبر أفضل مكان للعيش في البلاد كما ورد في تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
وبعد عقدٍ من الحرب التي مزقت سوريا ودمرت مدنها، لايزال عمر ساران يعتقد أنَّ مدينته الرقة هي أفضل مكان للعيش في سوريا.
وقال ساران لصحيفة “The Daily Telegraph” البريطانية خلال زيارة مؤخراً إلى المدينة: “هناك نوع من الحرية، وبعض المؤسسات، والأمان، كل شيء متاح، رغم أنّنا بالطبع متأثرون بالوضع الاقتصادي”.
بعد أكثر من 3 سنوات على معركة طرد مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من الرقة التي أعلنوا إنّها عاصمتهم، تبقى آلاف المباني مدمرة والوظائف شحيحة، ولاتزال الجثث تُستخرَج من المقابر الجماعية.
لكن ساران، البالغ من العمر 36 عاماً ومدرس اللغة الإنجليزية، متفائل.
وقال ساران: “الرقة اليوم هي النموذج، أنا جاد. المباني يسهل إعادة بنائها، إنّما ما نعمل عليه الآن هو إعادة بناء الناس، فقد دمر داعش أرواحهم”.
وتعكس أوضاع الرقة، التي كانت عاصمة محافظة غير مميزة في السابق، المسار الأوسع للحرب الأهلية السورية، التي سجلت هذا الأسبوع ذكرى مرور 10 أعوام قاتمة. فقد شهدت الرقة كل شيء من التفاؤل الهش للانتفاضة ضد الرئيس بشار الأسد إلى الحرب الأهلية الوحشية التي فرضت تكلفة مروعة على الحياة المدنية والبنية التحتية.
ولم يتوقع أحد أن تكون الرقة، الواقعة في منطقة زراعية على نهر الفرات بعيداً عن المدن الرئيسية في سوريا حلب ودمشق، أول عاصمة إقليمية تخرج من سيطرة الحكومة السورية عندما بدأت الاحتجاجات في مارس/آذار 2011.
وقال محمد نور الزيب، وهو أحد شيوخ العشائر ورؤساء مجلس الرقة المدني: “قبل عشر سنوات كانوا يعتقدون أنَّ الرقة ستكون آخر مدينة تنتفض. فلم تكُن الحكومة مهتمة بالرقة من قبل، لقد كانت مكاناً غافلاً، رغم أنَّ المنطقة بها نفط وكانت سلة غذاء سوريا”.
وجسّدت سيطرة “داعش” على الرقة وحشية التنظيم، مع تنفيذ الإعدامات العلنية والاختفاء القسري والتعذيب على نطاق واسع. وقال معلم اللغة الإنجليزية عمر ساران: “أعادت داعش العصور الوسطى، كان الوضع وكأنّنا نعيش في العصور المظلمة”.
وأشاد ساران بقوات سوريا الديمقراطية التي استعادت المدينة من براثن “داعش” في عام 2017 ووصفها بأنّها “المنقذة”، على الرغم من أنَّ المعركة أسفرت عن تدمير شبه كامل للرقة. وأسقط التحالف الدولي نحو عشرة آلاف قنبلة على المدينة وسط ضحايا مدنيين.
منذ ذلك الحين أقر الشيخ محمد نور الزيب، أحد رؤساء مجلس الرقة المدني، بأنَّ عملية إعادة البناء كانت بطيئة.
وقال إنَّ مجلس الرقة المدني لديه ميزانية ضئيلة وقليل من الدعم الدولي. وأوضح: “لقد دُمِّرَت البنية التحتية الأساسية للمدينة، ولم نتمكن من إصلاحها ببساطة، كان علينا أن نبدأ من الصفر”.
وقال الزيب، إنَّ أنابيب المياه قد أعيدت الآن إلى 95% من أحياء الرقة، في حين أنَّ الكهرباء متاحة لما يقرب من ثلثي المنازل. وفتحت نحو 50 مدرسة أبوابها مرة أخرى من أصل 400 مدرسة في الرقة، وتعمل في نوبات صباحاً وبعد الظهر لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الطلاب.
وقال الزيب: “مع الوقت يمكننا إعادة بناء الرقة من تحت الأنقاض لتكون أفضل من دمشق في الخدمات والأمن”، مضيفاً أنَّ مدينته هي الوحيدة التي مازالت توفر إمكانية تحقيق تطلعات أولئك الذين انتفضوا ضد الرئيس الأسد قبل عقد من الزمن.
وأصبحت شكاوى مواطني الرقة اليوم أخف سوءاً مقارنة بالإرهاب الذي عاشوه في ظل تنظيم “داعش” والقمع السياسي لنظام الأسد. فبدلاً من قطع الرؤوس والجَلْد في الأماكن العامة بسبب التدخين، يشكو الناس من بعض المشاكل الخدمية .
وَلَّدَت العزلة النسبية في الرقة فخراً محلياً وهوية فريدة بأنّها مدينة ليبرالية نسبياً في ركن توافقي من سوريا. وتقول ماريا العجيلي إنَّ قدرة المدينة على الصمود أمام الرياح السائدة تشير إلى أنَّ فرصها في التخلص من التطرف أفضل من أي مكان آخر.
وتصر ماريا، الناشطة المحلية التي تنحدر من عائلة قديمة من الكتاب والساسة في الرقة، على أنَّ التطرف دخيلٌ على المدينة، قائلة: “ليست هناك أيديولوجية في الرقة”.
وتقول ماريا، التي لا ترتدي الحجاب، إنّها تفضل البقاء في الرقة بالرغم من أنَّ زوجها وأطفالها يعيشون في منطقة خاضعة لسيطرة الحكومة. وأضافت: “في اللاذقية لدي عملي وفيلا وسيارات وحياة فاخرة، لكن لا يمكنني التحدث بحرية”.
وذكرت أنَّه في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام “إذا كتب أحدهم تقريراً عنك، فستختفي من على سطح الأرض”. وتشير التقديرات إلى أنَّ حالات الاختفاء القسري أدت إلى وفاة 12000 شخص في الحجز بسبب التعذيب وسوء المعاملة منذ بدء الحرب.
وقالت عن قسد: “فيما يتعلق بالحرية والقدرة على الكلام، قوات سوريا الديمقراطية هي الأفضل”.
الأمن لايزال ضعيفاً، مع استمرار خلايا “داعش” النائمة في ابتزاز العائلات الثرية، حسبما تقول ماريا العجيلي.
ويخيم على الجميع الخوف من أنّه بالرغم من إمكانية السيطرة على الوضع اليوم، يمكن تدهور الأمور غداً، سواء بعودة النظام السوري، أو عودة “داعش”، أو الإرهاب الجديد غير المتوقع بعد. “لا نعرف ما قد يحدث غداً”.
لكن ماريا لديها نظرة بعيدة. وقالت: “الرقة تعرضت للغزو مرات عديدة منذ إمبراطورية بابل لكن الغزاة دوماً ما يغادرون في نهاية المطاف بينما نبقى نحن”.
وأكدت أنَّ الرقة سيعاد بناؤها من جديد مثلما حدث بعدما دكَّها الفرس في القرن السادس ومرة أخرى بعدما دمرها المغول في القرن الثالث عشر.
وأضافت ماريا: “نحن نمتلك هذه المدينة، وسنبقى هنا. سنحارب من أجلها ونموت في سبيل ذلك. الرقة تستحق منّا ذلك”.