لم يغفل تنظيم داعش منذ دخوله إلى الرقة التضييق على المسيحيين هناك، بل بدأت الانتهاك حتى قبل سيطرته الكاملة على المدينة. طرد مقاتلوه القساوسة من الكنائس وحطموا صلبانها. ولاحقا، حولوا بعضها إلى “مراكز دعوية”.
جيمي شاهنيان، 31 عاماً، شاب مسيحي عاش تفاصيل سيطرة داعش على المدينة. لم يقف مكتوف اليدين. يقول “شاركت أنا وأصدقائي، أغلبهم مسلمون، في مظاهرات بعد أن استولى داعش على الكنائس. وطالبنا باحترام حرية الأديان الأخرى”.
عاش جيمي طوال حياته في مدينة الرقة في بيت يطل على ساحة النعيم (وسط المدينة). “كنت أجلس كثيرا قرب الساحة، كانت تمثل المدينة بأكملها بالنسبة لي. أتذكر جيداً عندما كنت أشغل الأغاني للمتظاهرين في الساحة للاحتفال بتحرير المدينة من النظام السوري”.
ويتابع “لكن مع تحويلها إلى ساحة للإعدام تحطمت رمزيتها عندي، خاصة إنّ أخي الصغير كان شاهداً على الكثير من حالات الإعدام في الساحة”.
خيّر داعش مسيحيي الرقة بين أن يعتنقوا الإسلام أو يدفعوا الجزية، أو يعتبروا أنفسهم محاربين رافضين لـ”حكم الشرع”. وأصدر بعد سيطرته بشكل كامل على المدينة، في شباط/فبراير 2014، سلسلة أحكام أسماها “عقد الذمة في الشام بين الدولة الإسلامية ونصارى ولاية الرقة”. تضمن العقد مجموعة الأحكام التي يجب على المسيحيين الالتزام بها تحت طائلة العقوبات المغلظة. جاء في الوثيقة:
- يلتزم النصارى بدفع جزية عن كل ذكرٍ منهم، مقدارها أربعة دنانير من الذهب على أهل الغنى ونصف ذلك على متوسطي الحال ونصفها على الفقراء، وأن لا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب منها.
-
أن لا يظهروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيء في طرق المسلمين أو أسواقهم، ولا يستعملوا مكبرات الصوت عند أداء صلواتهم وكذلك سائر عباداتهم، وأن لا يُسمِعوا المسلمين تلاوة كتبهم وأصوات نواقيسهم. ويضربونها داخل كنائسهم.
-
أن لا يمنعوا أحداً من النصارى من اعتناق الاسلام إذا هو أراد ذلك.، وأن لا يتاجروا ببيع الخنازير أو الخمور مع المسلمين أو في أسواقهم، ولا يشربوها علنية.
في المقابل قال التنظيم إنّه “سيضمن سلامة المسيحيين مقابل دفع الجزية، والتزامهم بالأحكام المترتبة على عقد الذمة”.
سارع داعش إلى دعوة مسيحيي الرقة إلى اجتماع أسماه اجتماع “أهل الذمة” وذلك لدعوتهم إلى دين الإسلام. جيمي يقول إنّ للتنظيم أسبابا أخرى غير دعوتهم للإسلام. “كان يريد تفقدنا، ليعلم من منا هرب من المدينة ليستملك بيته ومحلاته. حيث كان يجبرنا داعش على الاجتماع كل ثلاثة أشهر ولاحقا كل أسبوعين”، يوضح الشاب المسيحي.
باءت محاولات التنظيم بالفشل، ولجأ إلى إجبار بعضهم على الإسلام بالإكراه، كما حدث مع أيمن مصطفى أبو زر الذي لم يكن باستطاعته دفع الجزية، فخيره التنظيم بين اعتناق الإسلام أو معاملته ككافر وقتله، فاعتنق الإسلام.
مسيحي آخر اسمه أفندي اضطر إلى اعتناق الإسلام بعد أن أصبح مهددا بالقصاص في ساحة النعيم. جيمي أحد الشهود على قصة الرجل. يقول “يعمل أفندي في الصناعة ولديه محل ميكانيك، سمعه عناصر داعش وهو يتلفظ بقول كفري على حد تعبيرهم، فحكم عليه بالقصاص بالذبح أو اعتناق الإسلام، فاختار الإسلام هرباً من الموت”.
لم يكتف داعش بفرض جزية على المسيحيين فقط، بل أجبرهم على التقيد بالشروط التي فرضها على جميع أبناء المدينة المسلمين. فأجبر الرجال على إغلاق محلاتهم أثناء أوقات الصلاة، أما النساء فقد أجبرن على لبس الخمار.
عانى العديد من المسيحيين في مدينة الرقة من أزمة هوية دينية. فبعضهم مسجل على بطاقة الهوية كـ”مسلم”، وإلى وقت قريب كان يمنع عليهم تغيير ديانتهم للمسيحية في بطاقة الهوية. يعود هذا إلى أنّ الحكومة السورية اعتمدت تسجيل المسيحيين في خانة الديانة ممن وردت أسماؤهم في السجل العثماني فقط وأغفلت الباقين. وازدادت المشكلة تعقيدا، عندما قررت أرمينيا في ستينيات القرن الماضي منح الجنسية للأرمن في سورية (كانوا لاجئين منذ الحرب العالمية الأولى)، ولكن بشرط إحضار “ورقة معمودية أرمينية” للحصول على جواز السفر الأرميني. إلا أن الكثيرين وجدوا صعوبة في الحصول على هذه الوثيقة بسبب تسجيلهم في بطاقات الهوية السورية كمسلمين. استمرت المشكلة حتى أواخر التسعينيات حيث صدر قرار يسمح للمسيحين بتصحيح ديانتهم في بطاقة الهوية.
ثلاث طوائف.. من هم مسيحيوا الرقة؟
يتداول سكان مدينة الرقة حكاية طريفة عن رجل أرمني اسمه كالو أبو زر. قرر هذا الرجل قبل 100 عام اعتناق الإسلام. تزوج أربع نساء، وأنجب 13 طفلا. لاحقا، قرر بعضهم الرجوع إلى المسيحية فـ”تعمدوا في الكنيسة”، في حين بقي بعضهم الآخر على الإسلام. ويستطيع قليل من الناس اليوم التمييز بين المسلم والمسيحي من أبنائه وأحفاده الذين من يزالون يعيشون في الرقة.
تتمتع الرقة بتنوع سكاني عرقي وديني كبير. وتضم العرب، والأكراد، والأرمن، والتركمان، والشركس، كما يقطنها مسيحيون مندمجون ضمن المجتمع. وبينما يسكن المسيحيون في دمشق وحلب في أحياء خاصة بهم، لا يوجد مثل هذا في محافظة الرقة، بل يتوزعون بين السكان بشكل طبيعي.
ينقسم مسيحيوا الرقة إلى ثلاثة طوائف، أكبرها الروم الكاثوليك ولهم كنيسة سيدة البشارة، والأرمن الكاثوليك ولهم كنيسة الشهداء، ثم الأرمن الأرثوذكس ولهم كنيسة في داخل مدرسة الحرية.
يقدر عدد المسيحيين في محافظة الرقة بـ4000 نسمة. وقديما كانوا أكثر من هذا العدد ولكن النزوح المستمر باتجاه المدن الكبرى كحلب ودمشق، قلل من عددهم الأصلي.
يصنف المسيحيون في الرقة إلى مجموعتين: الأولى تضم من سكنوا المدينة منذ إنشائها. أما الثانية فتتكون من الأرمن الذين هربوا من تركيا إلى سورية بعد المجازر ارتكبت في حقهم أيام الحرب العالمية الأولى.
لكن، هناك مسيحيون جاؤوا من مختلف المحافظات السورية إلى مدينة الطبقة (نحو 50 كيلومترا غرب مدينة الرقة) عام 1970، وذلك لوجود فرص عمل في سد الفرات أثناء إنشائه. واستقروا هناك، ويقدر عددهم بـ 200 عائلة.
أما في مدينة تل أبيض الحدودية مع تركيا، فكان يوجد أكبر تجمع للمسيحيين الأرمن في المنطقة. وتضم من جاؤوا خلال الحرب العالمية الأولى. وتقلص العدد حاليا ليصبح 150 عائلة فقط، ولهم كنيسة الاستقلال.
ولم تشهد الرقة صراعا إسلاميا مسيحيا كبيرا قبل ظهور تنظيم داعش وسيطرته على المدينة بشكل كامل سنة 2014. واضطر معظم المسيحيين إلى الهرب من مناطقهم، فلم يبق في المدينة وريفها إلا 3 عائلات أرغمت على دفع الجزية.