في ظل انشغال العالم بأزمة فيروس كورونا وصمته عن انتهاكات حقوق الإنسان بدأت تركيا العمل على المرحلة الثانية ضمن مخطط التغيير الديمغرافي الذي تنفذه في شمال سوريا.
المخطط الذي باشرت تركيا في تنفيذه منذ سيطرتها العسكرية على مقاطعتي تل أبيض ورأس العين وثم نقل آلاف أسر المسلحين الموالين لها لتوطينهم في منازل السكان الأصليين واصلت تركيا تنفيذ المرحلة الثانية منه حيث كشفت ثلاث مصادر تواصلنا معها أنّ السلطات التركية بدأت منذ ساعات الصباح يوم الأربعاء 8 نيسان / أبريل 2020 بنقل عائلات المسلحين الموالين لها ضمن الفيلق الأول في الجيش الوطني السوري لتوطينهم في مقاطعة تل أبيض.
المصادر أشارت إلى أنّ 19 باصاً ضمن هذه المرحلة تحركوا لنقل عوائل المسلحين من معبر كلس العسكري إلى معبر أقجه قلعة تمهيد للعبور إلى مدينة تل أبيض، وبلغ عدد الأشخاص 900 وهم عوائل من سكان الغوطة الشرقية وإدلب و حمص و ريف حلب الشمالي قادمين من إدلب وبقية المدن عبر الأراضي التركية، وأشارت المصادر أنّ تدفق عوائل المسلحين سيتواصل حتى يوم الأربعاء المقبل، والعدد المقدر نقله عبر تركيا إلى مدينتي تل أبيض و رأس العين هو 6 آلاف.
كما وتمهد تركيا فتح الطُّرق خلال الفترة القادمة لاستقدام المزيد من عوائل فصيلي أحرار الشرقية والجبهة الشامية، إلى مدينتي سري كانيه (رأس العين) و(كري سبي) تل أبيض وقامت بالفعل بفتح معابر جديدة لتسريع وتسهيل دخولهم وتأتي هذه الخطوات ضمن مساعي حثيثة تبذلها تركيا لفرض واقع جديد في المناطق التي تسيطر عليها في شمال سوريا عموما.
وبدءاً من 9 أكتوبر عام 2019، شهدت المنطقة الواقعة شرق الفرات (شمال شرق سوريا)، إلى حد كبير، تبدلات جذرية وعميقة وتغييرات عسكرية أفضت لحدوث تغييرات ديمغرافية كبرى، خلقت فوضى بعدما كانت المنطقة تعتبر الأكثر أمناً، واستقرارا على مدار السنوات الثلاث الأخيرة، تلاها عدد من التغييرات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والسياسية والأمنية على المستوى المحلي. وفور سيطرة تركيا على المدينتين عمدت وعلى مراحل إلى نقل آلاف أسر المقاتلين في الجيش الوطني وأقربائهم من العرب والتركمان إلى منازل المدنيين الأكراد والعرب والأرمن وغيرهم في مسعى لملء الفراغ الذي أحدثه هجومها وتسبب في نزوح سكانها وتهجيرهم، ضمن خطة المنطقة الآمنة المزعومة.
وتعد كل من مدينتي تل أبيض ورأس العين من المراكز الحيوية في ريفي الرقة والحسكة والتي تخضع حالياً لسيطرة قوات الجيش الوطني (نبع السلام) والتي تم تسميتها نسبة إلى العملية العسكرية التي قادتها تركيا للسيطرة على المدينتين وتم اختتامها في 17 أكتوبر 2019 بهدنة أشرفت الولايات المتحدة على صياغتها مع تركيا.
خرجت كل من البلدتين عن سيطرة الحكومة السورية منتصف عام 2012. في حين كانت تل أبيض تحت سيطرة داعش حتى تمكنت وحدات حماية الشعب بدعم من التحالف الدولي من طرد التنظيم منها، في حزيران 2015 ثم اعلان تشكيل الإدارة الذاتية فيها بتاريخ 21 تشرين الأول \ أكتوبر 2015 تم إعلانها مقاطعة ضمن إقليم (الفرات) الذي يتألف كذلك من إقليم (كوباني). بينما كانت مدينة رأس العين مقسمة السيطرة بين وحدات حماية الشعب، وتحالف التنظيمات المسلحة (داعش، الجيش الحر، جبهة النصرة) وبعد ثلاث جولات من المعارك تمكنت وحدات حماية الشعب من طرد تلك التنظيمات وإعلان الإدارة الذاتية فيها وكانت تابعة لمقاطعة الجزيرة بدءا من تاريخ 20 تموز\يوليو 2013.
طموحات تركيا في هاتين المنطقتين قديمة، وكانت مرتبطة بمحاولات سابقة عديدة، فهي من دعمت بداية فصائل الجيش الحر (كتائب الفاروق) للسيطرة على مدينة تل أبيض مع انهيار قوات الحكومة السورية في محافظة الرقة وريفها في 18 أيلول \ سبتمبر 2012 وكانت وراء الهجوم الذي شنته فصائل الجيش الحر وجبهة النصرة بتاريخ 21 تموز / يوليو 2013 على مقرات وحدات حماية الشعب، وتهجير سكانها الأكراد كما واتهمت بالوقوف وراء أحداث رأس العين والاشتباكات التي اندلعت فيها مع مساعي تحالف (جبهة النصرة، الجيش الحر) من أجل السيطرة عليها وانتهت الاشتباكات بهزيمة جبهة النصرة.
وسبق أن عرضت تركيا على الرئيس الأمريكي باراك أوباما قبيل حملة التحالف الدولي لاستعادة مدينة الرقة من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، حيث طرحت تركيا مشاركة جيشها والجماعات المسلحة الموالية لها في المعركة، في تشرين الأول 2016، عبر فتح كريدور يمر من تل أبيض، ثم عادت وكررت عرض الخطة على واشنطن في حملة استعادة ريف دير الزور الشمالي، كما وأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عرض مجددا على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في كانون الأول 2018 خطة خبيثة تضمنت توغل قواته ضمن كريدور يمر من مدينة تل أبيض بهدف قتال تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان وقتها محاصرة ببلدة الباغوز، آخر معاقله في سوريا. وقتها قوبلت الطروحات التركية جميعا برفض من الولايات المتحدة لتنفذ تركيا في 9 أكتوبر 2019 عملية عسكرية واسعة تحت مسمى “نبع السلام” في الفترة 9 أكتوبر حتى 17 أكتوبر، بعد يوم واحد من انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة، التي كانت قد وقعت اتفاقية (الآلية الآمنة) مع (الجيش التركي) تضمن تسير دوريات أمريكية – تركية مشتركة في المنطقة، وانسحاب قوات سوريا الديمقراطية منها. تسببت الهجوم التركي بنزوح 350 ألف شخص من منطقتي تل أبيض ورأس العين في حين تؤكد تقاريرنا وبيانات الإحصاء التي نواظب على نشرها أنّ الأعداد تفوق ذلك، والعدد يصل إلى 370 ألفا كما وأدى الهجوم الذي توقف في 17 تشرين الأول أكتوبر بهدنة صاغتها تركيا، في مقتل 300 مدني، ودمار في البنية التحتية، وتخللها عمليات إعدام ميدانية وثقتها تقارير دولية ومحلية.
ذلك نعتبره صورة مجزأة للعواقب العديدة التي خلفها الهجوم التركي، الذي أحدث تغييرات جذرية على التركيبة السكانية والنسيج الاجتماعي في المنطقة سيكون لها تبعات سلبية على مستوى إعادة الاستقرار والتنمية.
غايات تركيا الخبيثة كشفها كذلك الرئيس التركي في ثلاث مناسبات متتالية، الأولى حين تحدث في كلمة ألقاها بتاريخ 24 سبتمبر \ أيلول 2019 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة تناولت عزمه إقامة ما وصفها بـ (منطقة آمنة) في شمال سوريا بعمق يتجاوز 20 كم لتوطين 2 حتى 3 مليون من اللاجئين السوريين المقيمين في بلاده فيها، الرئيس التركي تحدّث بالتفصيل عن طموحاته في تلك المنطقة، كاشفاً عن خطة قد تكون بمثابة التهجير القسري لآلاف السوريين من المنطقة حيث يسكنها الأكراد مقابل توطين سوريين من المحافظات السورية فيها ضمن سياق التطهير العرقي للأكراد بداعي أنّهم خطر على أمن تركيا القومي.
في الحقيقة تلك المنطقة ذات مساحة ضخمة، والأهم أن نحكم سيطرتنا عليها وأن نجهّز فيها حياة تحت السيطرة، بالإضافة إلى أن العرب هم الأنسب للعيش في تلك المنطقة فهي ليست ملائمة لطبيعة معيشة الكرد.”
المذيعة مقاطعة: من أي ناحية؟
“لأن تلك المناطق صحراوية (بريّة). https://t.co/hdSdZLa1cB pic.twitter.com/woDLtmIwj7— Northern Syria (@vdcnsyria) November 27, 2022
أيضا بتاريخ 24 تشرين الأول/أكتوبر 2019، وفي لقاء مع قناة (Haber TRT) التركية الرسمية، أجاب الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” عن مجموعة من الأسئلة حول الغزو العسكري التركي لشمال شرق سوريا، والعملية العسكرية المسمّاة “نبع السلام”. وخلال اللقاء قام بتوضيح التفاهم التركي/الروسي الذي تمّ بتاريخ 23 تشرين الأول/أكتوبر 2019، والذي أفضى لاحقاً إلى دوريات روسية/تركية مشتركة، بعمق 15 كيلومتراً على طول الشريط الشمالي (ما عدا مدينة القامشلي/قامشلو). وتحدث الرئيس التركي عن مجموعة أخرى من المواضيع منها عدد اللاجئين السوريين في تركيا، حيث قال إنّ هنالك 3 ملايين و650 ألف لاجئ سوري، معظمهم عرب، وبينهم آراميين وكلدان و ايزيديين (دون الإشارة للمكون الكردي)، وأيضاً قال بوجود 350 ألف شخص من كوباني (دون التطرق لكونهم من الكورد كما فعل مع اللاجئين الآخرين).
كما أشار الرئيس التركي في معرض حديثه إلى المنطقة الممتدة ما بين مدينة تل أبيض ورأس العين/سري كانيه قائلاً:
“في الحقيقة تلك المنطقة ذات مساحة ضخمة، والأهم أن نحكم سيطرتنا عليها وأن نجهّز فيها حياة تحت السيطرة، بالإضافة إلى أنّ العرب هم الأنسب للعيش في تلك المنطقة فهي ليست ملائمة لطبيعة معيشة الكرد، لأن تلك المناطق صحراوية (بريّة) على حد وصف الرئيس التركي. “
الحديث كان إقرار صريح بنوايا في التطهير العرقي للسكان، والتلاعب بالتركيبة السكانية لمنطقة متعايشة مستقرة.
وبتاريخ 1 نوفمبر \ تشرين الثاني 2019 قدّم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال لقائه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوت يريش خطة لإعادة توطين اللاجئين السوريين، وطرح مجددا خطة لتوطين 2 مليون سوري في ما سماها المنطقة الآمنة شمال سوريا.
المساعي التركية ومراميها قديمة، وتطورت في مراحل متعددة لتتخذ الصيغة الحالية، وهو الانخراط العسكري المباشر، لكن تبقى المخاطر الأكبر هي تصاعد وتيرة الصراعات العرقية، فتركيا كما يبدو أنّها تستهدف ضرب المكونات الاجتماعية والتلاعب بالهندسة الاجتماعية، دون الاكتراث بالتبعات الكارثية، والانتباه إلى مدى تعقيد النسيج الاجتماعي في المنطقة الذي تكون على مدى عقود، حيث تتعدد الأعراق والديانات فيها نتيجة لعدة عوامل وأحداث مرّت عليها وساهمت في أن تكون بالشكل الذي عليه اليوم، ولطالما كانت المنطقة ملاذاً آمناً لكل شخص يسعى لتأسيس عائلة أو عمل أو مكان للعبادة. كما تستأثر المنطقة على عدد من المدن ذات طابع متنوع وتركيبة سكانية متنوعة متفاهمة حيث يسكنها آشور وأرمن وعرب وكرد وشيشان، تعكس حياة سكانها وتآلفهم تنوع وحيوية المنطقة.
وسبق أن حذرنا في مركز توثيق الانتهاكات إنّ أي خطة لتغيير النسيج الاجتماعي والسكاني في شمال سوريا سوف تؤدي إلى اختلال كبير في المنطقة ويمكن أن تشكل جرائم تهجير قسري ترقى لأن تكون جرائم ضد الإنسانية وسيخلق وضعا من الفوضى لن يمكن ضبطه.
كما أنّ تركيا ترتكب جرائم عبر ممارستها هذه والتي تعتبر بحسب القرارات الدولية انتهاكات خطير لحقوق الإنسان، وانتهاكا للقوانين الدولية. وفيما يلي أهم النصوص الواردة في القوانين والمعاهدات الدولية التي تحظر الاستيطان وتمنع المساس بالحقوق والأملاك المدنية والعامة في البلاد المحتلة.
اتفاقية لاهاي/ 1907
- المادة 49: الدولة المحتلة لا يجوز لها أنّ تصادر الأملاك الخاصة.
-
المادة 56: الدولة المحتلة تعتبر بمثابة مدير للأراضي في البلد المحتل، وعليها أن تعامل ممتلكات البلد معاملة الأملاك الخاصة.
معاهدة جنيف الرابعة/ 1949
-
المادة 49: لا يحق لسلطة الاحتلال نقل مواطنيها إلى الأراضي التي احتلتها، أو القيام بأي إجراء يؤدي إلى التغيير الديمغرافي فيها.
-
المادة 53: لا يحق لقوات الاحتلال تدمير الملكية الشخصية الفردية أو الجماعية أو ملكية الأفراد أو الدولة أو التابعة لأي سلطة في البلد المحتل.