افتتحت تركية مكتبا لمؤسسة البريد والبرق التركية (PTT) في مدينة تل أبيض، كأحد أول الإجراءات التي تتخذها ضمن إجراءات ربط هذه المدن بولاية أورفا، كما فعلت قبل ذلك في مناطق جرابلس والباب وإعزاز وعفرين التي سيطرت عليهم ضمن إطار حملات أطلقت عليها أسماء جميلة، معتقدة أن ذاك قد يزيل قبح الغزو والهجمات التي تسببت في نزوح الآلاف وتدمير المدن، والقرى والبلدات، ومقتل المئات من المدنيين وإصابة الآلاف بجروح.
وتلبي هذه المؤسسة التي افتتحت أول فروعها بجرابلس في نوفمبر 2017، وتبعها افتتاح فروع في المدن الأخرى احتياجات السوريين في مجال الصيرفة والخدمات اللوجستية والشحن، ودفع رواتب المدرسين والموظفين العاملين في وقف “المعارف” التركي بالمنطقة، والجنود الأتراك، فضلا عن رواتب الشرطة المحلية وكل الموظفين المتعاملين مع تركيا في مختلف المؤسسات إلى جانب رواتب عناصر الفصائل والمسلحين الموالين لها ضمن الجيش الوطني.
تركيا بدأت سريعا في العمل على إدخال مؤسساتها الخدمية وموظفيها لمُدن الشمال السوري التي سيطرت عليها قوات موالية لها في إطار عملية سمتها “نيع السلام” كما فعلت في المناطق التي دخلتها تحت أسماء”درع الفرات” و “غصن الزيتون”، وتسببت في نزوح الآلاف من منازلهم وتدمير البنية التحتية، وتدمير المدن ومقتل المئات من المدنيين. المساعي التركية تكشف بما لا يدعوا للشك عن وجه استعماري قديم مُتجدّد يشمل كذلك الاستيلاء على منازل السوريين وتغيير أسماء بعض الشوارع بأخرى تركية وفرض التعامل بالليرة التركية وغيرها من الإجراءات.
كما تُعتبر بوابة التعليم هي الخطة الأخطر في عملية التتريك الجديدة نظرا لفرض اللغة والتاريخ التركيين على الطلبة السوريين بكل ما يحمله ذلك من عملية تزوير للعديد من الحقائق والوقائع التاريخية والثقافية والعلمية على حدّ سواء من وجهة نظر تركية عثمانية بحتة، وتمجيد السلاطين العثمانيين واعتبارهم رموز مقدسة. إذ تواصل تركيا توزيع الكتب المدرسية في مدينة تل أبيض والمناطق الأخرى الخاضعة لها شمالي سوريا.
واليوم فإنّ عدد الرموز والأعلام التركية وحالات التغيير الديموغرافي وطمس الهوية الثقافية التي تشاهد في المدن السورية المحتلة من قبل تركيا، قد لا يوجد لها مثيل على الأراضي التركية نفسها. وهو ما يكرس واقع الانفصال التي تريد تركيا فرضه مع مرور الوقت، حيث لاتزال تجربة السوريين في فقدان لواء إسكندرون لصالح تركيا ماثلة في الأذهان، علماً أنّ ما تقوم به تركيا الآن من انتهاكات وجرائم في شمال سوريا هو أخطر وأشمل بكثير مما جرى سابقاً أثناء سلخ لواء اسكندرون عن سوريا.
وإنّ ما تقوم به تركيا في الشمال السوري من جرائم وانتهاكات بحق الهوية السورية بحاجة إلى المزيد من التوثيق وتقديم الوثائق إلى الجهات الدولية المعنية، ومقاومتها بكافة السبل.
ونجح أردوغان إلى حدّ ما في إقناع فئة من سوريين ضالة محسوبة على “المعارضة” بتلك الاتهامات، فدفعتها إلى حروب استنزاف لا داعي لها مع الكرد في الوقت الذي كانت تتفق فيه مع أعداء المعارضة الأساسيين روسيا وإيران على تقليص مساحات سيطرتهم مقابل مصالحها التوسعية، فبدأت بتقديم بحلب مقابل الباب، والغوطة مقابل عفرين، لتنفصل الحلقات الأخرى منها، درعا، جنوب ادلب، خان شيخون، معرة النعمان …ومن غير المعلوم بعد ما هو قادم وخاصة أن الحمى التركية مشتعلة هذه الأيام في طرد السوريين من تركيا وإذلالهم في لقمة عيشهم وكرامتهم.
ومع محاولة تركيا ضرب العرب والكرد ببعضهم البعض في معارك كان المنتصر فيها تركيا فقط، ليتسنى لها القفز فوق جثثهم والوصول إلى مآربها، كانت الخطط التركية جاهزة وتنتظر انخراط أكبر للاستخبارات والجيش التركي في الحالة السورية لفرضها بشكل أكبر، فبدأت بالعلم التركي الذي رُفع على المواقع العسكرية بداية وصولاً إلى المدارس والشوارع والمؤسسات الخدمية، وصولاً إلى السيارات العمومية ومطاعم بيع الفلافل.
كما قامت تركيا بتغيير أسماء المدن كتغيير اسم مدينة الراعي في شمال حلب إلى “جوبان باي” واسم جبل عقيل المعروف إلى “بولانت البيرق”، ناهيك عن تغيير أسماء المدارس والساحات والعشرات من القرى في مناطق الباب وعفرين وإعزاز وتل أبيض ورأس العين.. ففي عفرين أُطلق تسمية “رجب أردوغان” على ساحة “السراي” وأسماء تركية أخرى على بعض القرى الكردية، وفي إعزاز كانت تسمية “الأمة العثمانية” لحديقة عامة عمرها نحو 100 عام مع علم تركي كبير وكتابات باللغة التركية أكثر صدمة بالنسبة للسوريين.
قامت تركيا أيضاً بتغيير أسماء المدارس وفرض اللغة التركية بعد حظر الكردية بشكل كامل والعربية في بعض المناطق، وكان لافتاً تسمية المركز الثقافي قرية “مريمين” في عفرين باسم “تنزيلة” والدة الرئيس التركي، كما فرضت على الأهالي تعليم أبنائهم اللغة التركية والاعتماد على المناهج التركية بدلاً عن المناهج السورية، فيما وزعت على الطلبة شهادات تحمل العلم التركي وكتابات باللغة التركية، وافتتحت فروعا لجامعاتها ونقاط البريد والمحاكم التركية والمراكز الدينية على الطريقة العثمانية التي تدعو للرئيس التركي وجيشه بالتوسع والمزيد من الاحتلال.
وبدأت مؤخراً بوادر إنشاء جامعات تركية للسوريين نحو تعميق أكثر لعمليات التتريك، وأزالت الاستخبارات التركية أبراج الاتصالات السورية واستبدلتها بالتركية، وفرضت التعامل بالعملة التركية بدلاً عن العملة السورية، كما شكلت هياكل محلية عسكرية واستخباراتية تتخذ من “العمل المدني” كواجهة لها وربطتها بشكل مباشر مع الولايات التركية القريبة كولاية هاتاي– اسكندرون التي عادة ما تفرض على تلك الهياكل والمجالس المحلية إيداع ميزانيتها في البنوك التركية، وكذلك أرشفة أوراقها الرسمية لدى الولايات التركية.
يوجد على الأراضي السورية انطلاقاً من جرابلس وصولاً إلى عفرين وفي تل أبيض ورأس العين نحو 900 نقطة عسكرية واستخباراتية – أمنية تركية، تتولى تلك النقاط تنظيم العمليات الاستخباراتية وتوجيهها في باقي الأراضي السورية، كما تقوم بتجنيد السوريين لصالحها وإرسالهم لتنفيذ العمليات الإرهابية.
أما الآثار السورية، فلم تتعرض في تاريخها للنهب والتدمير كما هو الحال اليوم في ظل الاحتلال التركي ففي عفرين لوحدها تم نهب وتدمير 41 موقع أثري ومزار. كما ربطت تركيا الاقتصاد في تلك المنطقة بعملتها وأسواقها. فمع سرقة زيتون عفرين الذي وصل إلى أسواق أوروبا بقيمة نحو 100 مليون يورو بعد حرمان أصحابه الحقيقيين منه، لم تجد تركيا حرجاً في فرض نوعية المحاصيل التي يجب على المزارع السوري زراعتها في المناطق المحتلة تبعاً لاحتياجات الأتراك وليس السوريين.
أما الميليشيات التابعة لها، فهي تعتبر الذراع القاتل لمعاقبة كل من يرفض تلك الانتهاكات، وهي كانت ترفع العلمين، علم الانتداب الفرنسي والعلم التركي فوق مقراتها وكذلك على كتف عناصرها، إلا أنها اكتفت في الفترة الأخيرة بالعلم التركي فقط، كما بالغت في إطلاق تسميات تركية على نفسها كمسمى “أشبال أرطغرل” و”محمد الفاتح” و”السلطان مراد” و”لواء سمرقند” و”السلطان عبدالحميد”، وأطلقت أسماء تركية على دوراتها التدريبية وبعض عملياتها.
يساعد تركيا في تنفيذ خططها بعض السوريين المستفيدين منها، وعلى الرغم من أن تلك الاجراءات لا تستهدف المناطق الكردية فقط، بل حتى مناطق عربية لا أكراد فيها كإعزاز وجرابلس أو حتى إدلب، إلا أنهم عادة ما يتحججون بالصراع الكردي – التركي للدعاية لتركيا في تتريك الشمال السوري والتبرير لها أكثر من تركيا نفسها، وفي الوقت الذي يطالب فيه الأتراك بطرد السوريين الهاربين من الحرب من بلادهم ويطلقون حملات كحملة “أيها السوريون.. اخرجوا من بلادنا”، تدعوا تلك الفئة الضالة والمضللة من ما يسمى “الجيش الوطني السوري” تركيا إلى احتلال المزيد من الأراضي السورية في شرق الفرات(!)، وكأنها لم تستفد من تجاربها الفاشلة عندما ربطت مصيرها بالمدرعات التركية في إدلب أو حلب.