قضيت خمس سنوات بالعراق أثناءَ الحرب الأمريكية هناك. ويعتقدُ كثير من المحللين اليساريين أن الأمريكيين دمروا نظام صدام حسين من أجل النفط، إلَّا أنني أعلم من خلال تجربتي المباشرة أن النفط لم يكن السبب. ومع ذلك، فإنه في عام 2019 يظهر النفط باعتباره السبب وراء استمرار الأمريكيين داخل سوريا. ويبدو القرار الأمريكي غريباً بالنظر إلى أن الحقول النفطية الواقعة شرق سوريا تعتبر صغيرة نسبياً، بجانب أن النفط السوري عالي الكبريت لا يجذب سوى سعر زهيد في السوق العالمية. ويدور التبرير الأمريكي حول فكرة أن واشنطن ترغب في حماية الحقول النفطية من السقوط في يد تنظيم «داعش».
ومع ذلك، نجد أن هناك وحدات مدرعة داخل القوات الأمريكية لم نعاينْها من قبل قط داخل سوريا، وهناك أيضاً وحدات مدفعية. والطبيعي أن الوحدات المدرعة ووحدات المدفعية لا تشكلان الأسلحة المثلى في مواجهة عناصر عصابات مسلحة مثل «داعش». بدلاً عن ذلك، يجري استخدام الوحدات المدرعة والمدفعية ضد جيش آخر. وبالفعل نجد أن وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر صرح في 28 أكتوبر (تشرين الأول)، بأن المهمة الأمريكية لا تسعى لحماية الحقول النفطية من السقوط في أيدي «داعش» فحسب، وإنما كذلك الحيلولة دون وقوعها في أيدي الجيش السوري وحلفائه الروس.
ولا يعتبر هذا أمراً جديداً تماماً، إذ إنه في فبراير (شباط) 2018، دمرت القوات الجوية الأمريكية قافلة تابعة للحكومة السورية تضم جنوداً سوريين ومرتزقة روسيا حاولوا السيطرة على مصنع «كونوكو» للغاز قرب دير الزور. وجدير بالذكر هنا أن شركة «فاغنر» الروسية التي يعد مالكها من حلفاء الكرملين، لديها تعاقد مع الحكومة السورية لإعادة بناء حقول النفط، ومن المفترض أن تحصل «فاغنر» على حصة بقيمة 25 في المائة من الإنتاج.
من جهتهم، يبدو الأمريكيون عاقدي العزم على الحصول على تنازلات سياسية من الحكومة السورية، عبر إعاقة سيطرة الحكومة على عائدات النفط. ويعتقد مسؤولون أمركيون وكثير من الخبراء أن هذه الضغوط ستجبر الأسد على تقديم تنازلات سياسية كبرى، إما في إطار المفاوضات الدائرة تحت رعاية الأمم المتحدة حول الدستور السوري، وإما في صورة تنازلات للأكراد السوريين حول السماح لهم ببناء منطقة حكم ذاتي.
في الوقت ذاته، ستوفر السيطرة الأمريكية على حقول النفط أموالاً لـ«قوات سوريا الديمقراطية» كي تتمكن من دفع رواتب جنودها، وإعالة مراكز الاحتجاز التي يوجد بها آلاف من سجناء «داعش» وأسرهم. من ناحيته، لا يرغب الرئيس دونالد ترمب في تحمل تكاليف الحرب في شرق سوريا، ولا يرغب العسكريون والدبلوماسيون الأمريكيون في الرحيل عن سوريا. وخلصوا في النهاية إلى إبقاء واشنطن سيطرتها على الحقول النفطية، بحيث لا تضطر إلى تحمل تكاليف «قوات سوريا الديمقراطية» بنفسها. بذلك، يتضح أن العائدات النفطية لن تذهب إلى خزينة واشنطن، وإنما إلى مظلوم عبدي ومقاتلي «قوات سوريا الديمقراطية» التابعين له، والذين تقودهم «وحدات حماية الشعب» الكردية السورية.
والآن، من أعطى الأمريكيين حق اتخاذ هذا القرار بخصوص النفط السوري؟ تبعاً لما ينص عليه القانون الدولي، فإن السيادة تمتد إلى الموارد الطبيعية للبلاد. وعليه، فإن دمشق، وليست واشنطن، هي صاحبة القرار القانوني في هذا الشأن.
في الوقت ذاته، تسوق إدارة ترمب مبرراً قانونياً في ظل القانون الأمريكي قابلاً للمناقشة. كانت القوات الأمريكية قد دخلت سوريا في ظل قرار من الكونغرس بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) يسمح باتخاذ عمل عسكري ضد تنظيم «القاعدة»، وقال الرئيس السابق باراك أوباما إن «القاعدة» تمخضت عن «داعش». وسيكون من الصعب على إدارة ترمب استغلال قرار من الكونغرس بخصوص «القاعدة» لتبرير حماية الحقول النفطية من سيطرة القوات السورية والروسية. وإذا كان المبرر القانوني قابلاً للنقاش، فإن الجانب السياسي يبدو أكثر وضوحاً.
المعروف أن «قوات سوريا الديمقراطية» والأكراد السوريين يحظون بدعم قوي داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري. وقليل من أعضاء الكونغرس قد يشكو من سيطرة إدارة ترمب على الحقول النفطية من لصالح الأكراد و«قوات سوريا الديمقراطية». ولن يتغير الدعم من جانب الكونغرس للسياسة الأمريكية الجديدة في شرق سوريا، إلا إذا سقط عدد لافت من الضحايا الأمريكيين في خضم العملية العسكرية الجديدة. جدير بالذكر أنه منذ عام 2014 حتى الآن، سقط ثمانية جنود وموظفين أميركيين فقط قتلى في شرق سوريا، بالتالي فإن الشعب الأميركي لا يعير الحرب اهتماماً، ومن الممكن أن يستمر دور القوات الأمريكية فيها.
وتعتمد هذه الخطة الأمريكية على الحكومة السورية، وحلفائها الروس والإيرانيين، وليس مقتل كثير من الأمريكيين. وبطبيعة الحال، ستحاول هذه الأطراف المعادية لواشنطن تكبيدها خسائر كبيرة، وسيعمدون في خضم ذلك إلى استغلال تكتيكات غير تقليدية مثل هجمات باستخدام «درون»، وسيارات مفخخة، وزرع عبوات ناسفة على جوانب الطرق ضد القوافل الأميركية.
فيما مضى، شهدنا اندلاع مظاهرات داخل قرى عربية في دير الزور ضد تهريب «قوات سوريا الديمقراطية» النفط. والمؤكد أن «داعش» سيسعى لاستغلال هذه التوترات وصورة أمريكا كطرف مستغل للنفط العربي. ويمكن أن نتوقع أن تحاول الاستخبارات السورية خلال الأسابيع والشهور استغلال التوترات بين «قوات سوريا الديمقراطية» وقيادتها الكردية والقرى والمدن العربية. ومن المحتمل كذلك أن تشجع الاستخبارات السورية من جديد متطرفين أمثال «داعش» على مهاجمة قوات أمريكية، مثلما فعلت مع «القاعدة» في العراق بين عامي 2004 و2010.
في النهاية، ربما يخدم الاحتلال الأمريكي لحقول النفط «داعش»، دون أن يسهم في استخلاص تنازلات سياسية من الأسد، الذي يبدو شخصاً صبوراً، وبمقدوره الانتظار حتى رحيل الأمريكيين عن سوريا عاجلاً أم آجلاً. وعلى ما يبدو، تتحرك واشنطن من سياسة فاشلة إلى أخرى داخل سوريا.
-السفير الأميركي الأسبق في دمشق: روبرت فورد
- نقلا من «الشرق الأوسط»