تسعى أنقرة لإعادة صياغة قواعد الاتفاق الذي أبرمتها مع الإدارة الأميركية بخصوص الحزام الأمني على الحدود السورية، وذلك بعد أن قامت بتشكيل الآلية اللازمة لذلك. ومن ثم تقوم بين الحين والآخر بإشهار بطاقات الابتزاز في وجه جهات معينة، ومنها تهديد أنقرة المستمر لأوروبا بفتح الأبواب على مصراعيها أمام اللاجئين، وتهديدها للولايات المتحدة باحتلال منطقة الإدارة الكردية في شمال سوريا، المعروفة أيضاً باسم “روج آفا”. والغريب أنه في الوقت الذي تسعى فيه تركيا لاحتلال “روج آفا”، نشهد جميعًا أن تنظيم “داعش” في كل من العراق وسوريا يستعيد عافيته من جديد.
ولا شك أن تدخل أنقرة في المنطقة، إن لم يتسبب في غضب الإدارة الأميركية، سيؤدي على أقل تقدير إلى غضب مجلس الشيوخ والرأي العام الأميركي. ومن الممكن على إثر ذلك أن تصبح أنقرة بين ليلة وضحاها أمام ظروف أصعب من حظر الأسلحة الذي فرض عليها عام 1974. والأكثر سوءًا من ذلك هو أن هذه التطورات ستمهد الطريق أيضًا أمام انهيار كامل للاقتصاد الذي يترنح منذ فترة.
ومن الواضح للجميع أن إدارة “روج آفا” غير راضية عن سيطرة أنقرة على مزيد من المساحات بالمنطقة، لذلك فإن هذه الإدارة على استعداد كامل لعقد صفقة سيئة مع نظام بشار الأسد. وهذا ما كشف عنه، نهاية الأسبوع الماضي، بوضوح مظلوم كوباني، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، وذلك في حديث له مع محطة “سي إن إن” الأميركية. ومن المؤكد أن تطورا كهذا يعني انتهاء الولايات المتحدة على الساحة السورية، وانفتاحها على إيران. كل هذه التطورات قمنا بمناقشتها مع الكاتب والصحفي التركي، فهمي طاش تكين، الذي يقول:
“أردوغان لا يمكنه التفكير في الحرب دون مكاسب. لذلك قام بتطوير استراتيجية تستهدف الأكراد حتى يتسنى له الإبقاء على اللعبة كما هي رغم فشله الذريع في سوريا. كما أن إصراره على إقامة منطقة آمنة أو عازلة، يقوم على أساس تصور التهديد الذي يتبناه بين الحين والآخر. أضف إلى ذلك مشروع إعادة اللاجئين. كلها أمور تعكس مدى شيطانية هذا الفكر.
فلا شك أن ملف اللاجئين الذي لم يدار كما ينبغي، تستغله أنقرة بشكل خادع في مسعى منها لإزالة حالة الانزعاج الموجودة لدى الرأي العام التركي. وهو نوع من التكتيك من شأنه زيادة الضغوط على الولايات المتحدة الأميركية، ونوع من الابتزاز لسد الدروب أمام أوروبا. كما أن هذا الملف يعتبر بمثابة قبلة الحياة بالنسبة لقطاع الإنشاءات الذي انهار تمامًا.
لقد أخرسوا أوروبا من خلال ابتزازها باللاجئين، وتمكنوا من تحويل هذا التهديد إلى أموال، والآن يريدون تحويل حلقة الربح هذه إلى عجلة عملاقة. فهذه هي حساباتهم. لكن الأمر ليس بهذه البساطة. فالمملكة العربية السعودية وقطر اللذان أعلنوا بالأمس أنهم سيمولون العقارات، ليسوا اليوم في نفس المكان. فضلا عن أن هؤلاء لا يمكنهم القيام بعمل أي شيء مطلقًا رغمًا عن الولايات المتحدة الأميركية.
كما أن مقترح إعادة اللاجئين وتسكينهم في المنطقة العازلة، ما هو إلا سعي من أنقرة له أبعاد تكمن في رغبتها إقحام مؤسسة الإسكان التركية في المنطقة الآمنة. والحاصل أننا أمام نهج استعماري يتم بموجب خطوات أحادية الجانب على أراضي دولة أخرى.
فسوريا وإن كان الوضع بها صعب لها أصحاب، وتتمتع بالسيادة التي يجب أن يحترمها الجميع. كما أن هذا تدخل من تركيا في التركيبة الجغرافية للمنطقة، إذ تسعى لتمييع المناطق الكردية بالعرب والتركمان.
وهذا الأمر يحمل في طياته احتمالية وقوع صراعات في المنطقة. فهل يا ترى ستغض الولايات المتحدة الأميركية الطرف عن هذا في منطقة أعلنت من قبل أنها ضمن نطاق نفوذها؟ فربما من الممكن أن تعطي أوروبا تركيا الشجاعة اللازمة لتنفيذ ما تريد، وذلك بفعل خوفها من مسألة اللاجئين. لكن عند التطبيق العملي لهذه السياسات سيكون للأوروبيين الكثير من المآخذ والمحاذير.
ولا ننسى أن البعد الروسي لا يمكن إغفاله في خضم كل هذه التطورات. فمقترح الحل الروسي مع إنشاء شريط أمني من شأنه إزالة المخاوف التركية، وذلك في إطار اتفاق أضنة التركية الذي يعود إلى تاريخ 1998. إذ سبق وأن قدمت موسكو إلى أنقرة اقتراحاً بتفعيل ذلك الاتفاق، ويسمح للجيش التركي بالتوغل شمالي سوريا بعمق 5 كيلومترات.
لكن شرط موسكو الأساسي لهذا هو مصافحة أنقرة لدمشق. والمسألة المثيرة للجدل في اتفاق أضنة هي أنه اتفاق غير معترف به دوليًا. كما أنه يقوم على مادة مجهولة بشأن ما إذا كان من حق أنقرة القيام بعملية لمكافحة الإرهاب في هذا المنطقة أم لا. إذ لا يوجد في مذكرة الاتفاق أية مادة بشأن تنفيذ عمليات في منطقة آمنة بمساحة 5 كم.
فالحديث إذا يدور عن مادة سرية. وسوريا لا تقبل بهذا. فضلا عن أن هناك إطار تم رسمه بموجب اتفاق ثنائي بين الجانبين بعد سنوات. وكان هذا الاتفاق هو الذي أكمل العملية القانونية. فلا أصحاب هذه الدولة ولا الجهات الفاعلة بالمنطقة ولا الجهات الدولية لهم الحق في إصدار تصريح لمؤسسة الإسكان التركية للعمل هناك.
ومن الجدير بالذكر أن أردوغان بالنسبة لمخططاته في سوريا، لا زال يعلق آمالًا كبيرة على الحوارات الشخصية التي يجريها مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وإن قيام وزير التجارة الأميركي بقضاء خمسة أيام بتركيا مؤخرًا، وحديثهم عن وضعهم هدفًا لرفع حجم التبادل التجاري إلى 100 مليار دولار، وتأكيد اتجاههم لتأسيس عدد من اللجان المشتركة للتعاون في مجالات مختلفة، ما هي إلا أمور لا تعكس سوى ضرب من التفاؤل الزائف. إذ أن هذا لا يعني أن الحواجز الأميركية المرتبطة بسوريا وبمنظومة الدفاع الصاروخي الروسية (إس-400) قد دمرت، فضغط العقوبات المحتملة ضد أنقرة لايزال مستمرًا في أروقة الكونغرس”.
المصدر
-------------------------------
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا عن طريق إرسال كتاباتكم عبر البريد : vdcnsy@gmail.com
ملاحظاتك: اقترح تصحيحاً - وثق بنفسك - قاعدة بيانات