في مارس (آذار) 2018، سيطر الجيش التركي وفصائل سورية معارضة على مدينة عفرين الكردية، ومنذ ذلك الحين تحدثت منظمات دولية وحقوقية عن تردّي الأوضاع الأمنية والإنسانية في هذا الجزء من سوريا.
وعلى أثر العملية العسكرية، نزح ما يزيد على نصف سكان المدينة البالغ عددهم قبل الحملة نحو نصف مليون شخص، وتمركزوا في مخيمات بمناطق الشهباء في ريف حلب الشمالي على بُعد عشرات الكيلومترات من منازلهم، ليحلّ مكانهم نازحون من بلدات الغوطة الشرقية لدمشق ومدن حمص وحماة وحلب، وغيرها من سكان المناطق التي استعادتها القوات النظامية من الفصائل المعارضة، وأجبروا على ترك مناطقهم وفق اتفاق مسار «آستانة» والدول الضامنة، روسيا وتركيا وإيران.
وعلى مدى الأيام الماضية، تواصلت «الشرق الأوسط» مع سكان مدنيين ونشطاء ومعارضين من داخل عفرين، إلى جانب شخصيات تركت مسقط رأسها، وقصدت دول الجوار، أو لجأت إلى دول أوروبية، لكنهم يحتفظون بيوميات حول طبيعة الحياة في ظل انتشار الجيش التركي وفصائل موالية له، كما تحدثت مع نازحين من حمص وغوطة دمشق لسماع وجهة نظرهم، وقامت بحجب الأسماء وبعض تفاصيل الحياة وأعادت نشرها، حفاظاً على سلامة الأشخاص الذين شاركوا في التحقيق.
- تغيير التركيبة السكانية
«كل شيء في عفرين تغير بعد 18 مارس (آذار) 2018… فرضوا واقعاً ولم يعد بإمكاني التكلم بلغتي الكردية، لأنها كافية لتكون تهمة»، بهذه الكلمات بدأت فتاة شابة من داخل مدينة عفرين تسرد وقائع حياتها الجديدة بعد دخول الجيش التركي والفصائل، وعند الحديث معها عبر خدمة تطبيق «واتس آب»، كان بالإمكان سماع أصوات طلقات رصاص وصيحات مرتفعة، وعند سؤالها عما يجري بالقرب منها، قالت: «مشاهد الاشتباكات أصبحت جزءاً من حياتنا، والفلتان الأمني سيد الموقف، زادت حالات السرقة وعمليات الخطف والقتل، التي تركت خوفاً وأثراً عميقاً في نفوسنا».
وأطلقت تركيا والفصائل عملية «غصن الزيتون» في 18 يناير (كانون الثاني) 2018، وسيطرت على مدينة عفرين في مارس (آذار) بالعام نفسه، وانتزعت مركز المدينة ونواحيها من قبضة «وحدات حماية الشعب» الكردية، ويدور حديث بين مَن تبقى من أكراد عفرين، حول ما سموه بـ«تتريك» المنطقة ومحاولات تركيا الحثيثة لطمس هوية سكانها الكردية، وتغيير تركيبتها الديمغرافية وتغيير أسماء الساحات العامة والشوارع والقرى، وإطلاق أسماء تركية وعربية عليها، كما وقعت حوادث طالت المواقع الثقافية والأثرية والدينية الخاصة بالأكراد، بالإضافة إلى إجبار السكان على حمل بطاقات هوية تركية، والتعامل بالليرة التركية.
وذكرت الفتاة أنّ غالبية سكان المدينة حُرموا من الاحتفال بعيد نوروز الكردي، الذي يصادف 21 مارس (آذار) من كل عام، بسبب الإجراءات والقيود التي تفرضها الجماعات المسلحة في مسقط رأسها، وأضافت قائلة: «من طقوس العيد ارتداء الأزياء الفلكلورية، التي تتميز بألوانها الزاهية وتكون فضفاضة، لكن لم تجرؤ أي فتاة على الخروج من منزلها، وفضّلت البقاء على أن تسمع كلاماً بذيئاً وسيئاً بحقها».
وبات بالإمكان مشاهدة السيارات العسكرية والجنود الأتراك وهم يتسوقون في شوارع المدينة، وبحسب شهادات من داخل عفرين، فإن كلّ ركن فيها يذكرهم بجارتهم تركيا، من مستشفيات بتمويل تركي إلى المدارس التي أصبحت تدرّس اللغة التركية إلى جانب العربية، كما كتبت اللوحات المرفوعة على واجهات المؤسسات والدوائر الرسمية بالتركية والعربية، وصولاً إلى انتشار شركات الكهرباء والبريد والصيرفة التركية، في إشارة للهيمنة التركية على تلك البقعة الجغرافية من سوريا.
واعتبر مواطن كردي يتحدر من عفرين، فضَّل البقاء في مدينته على النزوح واللجوء، أن انتشار الأعلام التركية ورايات الفصائل «تشعرك بأنك غريب عن أرضك وبلدك؛ فمنذ تاريخ دخولها اختلفت الوجوه والمظاهر والنفوس، ولم يبقَ شيء على حاله، لم يبقَ شيء يدلّك على أنك بعفرين». وكتب رسالة بخط يده يقول فيها: «كل ما يجري ويحدث بعفرين بعلم الجنود الأتراك وأمام أعينهم، حيث تم تقديم آلاف الشكاوى ضد ممارسات الفصائل إلى نقاط المراقبة التركية والمجلس المحلي، دون جدوى».
ويروي ناشط مدني شاب يتحدر من ناحية راجو بعفرين، وكان يقيم في مدينة غازي عنتاب التركية، أن اتصالاً في أغسطس (آب)، العام الماضي، غيّر مسار حياته، وأجبره على السفر عبر طرق التهريب، وركوب البحر، حيث أن تلقى اتصالاً من شعبة الأجانب بعنتاب تطلب منه فيه مراجعة الدائرة، وعند ذهابه كان ينتظره محققان يتساءلان عن رأيه في دخول الجيش التركي لمدينته (عفرين)، وقال: «رغم كل محاولاتي بالتهرُّب من الإجابة المباشرة، فإنهم طلبوا مني تجهيز حقائبي للعودة إلى بلدي بشكل طوعي، لأنها أصبحت آمنة».
لكنه اختار اللجوء إلى أوروبا على البقاء في تركيا، أو العودة إلى عفرين التي باتت خاضعة للسلطة التركية، ولا يعلم ما إذا كان سيعود مرة ثانية إلى بلده أو البقاء في المهجر، ليزيد: «ما يحدث بعفرين ترك أثراً بالغاً في نفسي، وتسبب لي ولعائلتي بانتكاسة حقيقية وإعادة صياغة العلاقة مع إخوتنا العرب، لا أقول الجميع، ولكن على الأقل مَن احتلوا مدينتي».
- حديقة خلفية لتركيا
منذ بداية النزاع في ربيع 2011، مدَّت تركيا يد العون للمعارضة المسلحة، وباتت اليوم تُعد أبرز داعميها، وعلى مرّ السنوات تطور الوجود التركي في سوريا، وبات نفوذها يمتد من مدينة جرابلس في أقصى ريف حلب الشمالي الشرقي، مروراً بمدينة أعزاز شمال حلب، وصولاً إلى عفرين، وتنتشر في هذا الجيب الملاصق لحدودها الجنوبية شرطة محلية مدعومة ومدرّبة من تركيا، ووجدت المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة التركية، خلال العام الماضي، موطئ قدم لها في هذه المنطقة الآمنة نسبياً ضمن مناطق خفض التصعيد بالشمال السوري، وتحولت إلى حديقة خلفية استثمارية لتركيا، حيث تحولت أشجار الزيتون التي يتجاوز عددها في عفرين 18 مليون شجرة إلى مصدر دخل لفصائل معارضة، وهذه السهول الخصبة وجبالها هي الأرض التي تنتج أحد أفضل أنواع زيت الزيتون في سوريا، وكانت تمثل 70 في المائة من دخل أبناء المنطقة ذات الغالبية الكردية.
واتهم ناشط إعلامي من مدينة عفرين، نزح قبل عام وأربعة أشهر وقصد مدينة كوباني، عناصر مسلحة أقدمت على إحراق 300 شجرة لوز كان يمتلكها والده وعائلته، وبحسب خبراء اقتصاديين ونشطاء حقوقيين وثَّقوا الأشجار التي تعرضت للقطع والحرق، فقد وصل عددها لأكثر من 120 ألف شجرة. ويقول الناشط: «كل مواطن من عفرين مرتبط بشجرته كارتباطه بالحياة، اليوم نشاهد ونسمع كيف يقطعون ويحرقون مئات الأشجار… لماذا كل هذه الجرائم؟! احتلوا أرضنا ويحرقون ممتلكاتنا».
في حين يمنع الجنود الأتراك إخراج الزيت من المنطقة، مما أدى إلى تدهور الأسعار، إلى درجة أن سعر صفيحة الزيت (16 لتراً) يبلغ اليوم في عفرين 15 ألف ليرة سورية، ما يعادل نحو 25 دولاراً، بينما يتجاوز سعرها الضعف في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية والإدارة الذاتية الكردية، وبحسب مصادر كردية، تُقدر خسائر الموسم بما يقارب 105 ملايين دولار.
واتهمت المعارضة التركية الجماعات المسلحة في عفرين بتهريب 50 ألف طن من زيت الزيتون من عفرين إلى الأسواق التركية، الأمر الذي أثر على الإنتاج المحلي في بلدهم، ولم يكتفِ المسلحون بتهريب زيت الزيتون، بل قاموا بتدمير حقول الزيتون أيضاً.
ويقول مزارع من ناحية بلبلة إن الإدارات التي شكَّلَتها تركيا في عفرين وبلداتها «فرضت اقتطاع نسبة تتراوح ما بين 10 و20 في المائة من محصول الفلاحين من زيت الزيتون، مقابل السماح لهم بقطف حقولهم التي يملكونها».
فيما فرضت كل جماعة مسلحة ما تشاء من إتاوات على المزارعين، وفي أحيان كثيرة تقوم بسرقة المحصول من الفلاحين بقوة السلاح، ولم تكتفِ بذلك، حيث قام مسلحون بقطع آلاف أشجار الزيتون وبيعها حطباً في تركيا بهدف الكسب المادي.
وعبر مزارع ثانٍ من إحدى قرى راجو، ويمتلك مئات من أشجار العنب والزيتون، بأن موسم بيع أوراق العنب عادة في كل عام كان مربحاً نظراً لخير الشجرة، إذ كان يُباع سعر الكيلو الواحد بـ1500 ليرة (ما يعادل 3 دولارات أميركية) لكن الفصائل المسيطرة على القرية طلبت منه بيع المحصول بمبلغ 300 ليرة، نحو نصف دولار، لصالح عناصر فصيل يتبع «فيلق الشام»، واليوم ينتظر ذلك المزارع بيع موسع العنب والفاكهة الصيفية، ليقول: «لكن مع وجود هؤلاء الغرباء سيكون كباقي المواسم… خسارة بخسارة».
وتعمل مجموعة من النشطاء والمحامين على توثيق حالات الانتهاكات التي تحدث في عفرين، ويكون ضحاياها مدنيين أبرياء، ومن بين هؤلاء معارض كردي يقيم في مدينة حلب الخاضعة للنظام الحاكم بسوريا، وفي حديثه قال: «طالهم الخطف والقتل العمد والعشوائي، ليصل إلى درجة المعاملة المهينة والتعذيب، يُضاف إليها سرقة الممتلكات ومصادرة المحاصيل الزراعية والاستيلاء بالقوة على جزءٍ كبير منها».
- 1100 حالة خطف
سجلت منظمات سورية حقوقية ودولية إنسانية استمرار عمليات الاختطاف والاختفاء القسري والاعتقالات، وتصدر بيانات وتقارير عن هذه التجاوزات، وتابع السياسي الكردي حديثه برسالة على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» يقول فيها: «هناك صعوبة بالغة في إجراء إحصاءات دقيقة للانتهاكات الجارية بعفرين، نظراً للحصار المفروض على المنطقة، وخوف ضحايا الانتهاكات والجرائم من الحديث عنها تفادياً لعقوبات أشد»، وبحسب تقديرات المجموعة سجلت أكثر من خمسة آلاف حالة خطف واعتقال «منها أكثر من 1100 مجهولي المصير حتى تاريخه، ووثقنا قائمة بأسماء 67 ضحايا مدنيين قُتلوا بظروف مختلفة، تحت التعذيب أو بالرصاص الحي، أما الآخرون، فأُفرج عنهم مقابل رشى مادية».
وقبل معركة عفرين، طالبت تركيا مراراً بانسحاب «وحدات حماية الشعب» من المناطق الواقعة شرق وغرب نهر الفرات، حيث تخشى من قيام حكم ذاتي قد يحصلون عليه في بلد يشهد نزاعاً دموياً منذ 8 سنوات، الأمر الذي سيدفع أبناء جلدتهم (أكراد تركيا) للمطالبة بالمثل.
وقال شخص يسكن في مركز المدينة تعرض للاعتقال، وبقي شهرين بالسجن: «اعتقلوني ونقلوني بين عدة سجون، تركزت جميع أسئلتهم على أنشطتي في وسائل التواصل الاجتماعي، واتهموني بالانتماء إلى (الوحدات) و(حزب الاتحاد)، وكتابة تقارير عن الانتهاكات التي ترتكبها الفصائل».
وأردف قائلاً: «كان السجَّان والمحققون يضربون ويعذبون المعتقلين من باب اللهو والتسلية ليس إلا، وفي الليل كانت صرخات الرجال تتردد أصداؤها في أرجاء المبنى، وأطلقوا سراحي دون أن أمثل أمام قاضٍ»، وأكد أنه كان قد فقد الأمل بالخروج، مضيفاً: «كنت أشعر أنني لن أخرج من هذا المكان أبداً».
وشكلت مجموعة من الإعلاميين والنشطاء يتحدرون من عفرين، غرفاً مغلقة عبر صفحات ومنصات التواصل الاجتماعي، للتواصل وتوثيق الانتهاكات الحاصلة في مسقط رأسهم، من خلال نشرات الأخبار ومقاطع الفيديو وصور فوتوغرافية انتشرت كالنار في الهشيم، بداية من السيطرة على عفرين، لدى أبرز الجهات الإعلامية المحلية، ومنها إلى الإعلام الغربي والعالمي، وصفحة Afrin media center، وغلافها أشجار الزيتون التي تشتهر بها مدينة عفرين.
تروي «أدمن» الصفحة، وتتحدر من عفرين، أنها خرجت أواخر 2016 بعد أحكام «جبهة النصرة» سابقاً (هيئة تحرير الشام) قبضتها على ريف حلب الشمالي ومدينة إدلب المتاخمة لحدود مدينتها، التي كانت تشهد اشتباكات متقطعة بين الحين والآخر، الأمر الذي دفعها للجوء إلى دولة أوروبية، وهي مقيمة هناك.
وبحسب منشورات الصفحة، تأتي عمليات الخطف في قمة الهرم بدافع الفدية، ونشر أخبار متعلقة بالاعتقال والقتل والحوادث اليومية، وتقول الناشطة: «ننشر جميع حالات الانتهاكات، ونوثّق بنسبة 70 في المائة مما يحدث في عفرين، والكثير من الحالات لا يمكن نشرها، إما بسبب الخوف من أصحابها أو حرصاً على سلامة من كان ضحية»، وذكرت «أدمن الصفحة» أنّ هذه الحالات مؤرشَفة على شكل ملفات مدعومة بالشهادات والصورة والفيديوهات، وتُرسَل بشكل دوري إلى المنظمات الإنسانية والمراكز الحقوقية والدولية، وتضيف: «بعد احتلال عفرين زاد خطاب الكراهية والحقد بين أهل المدينة والعسكر من جهة، والوافدين الجدّد من جهة ثانية»، ووصفت المشهد بـ«المؤلم والقاتم»، وعندما «تشاهد غرباء يستوطنون أرضك وممتلكاتك، فمن المستحيل أن أفكر بالعودة، لأنني لا أريد العيش مع ذلك الظلام».
- مهجرون ونازحون
بعد اقتحام عفرين قامت الفصائل بكسر تمثال كاوى الحداد، ويُعدّ رمز الحرية وشعلة عيد نوروز القومي الكردي، الذي كان يتصدر ميدان راجو، شمال غربي عفرين، وحل محله مجسَّم ملون بالعلَمَين التركي والسوري الحر، وتغير اسمها ليصبح «دوار صلاح الدين»، وكُتِب باللغتين التركية والعربية.
وتداول نشطاء أكراد قبل أيام على منصات التواصل الاجتماعي صورة لهوية سيدة كردية من عفرين تدعى «كردستان حسن»، مرفقة بصورة ثانية لبطاقة التعريف التي منحها المجلس المحلي في عفرين، وقد قاموا بتغيير اسم السيدة من «كردستان» إلى «كلستان» كون السجلات الشخصية في عفرين مرتبطة بالحكومة التركيّة التي تحظر تداول «كردستان» ضمن سجلاتها الرسمية، كما ظهرت «كردستان» في صورة هويتها الشخصية الجديدة مرتدية الحِجاب، رغم أنّها لم تكن قد ارتدته في صورتها الموجودة على الهوية السورية.
بدورها أكدت أدمن صفحة Afrin media center أن حالة كردستان حسن ليست الوحيدة التي استبدال اسمها على بطاقة التعريف، «فكثير من الحالات لا تصل إلى الإعلام نتيجة التعتيم الكبير المفروض على الداخل، والترهيب الممارَس بحقّ أهالي المنطقة من الكرد بهدف دفعهم للهرب واستكمال مخطّط التغيير الديمغرافي».
وتوزّعت فصائل الجيش الوطني المنتشرة في عفرين على أربعة فيالق، وهي: «الجيش الوطني»، و«فيلق الشام»، و«فيلق الرحمن»، أما «فيلق السلطان مراد»، فاستوعب جميع الفصائل، بمن فيها عناصر «جيش الإسلام» المهجرون من الغوطة الشرقية.
وبعد انهيار مناطق خفض التصعيد في الغوطة الشرقية في أبريل (نيسان) 2018، وريف حمص الشمالي، وتهجير الفصائل إلى ريف حلب الشمالي، وجدت تركيا الفرصة سانحة لتوطين المهجّرين في منطقة عفرين بحجّة أنهم طُرِدوا من بيوتهم، وتعارضت شهادات المهجّرين، إذ قال بعضهم إنهم تلقّوا معاملة حسنة في عفرين من قبل القوات التركية والجيش الوطني، فيما قال آخرون إنهم عومِلوا بشكل سيّئ في منطقة الباب من أجل تشجيعهم على الانتقال إلى عفرين، وقد بلغ عدد المهجّرين والنازحين إلى عفرين نحو 88 ألفاً.
ويقول ناشط كردي يتحدر من عفرين، وهو لاجئ اليوم في إقليم كردستان العراق، إنّ الجهات السورية المعارضة، التي كانت تعمل على فضح انتهاكات النظام وممارساته خلال الأعوام الماضية، «هي حالياً وبكل بساطة تتستر على الجرائم التي تقع يومياً في عفرين، وتحولت إلى واجهة إعلامية للفصائل المسلحة التي ترتكب تلك الفظائع، وتضفي شرعية للوجود التركي هناك». وتابع: «أحد أصدقائي مهجّر بعفرين، شرح لي أن ما يحصل هنا يحدث في غير مناطق سوريا… أشعر وكأنها محاولة طمس الحقائق، وتوطين أناس من خارج المنطقة».
وأوضح نازح من مدينة حمص أنه، وبعد وصوله إلى عفرين أواخر يونيو (حزيران) 2018، كان المسلحون قد نهبوا وسرقوا وأساءوا إلى معظم الأهالي بحجة أن كل كردي متهم بانتسابه لحزب الاتحاد الديمقراطي أو «الوحدات الكردية» التي كانت تسيطر سابقاً على عفرين، ليقول: «أغلب العناصر جاءت من خلفيات إسلامية متشدّدة وانضموا للجيش الوطني، عندما كانوا يشاهدون فتاة أو سيدة تلبس (سبور) وألواناً زاهية، فإنهم يفرغون كل أمراضهم وحقدهم عليها».
ورفض النازح السكن في منزل مهجور أو الاقتراب من الممتلكات الخاصة عائدة لأهل عفرين، مشيراً: «شرحت وضعي لمواطن من عفرين وعرف أني من حمص ورحب بي وأجَّر لي منزله بسعر مقبول، وتجاوز الحساسية التي ارتكبتها الفصائل المسلحة».
أما نازح ثانٍ من الغوطة الشرقية، وبعد وصوله إلى ناحية بلبلة، قرر البحث عن صاحب المنزل الذي سكن فيه، لأن الفصيل المسلح المسيطر على تلك المنطقة قام بانتهاكات، وقال: «بحثت حتى وجدت رقم هاتفه واتصلت به، قلتُ: لن أسكن في المنزل دون موافقتك، وسأدفع إيجاراً، أو أي شيء يضمن حقوقه، وقلت له إن هذه الأملاك بأمانتنا». واتهم النازح جماعات مسلحة بأنها ارتكبت كثيراً من الانتهاكات، من بينها «الفرقة 55»، و«الجبهة الشامية»، و«فيلق الشام»، و«السلطان مراد»، و«أحرار الشرقية»، والأخيرة، بحسب سكان عفرين ونازحين سكنوا فيها، ارتكبت جرائم وفظائع خطيرة.
- كُتل خرسانية
عمدت الجماعات إلى مصادرة الممتلكات والمحال التجارية في عفرين، وقال نازحون من عفرين يقطنون في مخيمات الشهباء المجاورة، إن أقاربهم وجيرانهم ممن بقوا أخبروهم بأن منازلهم قد أصبحت مقارّ عسكرية للجماعات المسلحة الموالية لتركيا، أو سكناً تعيش فيه عائلات نازحة.
وقالت سيدة عفرينية تسكن في مخيم العودة بناحية شيراوا في منطقة الشهباء، إن جماعة «فيلق الشام» صادرت منزلها بمنطقة جنديرس: «قال لي جاري إن منزلي تمت مصادرته، وأرسل إليَّ صوراً يظهر فيها بوضوح اسم (فيلق الشام) مكتوباً على جدار مدخل البيت»، وأثناء الحديث معها عبر الهاتف، كان بالإمكان سماع صوت بكائها لشدة حزنها، لتضيف: «المسلحون قطعوا أشجار الزيتون وعبثوا بأشجار الورد في منزلي، أخشى أن أموت هنا بعيدة عن منزلي وأهلي، ويبقى هؤلاء الغرباء يعبثون بممتلكاتنا».
وينفذ الجيش التركي منذ أشهر عمليات هدم وجرف واسعة النطاق لمنازل وأملاك المدنيين في قرى جلبل وكيمار، بهدف استكمال أعمال بناء جدار إسمنتي لعزل مدينة عفرين عن محطيها السوري، وبحسب سكان المنطقة انتهت من بناء أكثر من ألف متر بالقرب من قرية كيمار، وتشمل الخطة بناء نحو 70 كيلومتراً من الجدار بكتل إسمنتية خرسانية بالمنطقة داخل الأراضي السورية، تمتد من جبل سمعان وقرى مريمين شمالاً إلى كيمار جنوباً، مروراً ببلدة جلبل في الجنوب الغربي، وربطها بأبراج مراقبة مع نقاط عسكرية عائدة للجيش التركي.
أما مزارع آخر من عفرين يتحدر من قرية دير مشمش التابعة لناحية شيراوا، التي باتت اليوم خاضعة لسيطرة فصائل «درع الزيتون»، فيشرح كيف نزح قبل عام وأربعة أشهر رفقة أسرته بعد دخول الجيش التركي، قاصداً أقرباءه الساكنين في قرية صوغانكه المواجهة لمسقط رأسه، وقال إنه يذهب يومياً إلى الحدود الفاصلة بين قريته ومكان إقامته الجديد، ليقول: «على بُعد أمتار أشاهد بحرقة أشجار الزيتون الخضراء، يخالجني شعور حزن عميق، فبسبب تركيا وفصائلها وهذه الحرب لا أستطيع الذهاب إلى حقلي وممتلكاتي».
كمال شيخو/ الشرق الاوسط