ضريح سليمان شاه .. رفات الجد المزيف تضع قدم الأتراك في سورية

في ليلة 21 فبراير من العام 2015، عبرت كتيبة تركية مكونة من 572 جنديا يستقلون 39 دبابة و57 مركبة، الحدود السورية عبر مدينة “كوباني”، بدعوى نقل ضريح سليمان شاه الذي تزعم تركيا أنه الجد الأعلى لكل السلاطين العثمانليين، قالت إن تنظيم الدولة الإسلامية يهدد بتفجيره.

وبعد عملية عسكرية يسيرة أطلق عليها اسم “عملية شاه فرات”، تمكنت المجموعة القتالية التركية من دخول قرية كاراكوزاك والواقعة على بعد 10 كيلومترات شمال غرب مدينة صرين السورية حيث يوجد الضريح، ثم قامت بنقل رفات الجد المزعوم إلى قرية “أشمة”، وهي قرية سورية أخرى، ولكنها خاضعة للنفوذ التركي منذ اندلاع الحرب الأهلية في دمشق.

كان إصرار الحكومة التركية برئاسة رجب إردوغان على نقل الضريح إلى أرض سورية من جديد، رغم أنه كان في مقدورها، أن تنقله إلى تركيا حيث الأمان بعيدا عن تهديدات تنظيم الدولة هو أغرب ما في الأمر، وهو ما أكد وقتها أن الهدف الحقيقي من الضغط على وجود “أثر عثمانلي” في الأرض السورية، هو استخدامه كمبرر في كل المشروعات السياسية لإردوغان تجاه البلد العربي.

فالرئيس التركي الحالي، والذي يمتلك خططا مستقبلية غير خافية لابتلاع الشمال السوري في إطار ما سماه قبلا بـ”خطة استعادة الخارطة التركية ما قبل معاهدة لوزان 1923″، يعلم أن إخراج ضريح سليمان شاه من سورية ينهي كافة الروابط التركية بالدولة الجارة. وأن بقاءه من شأنه أن يوفر حجة لا تتوقف لأي عدوان عسكري تركي في المستقبل.

ومن الطريف الإقرار بأن ضريح جد العثمانليين المزعوم، ومنذ ظهوره لأول مرة على يد السلطان عبد الحميد الثاني في أواخر القرن الـ19 كان يحمل نفس الغرض الذي يلتف حوله إردوغان الآن، وهو تجذير الوجود التركي في شمال سورية، وخلق سبب دائم للتدخل فيه.

سليمان المزيف
ففي كتابه الكبير عن التاريخ العثمانلي، والمعروف بـ”تاريخ جودت”، أورد أحمد جودت باشا، أحد أكبر رجال النخبة العثمانلية في القرن التاسع عشر رواية تتعلق بتأسيس الدولة العثمانلية قدر لها الانتشار على ما عداها لأسباب سياسية ، كما كانت الأساس الذي ظهر عليه ضريح سليمان شاه.

في تلك الرواية، يقول “جودت”: إن الأمير عثمان الأول، مؤسس الدولة العثمانلية، هو ابن “أرطغرل بن سليمان شاه”، وأن سليمان ذاك كان رئيسا لقبيلة قايي، التي دخلت مع غيرها إلى آسيا الصغرى (الأناضول لاحقا) عقب انتصار السلطان ألب أرسلان السلجوقي على البيزنطيين في معركة ملاذكرد الشهيرة العام 1071، وقد مات سليمان غرقا وهو يحاول عبور نهر الفرات بالقرب من قلعة جعبر شمال سورية، ودفن هناك.

كانت تلك هي المرة الأولى التي يظهر فيها جد عثمان المؤسس بهذا الاسم: سليمان شاه، فعبر كافة المصادر العثمانلية المكتوبة بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر، مثل تاريخ “أحمدي”، وتاريخ “أنوري”، وتاريخ “محمد باشا القرمانلي”، وتاريخ سلجوق نامه لـ”يازجي أوغلو”، وتاريخ “شكر الله”، وتاريخ “إدريس البدليسي”. يظهر جد عثمان باسم “كندز ألب”، ويأتي اسمه الكامل على النحو التالي: عثمان بن أرطغرل بن كندز ألب بن قايا ألب بن كوك ألب بن صارقوق ألب بن قايي ألب.

ولما كان أحمد جودت باشا لم يذكر مصدرا لقصة الجد سليمان شاه، فإن ذلك كان يعني أن الباشا قد اختلق قصة وهمية حول أصول الدولة العثمانلية التي كان يخدمها.

وقد كان لـ”جودت” ما يبرر إقدامه على مثل ذلك الكذب، إذ كان ابنا مخلصا للنخبة العثمانلية المثقفة في عصر التنظيمات، والتي سعت إلى تحديث الإمبراطورية العثمانلية سياسيا وثقافيا، وكذلك إلى كتابة تاريخ “أكثر إشراقا” للسلالة العثمانلية في مقابل الكتابات الاستشراقية التي كانت أوروبا تنتجها حول التاريخ العثمانلي في ذلك الوقت، وتتناوله بالكثير من الانتقاص، خاصة على مستوى الأصول المجهولة للعثمانليين الأوائل.

هكذا، أباح جودت باشا لنفسه أن ينسب آل عثمان إلى شخص يحمل لقبا ملوكيا هو “شاه” مثل سليمان، بل ومنحه خاتمة تراجيدية في قعر الفرات فوق ذلك، ثم اختلق قصة أخرى تتعلق بإنقاذ أرطغرل بن سليمان للسلطان السلجوقي علاء الدين كيقباذ في حربه الصعبة ضد جلال الدين خوارزمشاه، وبناء على ذلك الإنقاذ، أصبح أرطغرل أميرا على مقاطعة حدودية على التخوم البيزنطية أضحت النواة الأولى للسلطنة العثمانلية.

تورك مزار
لاقت رواية سليمان شاه قبولا عند السلطان عبد الحميد الثاني فور ظهورها، ولما كانت قلعة جعبر على الضفة الغربية من نهر الفرات، معروفة بوجود قبر لأمير تركي بالقرب منها يدعى سليمان شاه. فقد أمر عبد الحميد ببناء ضريح فوق ذلك القبر، عرف منذ ذلك الوقت باسم “تورك مزار”، أي الضريح التركي، وزعم أن الشخص المدفون فيه هو نفسه سليمان جد عثمان المؤسس، دون أدنى إثبات علمي لتلك القرابة التي أقيمت على خرافة جودت باشا الطازجة.

بعيدا عن عبد الحميد الذي حول الأسطورة إلى بناء متجسد، فإن الرواية الخاصة بـ “سليمان شاه” تم تبنيها كذلك من قِبل المؤرخين العثمانليين من ذوي النزعة القومية داخل جمعية الاتحاد والترقي. وسيكون لذلك أثره البالغ في مسيرة ضريح سليمان شاه.

اتفاقية أنقرة 1921
بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى وخسارتهم بلاد الشام تبعا لذلك، دخل الضريح على خط الصراع للمرة الأولى بعد أن أصبح في حوزة الفرنسيين الذين حصلوا على حكم سورية كمكافأة من حلفائهم البريطانيين.

في 20 أكتوبر من العام 1920، وقعت الجمعية الوطنية الكبرى برئاسة مصطفى كمال أتاتورك، اتفاقا في أنقرة مع الحكومة الفرنسية لإنهاء الصراع العسكري بين الطرفين في جنوب الأناضول.

وفي المعاهدة التي عرفت بـ”اتفاقية أنقرة”، رسمت المادة الثامنة حدودا جديدة تفصل بين المناطق السورية الخاضعة للنفوذ الفرنسي، وبين حدود الدولة التركية المزمع إنشاؤها حديثا، وأقرت تلك الحدود على أساس الأغلبية العرقية فيها، وبالتالي أصبح شمال سورية كله صاحب الأغلبية العربية، وقلعة جعبر ضمنه، جزءا من الانتداب الفرنسي.

ولكن المادة التاسعة من اتفاقية أنقرة رغم ذلك، تطرقت إلى قضية ضريح سليمان شاه الذي أصبح بهذه الصورة خارجا عن الحدود التركية، وضغط أعضاء الجمعية الوطنية على ضرورة استمرار الإدارة التركية له بصفته رمزا للهوية القومية التركية.

نصت المادة التاسعة على التالي: “قبر سليمان شاه، جد عثمان مؤسس السلالة العثمانلية(المقبرة المعروفة باسم تورك مزاري)، والواقعة في قلعة جعبر يجب أن تظل في ملكية تركيا، التي يمكن لها أن تعين حرسا عليها، كما يمكنها أن ترفع العلم التركي فوقها”.

وعندما وقعت معاهدة لوزان في 24 يوليو من العام 1924، أقرت الحدود التركية مع مناطق الانتداب الفرنسي في سورية طبقا لاتفاق أنقرة، وهو ما كان يعني بقاء الضريح داخل الحدود السورية، مع استمرار إشراف الإدارة التركية عليه، ليصبح للأتراك موطئ قدم في الشمال السوري نفسه الذي حاول أتاتورك من خلال الميثاق الملي 1920 أن يجعله جزءا من تركيا.

بقي الضريح على حاله حتى 30 مايو 1938، حين أقامت الحكومة التركية وحدة شرطية “جندرمة” حول القبر لحمايته، ثم قامت بزحزحة القبر في العام التالي إلى موضع جديد بجوار نقطة الشرطة.

وفي العام 1956، وقع اتفاق بين الطرفين التركي والسوري ينص على احترام الأضرحة التاريخية في البلدين، وكان قبر سليمان شاه هو المعني الأساسي بالاتفاق.

من “جعبر” إلى “كاراكوزاك”
وفي العام 1973، طالبت الحكومة السورية نظيرتها في أنقرة بنقل ضريح سليمان من مكانه في قلعة جعبر بسبب سد “طبقة” الذي تبنيه سورية فوق نهر الفرات ويهدد بإغراق المنطقة، وبعد مفاوضات شاقة، نقل الضريح إلى قرية كاراكوزاك الواقعة على الضفة الشرقية من نهر الفرات، على بعد 123 كيلو مترا من حلب السورية، و 92 كيلو مترا من شانلي أورفة التركية، وكان المهندس التركي أونال دمير أرسلان من وزارة الأشغال العامة التركية، هو من تولى مهمة بناء الضريح الجديد، وأتمه في 4 شهور.

إردوغان وتأجيج الأسطورة
وصول إردوغان إلى سدة الحكم في أنقرة نوفمبر من العام 2002 مثل بداية مرحلة بالغة الخطورة في قضية الضريح الملفق، بعد أن أعلن رئيس الوزراء وقتها عن اعتناق فلسفة جديدة سميت بـ”العثمانلية الجديدة”، سعت إلى إعادة فرض النفوذ التركي فوق مناطق التمدد الجغرافي القديمة للعثمانليين في العالم العربي والبلقان.

استخدم إردوغان في إطار تلك الفلسفة تمثلات التاريخ العثمانلي في الأقطار العربية للتدليل على وجود تاريخي للأتراك في العالم العربي يخول لـ”رجب” النفاذ إلى ذلك العالم، ثم حكم أجزاء بعينها يعتبرها “حقا” لـتركيا.

ولا شك أن قبر سليمان شاه، بالهالة الرومانسية الفاقعة التي أحاطت به كان الأداة الأهم التي ضغط عليها بقوة في مساعيه تلك، وقد ضرب في أثناء ذلك بعرض الحائط كل الاكتشافات الحديثة التي تنفي أن يكون جد آل عثمان اسمه سليمان شاه من الأصل،خاصة المسكوكات التي ضربت في أيام الأمير عثمان وكتب عليها “عثمان بن أرطغرل بن كندز ألب”.

كما أن إردوغان تجاهل الدراسات الأكاديمية التي ظهرت في تركيا نفسها للتشكيك في صحة أن يكون سليمان شاه الذي في القبر هو جد أعلى للسلالة العثمانلية، وعلى رأس تلك الدراسات ما كتبه المؤرخ التركي “يلماز أوزتونا” في الجزء الأول من كتابه “تاريخ الدولة العثمانية”، الذي يقول فيه: “إن قصة جعبر ما زالت قصة لا يمكن القطع بصحتها ومن المحتمل أن تكون برمتها قصة ملفقة”.

كما يعود “أوزتونا” إلى الروايات العثمانلية الأصلية التي ترفع نسب عثمان الأول إلى “كندز ألب”، وليس سليمان شاه، ويقول بخصوص القبر الذي تحرسه تركيا منذ عشرينيات القرن الماضي:

“أما بالنسبة للرواية الكلاسيكية التي تقول بغرق سليمان شاه والد أرطغرل بك بحصانه أثناء عبوره الفرات قرب قلعة جعبر، فإنه لا يمكن القطع بها لأن هذا المكان ليس بعيدا عن المكان الذي سقط فيه فاتح الأناضول سليمان شاه بن قتلمش في العام 1086”.

بالتالي، فإن أوزتونا يرجح أن الرفات التي بنى فوقه عبد الحميد الثاني الضريح لأول مرة كان للأمير السلجوقي الكبير “سليمان شاه بن قتلمش”، ابن أخي السلطان ألب أرسلان، وهذا أكثر منطقية، لأن استمرار التعرف على صاحب هوية القبر في قلعة جعبر طوال كل تلك القرون، يدل على أن صاحبه كان رجلا ملء السمع والبصر، لا زعيم قبيلة تركية مغمور لا توجد عنه كلمة واحدة في أي مصدر أو حولية تناولت تاريخ سلاجقة الروم، أو بلاد الشام في العصر السلجوقي.

ويقول أوزتونا عن النسب الذي صاغه جودت باشا، دون أن يصرح باسمه : “والأرجح أن سليمان شاه هو ذكرى باقية من اسم فاتح الأناضول ومؤسس الدولة التركية ومن اسم أول سلطان لها، وأن التفكير في هذا الاسم قد نشأ ليربط بني سلجوق ببني عثمان، خاصة أن بني عثمان قد ظهروا على مسرح التاريخ مدعين أنهم الخلفاء الشرعيون لبني سلجوق”.

لم يكن كل ذلك يعني بالنسبة لإردوغان شيئا، وأصر على أن يستخدم القبر الكاذب في أغراض سياسية صرفة، خاصة بعد انغماسه في دعم الفصائل المسلحة التي رفعت السلاح في وجه الدولة السورية منذ العام 2011، وإظهاره نوايا لضم الشمال السوري إلى تركيا بحجة حماية القبر التاريخي من تهديدات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام.

في 5 أغسطس من العام 2012، وأثناء الحرب السورية الأهلية، قال إردوغان: “قبر سليمان شاه والأراضي الواقعة حوله ملك لنا. ونحن لن نقبل بأي تصرف غير مقبول ضد الضريح”.

ففي 20 مارس 2014، هددت الدولة الإسلامية في العراق والشام بالهجوم على الضريح إذا لم تنسحب القوات التركية منها في غضون 3 أيام، ورغم أن هجوم داعش لم يتم، فإن تركيا زادت عدد الحراس فيها إلى 38 جنديا.

وفي 27 مارس من العام 2014، ظهر تسريب على اليوتيوب _ تم حجبه لاحقا _ قيل إنه لاجتماع عقد داخل مكتب وزير الخارجية أحمد داود أوغلو في 13 مارس من نفس العام، حضره كل من سكرتير وزارة الخارجية “فريدون سنيرلي أوغلو”، و”هاكان فيدان” رئيس الاستخبارات التركية MIT، وفي التسريب، يقول داود أوغلو: “رئيس الوزراء قال إن أي هجوم محتمل على قبر سليمان شاه بمثابة فرصة لنا”، وأجاب فيدان: “يمكنني أن أجهز هجوما على قبر سليمان شاه إذا لزم الأمر”.

ومنذ الربع الأخير من العام 2014، بدأت الأحداث على الأرض تبرهن على جدية الخطة التركية الواردة في التسريب، ففي 30 سبتمبر 2014، قال “بولنت أرينتش” نائب رئيس الوزراء التركي: إن تنظيم الدولة يتقدم باتجاه قبر سليمان شاه.

ثم نشر موقع “يني شفق” المحسوب على النظام التركي خبرا بدون مصدر يفيد بأن 1100 مقاتل من داعش يحاصرون قبر سليمان شاه، وفي 2 أكتوبر شرع البرلمان التركي قانونا يتيح للجيش التركي استخدام القوة ضد داعش، وهو ما تم تبريره وقتها بأنه بسبب المخاطر الأمنية التي يواجهها الضريح.

وفي بداية العام 2015، قامت الحكومة التركية برفع حجم الحراسة الشرفية للقبر إلى 38 جنديا، ثم أذيعت أنباء جديدة من داخل تركيا ودون مصدر قوي تتحدث عن أن مقاتلي تنظيم الدولة يحاصرون الضريح، وهو ما نتج عنه عملية شاه فرات التي سبقت الإشارة إليها.

كانت كل التفاصيل الآنفة تؤكد على أن الأمر برمته مسرحية لتبرير كل التحركات العسكرية التركية ضد سورية في المستقبل، وليس أدل على ذلك من أن نائب رئيس الوزراء فكري إيشيك قال في 7 يونيو 2018 إن قبر سليمان شاه ستتم إعادته مرة أخرى إلى مكانه الأساسي في الشمال السوري عندما تصبح الظروف ملائمة.

كما أنه في 1 يناير 2019، قام خلوصي أكار وزير الدفاع التركي بزيارة قبر سليمان شاه في موضعه الجديد بقرية أشمة، وأجرى حديثا مع إردوغان عبر الفيديو كونفرانس، أكد الرئيس التركي فيه مدى أهمية القبر بالنسبة للأتراك.

المصدر: موقع عثمنلي

-------------------------------

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا عن طريق إرسال كتاباتكم عبر البريد : vdcnsy@gmail.com

ملاحظاتك: اقترح تصحيحاً - وثق بنفسك - قاعدة بيانات

تابعنا : تويتر - تلغرام - فيسبوك