عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إنسحاب قوات بلاده من سوريا عبر تغريدته الشهيرة آواخر العام الماضي كانت تركيا أولى المرحبين به ,حتى وصل بها الأمر أن أوزعت للفصائل السورية الإسلامية الموالية لها بالتحضير لمهاجمة منبج ,حيث بقيت تلك الفصائل لعدة أيام تتوعد باقتحام المدينة إلى أن أنجلى الموقف بوضوح أكثر فيما بعد .وتتراجع تلك الفصائل من جديد إلى مواقعها السابقة في مناطق ما يسمى بـ “درع الفرات”.
المواقف الأمريكية التي جاءت بعد تلك التغريدة كانت أكثر توازناً وأقل ارتياحاً لتركيا وصلت زروتها في قرار وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون ) قبل أيام عن تخصيص 550 مليون دولار لدعم قوات سوريا الديموقراطية ضمن ميزانيتها للعام القادم، في استمرارٍ لسياسة واشنطن في سوريا حيث كانت قد خصصت المبلغ ذاته العام الماضي . هذا القرار شكل صدمة لأنقرة التي كانت متلهفة لإجتياح شرق الفرات.
وفي هذا الإطار ,ولمعرفة مدلولات هذا القرار الأمريكي أجرينا هذه الحوار مع الباحث (يوسف الخالد) الخبير في السياسات الأمريكية في المنطقة.
ما هي الدلالات التي تقرؤنها من الخطة التي أعلن- عنها البنتاغون حول تمويل قسد ضمن ميزانية 2020 ؟ .
-إن أردنا التعرف على الدلالات , فيمكن حصرها بعد تعريفها بالآتي : المؤشرات تكشف عن أبعاد يمكن وصفها بالبعد الإستراتيجي للسياسة الأمريكية تجاه سوريا , والتي كثيرا ما تم وصفها بأنها تفتقد لأبعاد إستراتيجية , وعلى أنها تعامل مع الحدث الموجود , بغية إحتوائه وإدارته , ومن ثم السيطرة عليه , وليس التعامل معه بغرض التغلب عليه أو إيجاد حل ينهيه كحدث له تأثيرات على مجريات ساحة السياسة في المنطقة والعالم .هذا المؤشر يعني أن أمريكا في الجوهر من مواقفها , التي لا يمكن التعرف عليها من خلال الظاهر , أي التصريحات الرسمية التي تلتزم الأعراف الدبلوماسية , والتي قد نجدها تتناقض تماما مع مواقف المؤسسات الديمقراطية الأمريكية , وكذلك مؤسسات ومراكز القرار , وهي جهات فاعلة ومؤثرة وتعتبر المقرر الحقيقي للسياسات الإستراتيجية لبلد كما أمريكا ، فالمطلع على آلية سير هذه المؤسسات, والمتتبع للسياسة الأمريكية في كل المراحل التي شهد فيها العالم صراعات متعددة في مختلف الأصقاع , نجد أن السلطات التنفيذية ورغم إمتلاكها لحيز كبير من السلطات , كانت في الواقع تقوم بتنفيذ تلك الجوانب التي كان قد تم رسمها كخطوط عريضة , لا بل إن هذه الخطوط العريضة , كانت تتضمن تفاصيل , تتطرق إلى جزئيات متوقعة , قد تصادفها هذه الإستراتيجيات المرسومة , أي بعبارة مختصرة , سلطات الرئاسة تنفذ ما هو مرسوم لها عمليا , مهما إختلف الرؤساء,سيما إذا علمنا أن في أمريكا هناك مؤسسة معروفة بأنها ترسم للسياسة الإستراتيجية , لفترات لا تقل عن ثلاثين سنة , وهي معرضة دائما للتعديلات وإدخال التغيرات على تلك الإستراتيجية . وفق المستجدات الطارئة , وكلها شكلية ولا تنال من الصميم منها . وعليه فإن تعامل أمريكا مع الحدث السوري , يجري في إطار التعامل مع خصوم أمريكا الحاليين والأعداء المستقبليين في كل العالم , وسياساتهم المتبعة تجاه سوريا تحددها تلك الإستراتيجية الطويلة الأمد , وما كانت ردود الأفعال وبالتالي تراجعات ترامب عن مواقف أعلنها حول إنسحاب أمريكا , إلا إثبات عملي لقوة تلك المؤسسات , وعودة أو إعادة سلطات الرئاسة إلى تلك الإستراتيجية , خلاصة القول , إن تخصيص هذا الرقم ضمن الميزانية , هو قرار متعلق بالإستراتيجية , ولا علاقة لها بأي تكتيك , أو مواقف تكتيكية مؤقتة .
-كيف تقرؤن مستقبل شمال وشرق الفرات إضافة إلى مناطق تسيطر عليها تركيا شمال غرب سوريا ؟
هذا السؤال يعيدنا إلى لقاء كان قد تم بين لافروف وكيري , في فيينا ويمكن العودة إليه في المواقع الألكترونية حيث سنجد بأن ذاك الإتفاق كان حول نقاط عشر , بينما المعلن عنه كان تسعة بنود , أي أن بندا واحدا بقي سريا ولم يتم الإعلان عنه , الأحداث اللاحقة كشفت عن هذا البند , حين صرحت أمريكا عشية وأثناء غزو تركيا وبموافقة روسية وصمت أمريكي , كان يتضمن تقسيما للنفوذ على شرقي وغربي الفرات , ومنبج كانت إستثناء في هذا المجال , حيث نجد أحد قيادات قسد يصرح بعدها , أن دخول قسد إلى منبج كان بناء على أتفاق ثلاثي , امريكي – تركي- قسد , تم في قاعدة إنجرلك التركية , وكلنا نعلم أن منبج والطبقة تقعان في غرب الفرات أي خارج حدود أتفاق لافروف كيري . ومحصور بين تركيا وقسد , وهذا هو السبب الذي دفع بالأتراك , لمطالبة الأمريكيين بتنفيذ الاتفاق بينهم , مع الأخذ بعين الاعتبار . كل المباحثات التي جرت حول منبج وما نتج عن ذلك من مواقف متضاربة . لازالت مستمرة حتى اليوم . سنفهم ما جرى في مثلث كركميش ( جرابلس ) .
وإعزاز والباب وإحتلال عفرين ضمن هذا المشهد , حيث هذه المناطق كانت أمريكا قد تخلت عنها لروسيا , مقابل وجودها في شرق الفرات . وهذا ما مكن الروس من المقايضة ضمن حدود غرب الفرات فقط تحرير هذا المناطق بما فيها عفرين , يحتاج إلى توافق أمريكي روسي , يتم فيه تحجيم نفوذ الدول الإقليمية , وفي المقدمة منها إيران وتركيا , وهذا لن يكون إلا إذا تم الإتفاق حول حل شامل للأزمة السورية وهذا حاليا غير متوفر لوجود مشروعين , سوتشي ومخرجاتها , وجنيف وبنود اللجنة السباعية المصغرة حول سوريا . حيث الحل الشامل يتراوح في مكانه بين تجاذب الأطراف حول هذين الموقفين . المستندين أصلا إلى إتفاق لافروف وكيري .
- ما هو مصير إدلب في ظل التصعيد الذي يمارسه النظام , وهل تقرأ عملية عسكرية تشارك فيها تركيا لإستعادة المدينة مع إمكانية عقد صفقة قد تنتهي بتركيا إلى الحصول على مناطق في ريف حلب مقابل تسليم إدلب وأقصد بذلك تل رفعت ومنبج وأيضا ربما شرق الفرات .
الواضح جلي تماما هنا , أن كل المؤشرات تدل على أن إتفاقيات أستانا وسوتشي , باتت كلها في عنق زجاجة , بعد وصول الحدث إلى مرحلة , باتت تتطلب الحسم في المواقف النهائية , تجاه قضايا كان قد تم الإتفاق عليها ضمن خطوط عريضة , مع ترك التفاصيل والجزئيات إلى تطورات الأحداث في المستقبل . مثل عمليات المقايضة التي تمت وإنتهت بتسليم كل تلك المناطق التي كانت تابعة للمعارضة إلى روسيا والنظام , مقابل السماح لتركيا بإحتلال مثلث كركميش وإعزاز والباب أولا , ولاحقا عفرين , فجميعها كانت وفق أتفاقية فيينا وبندها السري , روسيا التي تخلت عنها لتركيا مقابل إتمام المقايضة ,, طبعا إيران كان لها حصة في التواجد في تلك المناطق التي إنسحبت منها المعارضة . و أما الصمت الأمريكي على ما حدث في عفرين , فكانت أسبابه تلك الإتفاقية المذكورة , ثم توافق روسي إسرائيلي , سوري وأردني , وتركي , حول جنوب سوريا .
وهذا ما انتج صمتا دوليا . حيث لا قرار بإسقاط النظام دون بديل , هو الموجه للسياسات الغربية حتى الآن , فإدلب الآن تضع الأطراف أمام خيارات , روسيا المستعجلة إلى تحقيق نصر سياسي لن يتحقق دون إدخال إدلب تحت سيطرة النظام , تركيا تطلب المقابل , لكن النظام وروسيا ليس لديهما ما تعطيه لتركيا كما في الإتفاقيات السابقة , شرقي الفرات هو ضمن النفوذ الأمريكي , كذلك منبج والطبقة , قرار الكونغرس , القاضي بعدم الإنسحاب من سوريا , وكذلك تقرير الميزانية لمبلغ مليار ومائة الف لعامي 2019 و2020 , هو إمتداد لمبلغ 550 ألف تم تسليمه لقسد في 2018 , كان رسالة واضحة لروسيا بأن لافائدة لها من تحريض تركيا على سياسة أمريكا في سوريا , لأنها باقية وطالما هي باقية , فلا مجال للحديث عن إعادة الإعمار دون القبول بالشروط الأمريكية , ونعلم أن الروس أعلنوا حين أنعقدت اللجنة السباعية المصغرة حول سوريا عن مقرراتها , بأنهم مستعدون وجاهزون للعمل على النقاش حولها , وقد ضمت اللجنة كل من إستراتيجية تلرسون وجيفري في بنود سبعة عكست مضمون الإستراتيجيتين بمواد تم التعبير عنها بصيغة دبلوماسية , بينت فيها بقاء أمريكا والتحالف لحماية حدود جيران سوريا وتشكيل حرس حدود , ودعم شركائها قسد على الأرض وربط إعادة بناء سوريا بتغيير للنظام في فترة يتم الإتفاق عليها , يكون لشركائها في قسد دور مهم في بناء سوريا وعقدت عدة إجتماعات لها في الأردن وجنيف وكلها أكدت على هذه الإستراتيجية الأمريكية التي تطورت لاحقا إلى التصريح بدعم وحدات حماية الشعب والمرأة بالإسم بعد أن كانت تعبر عنهما من خلال دعم قسد , الأمر الذي دفع روسيا إلى تحريك النظام للضغط على تركيا , وتحريك تركيا الهائجة أصلا للضغط على أمريكا للتراجع عن مواقفها في إدلب , من أجل تنفيذ الاجزاء التي كان قد تم تأجيلها وأهم تلك الجزئيات , تصفية جبهة تحرير الشام , وإنتزاع أسلحة كل الفصائل الأخرى والدفع بهم إلى التصالح مع النظام بكفالة روسية وتركية , ودفع أمريكا للإنسحاب من روج أفا وشرقي الفرات وشمال سوريا , لإستكمال العملية السياسية لصالح النظام ولمصالحها في سوريا . تركيا الآن في موقف صعب , وأمامها فترة سماح من روسيا تتعلق بالعملية الإنتخابية , حيث سنجد الموقف الروسي والإيراني والنظام يتصاعد ضد تركيا وربما يتطور إلى الطلب منها رسميا الإنسحاب من جميع المناطق التي إحتلتها , إن هي لم تنفذ تلك الأتفاقيات ولا سيما , القضاء على النصرة وحلفائها , أما شرقي الفرات , فهي تقع ضمن النفوذ الأمريكي , والتطورات كلها تشير , إلى أن وجودها طويل , ولن ينتهي قبل عقد من الزمن , وربما يطول أكثر حتى ولو توصلت الأطراف السورية إلى حل سياسي شامل . وهذا يطيح بكل تلك الآمال التي كانت تركيا تعقدها على غزو تلك المناطق نهائيا .
-كيف تقرأ المرحلة السياسية المقبلة في جنيف هل تعتقد أن قسد وجناحها السياسي سيشارك في ظل التغييب المستمر عن المفاوضاتهل تتوقع دعما سياسيا لقسد من قبل الأمريكان؟
أعتقد أن ما قررته اللجنة السباعية , ستكون هي الفاصل في كامل الحدث. سيما إذا علمنا بأن أهم مقرراتها كانت , بأن هناك طرفان أساسيان اليوم في الصراع السوري , النظام وقسد , هذان الطرفان سيتم دعوتهما حين تتفق روسيا وأمريكا على الحل , مع دعوة أشخاص وأفراد من المعارضة , وبالإسماء الشخصية دون أي أنتماء لأي هيئة أو جسم سياسي يمثلونه , والشرط لذلك هو قبولهم بهذه الترتيبة ـ وبباقي المواد الأخرى التي حددتها السباعية وهي القبول بالإدارة الذاتية , وسوريا لامركزية .
أما تركيا , فلا تزال إستراتيجية تلرسون والتي تم تعديلها من قبل جيفري ومضمونها حماية التحالف لشركائها على الأرض وجدول زمني لرحيل النظام وتشكيل تحالف من دول المنطقة بينها دول الخليج ومصر والأردن وإسرائيل ضد إيران قد تكون تركيا من بينها إن أرادت القبول بإستراتيجية أمريكا في المنطقة , وفي حال رفضها فستكون تركيا خارج هذا التحالف الذي سيسير كما تم الرسم له , سيما أن أمريكا تدرك جيدا صعوبة الموقف التركي , ومحدودية الخيار في موضوع إدلب , الذي لن يبق طويلا على ماهو عليه , لأن روسيا ستقرر الحسم هناك, لحسم كامل الوضع في سوريا ,وتركيا هي العقبة الوحيدة أمام روسيا من جهة,وأمريكا من جهة أخرى .اجرى الحوار : محمد حسن