في مواجهة النفوذ الأجنبي وعقوبات أميركية وأوروبية صارمة منذ بدء الحرب في سوريا العام 2011، تجد دمشق نفسها عاجزة عن النهوض بالاقتصاد بعد دمار البنى التحتية وقطاعات تدر أموالاً لا سيما النفط، أما المعارضة السورية، فبات صوتها خافتاً وقياداتها مشتتة.
ويسعى حلفاء دمشق الى إنهاض الاقتصاد السوري، خصوصا لتعويض أموال باهظة تكبدوها خلال الحرب. وتخطط كل من موسكو وطهران تحديداً لأن تكون لشركاتها حصة الأسد في إعادة الإعمار. ووقعت كل منهما مؤخراً اتفاقات ثنائية مع دمشق وعقوداً طويلة المدى في مجالات عدة أبرزها الطاقة والبناء والنفط والزراعة.
وحث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأوروبيين الصيف الماضي على المشاركة مالياً في إعادة الاعمار. وتنخرط موسكو في محادثات مع جهات دولية ودول خليجية في محاولة لتأمين الموارد اللازمة لذلك.
ويحتاج الرئيس السوري بشار الأسد الماء والقمح والنفط والغاز من مناطق شرق الفرات السوري التي تُسيطر على معظمها قوات سورية الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي، لكنّ “السياسة الأميركية تقوم على حرمانه من هذه الموارد ودفع اقتصاده إلى الانهيار”، وفق باحثين في مركز الأمن الأميركي الجديد.
وقال الأسد خلال استقباله مسؤولاً صينياً مؤخراً إنّ “الحرب على سوريا بدأت تأخذ شكلاً جديداً أساسه الحصار، والحرب الاقتصادية”.
وبعد ثماني سنوات من حرب طاحنة في سوريا، لم تعد مسألة إزاحة الرئيس بشار الأسد عن الحكم مطروحة في الوقت الحاضر، لكنّ بلاده تحولت الى حلبة منافسة بين قوى خارجية ذات مصالح متناقضة، في ظل حصار اقتصادي منهك.
وبينما يوشك تنظيم الدولة الإسلامية الذي برز في خضم نزاع مدمر بدأ بتظاهرات سلمية تطالب برحيل الأسد وتفرع الى حرب معقدة ودامية، على الانهيار، يدخل النزاع عامه التاسع مع حصيلة تخطت 360 ألف قتيل ودمار تقدر كلفته بـ400 مليار دولار، بينما لا يزال أكثر من ستة ملايين نازح داخل سوريا، غالبيتهم بلا مأوى، ونحو ستة ملايين لاجىء خارجها، لا تشجع الأمم المتحدة عودتهم راهناً.
وبعدما شكل الوضع الأمني هاجس السوريين لسنوات، باتت الهموم المعيشية والاقتصادية تثقل كاهلهم اليوم. ويضطرون للانتظار في طوابير للحصول على أسطوانة غاز، ويتذمرون من البطالة وتقنين الكهرباء، بينما ترزح الشريحة الأكبر منهم تحت خط الفقر، وفق الأمم المتحدة.
ويقول الباحث في مركز الأمن الأميركي الجديد نيكولاس هيراس لوكالة فرانس برس إن النزاع بات راهناً “أقل تعقيداً مع وجود عدد أقل من المجموعات المسلحة”. لكن في الوقت ذاته، أصبح “أكثر تعقيداً جراء وجود لاعبين أجانب فاعلين يسيطرون على مساحات واسعة داخل سوريا ومن غير المحتمل أن يغادروا قريباً”.
وتسيطر القوات الحكومية على أكثر من ستين في المئة من البلاد، بعد نكسات متلاحقة مُنيت بها المعارضة السورية. وتمّ ذلك بفضل دعم حليفتيها: إيران التي أرسلت منذ اندلاع النزاع قوات ومستشارين ومقاتلين شيعة من لبنان والعراق، وروسيا التي غيّر تدخلها العسكري منذ أواخر 2015 ميزان القوى ميدانياً لصالح دمشق. وتحتفظ موسكو بقواعد عسكرية وتسير دوريات في محافظات عدة.
ويقول الباحث والأستاذ في جامعة أوكلاهوما الأميركية جوشوا لانديس لفرانس برس “يتسم المشهد السوري بالانقسامات واليأس” مع وجود “أكثر من ثلاثين في المئة من البلاد محتلة من حكومات أجنبية قامت بتشكيل وتمويل ميليشيات محلية”.
ويقول لانديس “الاقتصاد هو التحدي الأبرز، بعدما أدى حسم الحرب الأهلية إلى تقوية أسوأ خصائص النظام من فساد وعنف وغياب سيادة القانون”. ويضيف “فوق ذلك كله، تفرض الولايات المتحدة واحدة من أشد أنظمة العقوبات على سوريا، من شأنها أن تواصل تعميق بؤس الناس”.
وأبرز المناطق التي لا تزال خارجة عن سيطرة النظام، محافظة إدلب (شمال غرب) التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) وتوجد فيها فصائل أخرى صغيرة. وهناك مناطق الإدارة الذاتية الكردية المدعومة أميركياً في شمال وشمال شرق سوريا، والغنية بالنفط والمياه والحقول الزراعية.
ورغم تكرار الأسد عزمه استعادة هذه المناطق، لكن ذلك لا يبدو ممكناً في الوقت الحالي. إذ يحمي اتفاق روسي تركي إدلب منذ سبتمبر، من هجوم لوحت به دمشق. بينما يحظى الأكراد بدعم دولي، لا سيما من واشنطن، كونهم رأس حربة في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية.
وتحتفظ تركيا بنقاط مراقبة في إدلب وتسيّر دوريات، كما تنشر قواتها في مدن حدودية عدة شمالاً كجرابلس وعفرين.
ويهدئ الوجود الأميركي اندفاعة أنقرة ضد المقاتلين الأكراد الذين تعدهم “إرهابيين” وتخشى تواصلهم مع المتمردين الأكراد على أرضها. كما يحول دون إقدام دمشق على أي خطوات عملية ضدهم.
وبعدما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب نهاية العام الماضي قراره سحب ألفي جندي من سوريا، ما أثار مخاوف الأكراد، عادت واشنطن وقررت إبقاء “قوة سلام” من مئتي جندي، ما يوحي، بحسب محللين، بأن انسحابها ليس بقريب.
ولكل من اللاعبين الدوليين في سوريا مصالح متناقضة.
ويشرح هيراس “يريد أردوغان أن ينتزع الأكراد من الحاضنة الأميركية ويفرض الأمن التركي على شمال وشرق سوريا. وترغب روسيا في تثبيت الأسد.. لحراسة قواعدها الآخذة في التوسع في سوريا (..) وعرض نفوذها” في المنطقة. وتريد إيران “بقاء الأسد حتى يتمكن الحرس الثوري من مواصلة استخدام سوريا كعمق استراتيجي لحزب الله في أي حرب مقبلة مع إسرائيل”.
ويقول هيراس “باتت المعارضة السورية، سواء في الميدان أم في صفوف المغتربين واللاجئين، خاضعة بالكامل للقوى الخارجية”.
الأسد يجد صعوبة في جني الغنائم بعد المكاسب العسكرية
قال الأسد لمناصرين في كلمة ألقاها الشهر الماضي ”علينا أولا ألا نعتقد خطأ كما حصل خلال العام الماضي أن الحرب انتهت. وأقول هذا الكلام ليس للمواطن فقط، أيضا للمسؤول“.
وقال ”نحن نحب بطبعنا أحيانا العنتريات… وكأن الحرب أصبحت من الماضي. ولدينا الرومانسية أحيانا أننا انتصرنا.
”كلا الحرب لم تنته“.
ومضى قائلا إن قواته ما زالت تخوض حروبا يتعين الخروج منها قبل الانتقال للنقطة الرئيسية التالية، ألا وهي ”الحصار“ الذي تفرضه دول أجنبية.
وقال في قاعة مؤتمرات مزدحمة بالحضور في العاصمة دمشق ”معركة الحصار هي معركة قائمة بحد ذاتها. هي معركة كر وفر تشبه المعارك العسكرية. خلال هذه الحرب كنا نربح معارك ونخسر معارك… الحصار بشكل عام يشتد لو قارناه بالسنوات الماضية“.
وتعكس التصريحات شتاء غير مريح في دمشق، هو الثامن منذ اندلاع الصراع بعد احتجاجات في 15 مارس آذار 2011. ومر عام أو نحو ذلك منذ آخر مرة سقطت فيها قذيفة مورتر على المدينة، لكن السوريين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة يشكون من نقص حاد في الوقود تلقي دمشق باللائمة فيه على عقوبات الغرب.
وتشير الجموع المصطفة للحصول على أسطوانات الغاز المدعومة من الدولة إلى صعوبات اقتصادية أوسع تواجهها الحكومة رغم الانتصارات العسكرية التي تحققت بمساعدة إيران وروسيا.
ورغم أن هذين الحليفين قدما قوة نيران كانت حاسمة في الحرب، فإنهما لم يقدما الكثير في مجال المساعدات لإعادة بناء المدن التي دمرتها حرب أودت بحياة مئات الآلاف وتسببت في نزوح نصف عدد سكان سوريا.
ولن يهم الغرب بالمساعدة دونما تسوية سياسية. غير أن الأسد لا يبدي استعدادا للتنازل بعدما ضيق الخناق على أعدائه وحصرهم في جيب بالشمال الغربي هو الآن قاب قوسين أو أدنى من القوات الحكومية.
كان الأسد قد استعاد مناطق كبيرة عام 2018 من ضمنها الغوطة الشرقية قرب دمشق في عمليات زحف مدعومة من روسيا.
لكنه لم يحقق مكاسب كبيرة منذ استرداد القنيطرة على الحدود مع هضبة الجولان المحتلة في يوليو تموز. ولعب وجود قوات أجنبية مناوئة على التراب السوري، تتمثل في تركيا في الشمال الغربي والولايات المتحدة في الشمال الشرقي وفي الشرق، دورا في عرقلة أي تقدم آخر.
وأثار قرار الرئيس دونالد ترامب في ديسمبر كانون الأول الماضي سحب كل القوات الأمريكية من سوريا إمكانية أن تستعيد دمشق المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد حيث تنتشر تلك القوات. لكن هذه الاحتمالية ضعفت إذ من المقرر الآن أن تبقى بعض القوات الأمريكية.
ورغم أنه بدا أن بعض خصومه العرب مستعدون لكسر الجليد الدبلوماسي مع الأسد قبل بضعة أشهر، كان للضغط الأمريكي دور في كبح حدوث تقارب أكبر. وانحسرت قوة الدفع لإعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية.
* الأسد يرى ”أربعة أنواع من الحروب“
قال ديفيد ليش الخبير في الشأن السوري ومؤلف كتاب (سوريا: سقوط آل الأسد) ”أتفق مع الأسد.. الحرب لم تنته. النظام لا يواجه أي خطر سقوط وشيك لكن التحديات بالغة سياسيا واقتصاديا“.
وهو يرى سوريا في مسارها الحالي أشبه بالسودان الذي يعاني أزمة وللدولة فيه سلطة محدودة وبه مناطق حكم ذاتي خارج قبضتها.
وقال ”السؤال هو هل بشار الأسد ومن حوله يدركون أن هذا هو مستقبلهم؟“.
وفي خطابه، قال الأسد ”ما زلنا نخوض أربعة أنواع من الحروب“ هي الحرب العسكرية و“الحصار“ الاقتصادي والحرب ضد الفساد وما وصفه بمعركة على وسائل التواصل الاجتماعي حيث قال إن أعداء سوريا يشنون حملة دعائية.
وفيما يتعلق بنقص الغاز وغيره من الإمدادات قال ”بما أننا نتحدث عن الحوار أريد أن أتطرق إلى الحوارات الأخيرة التي دارت في مجتمعنا خلال الأزمة الخانقة التي مررنا بها خلال الأسابيع الماضية وعلى مراحل.. مرة بالغاز ومرة بالمواد الأخرى المختلفة“.
وشبه الأسد العقوبات الاقتصادية بحرب فيها نصر وفيها خسارة. قال ”غالبا ننجح لكن أحيانا نتعثر لأن هناك أساليب جديدة للدول المعادية وهناك مواد تتبدل حسب ظرف المادة وحسب الظرف السياسي وحسب ظرف الحصار“.
وتقول الولايات المتحدة إن عقوباتها تهدف لعزل القيادة السورية ومناصريها عن الأنظمة المالية والتجارية العالمية لارتكابها أعمالا وحشية منها استخدام أسلحة كيماوية. وتنفي الحكومة استخدام مثل هذه الأسلحة.
وقالت لجنة تقص للحقائق في سوريا تابعة للأمم المتحدة هذا الأسبوع إن القوات الحكومية نفذت 32 من 37 هجوما كيماويا خلال الحرب بما في ذلك هجمات بالكلور والسارين.
وفي نوفمبر تشرين الثاني تحدثت واشنطن عن مخاطر جمة على الأطراف المشاركة في شحنات بترول لسوريا ونشرت قائمة بالسفن التي سلمت نفطا للبلاد منذ 2016 وحذرت من ”ممارسات شحن خادعة“.
ومن المقرر تشديد العقوبات الأمريكية مع إقرار تشريع جديد يطلق عليه (قانون قيصر).
واسم القانون مستمد من لقب أطلق على منشق سوري سرب عشرات الآلاف من الصور التقطت خلال الفترة من مايو أيار 2011 إلى أغسطس آب 2013 تظهر وفقا لمنظمة هيومن رايتس ووتش التي يقع مقرها في نيويورك 6786 فردا على الأقل لفظوا أنفاسهم أثناء احتجاز الحكومة لهم.
* ”لا أموال تتدفق“
كان الأسد قد نفى من قبل صحة الصور ووصفها بأنها مزاعم بلا دليل في إطار مؤامرة مولتها قطر ضد حكومته.
ووسع الاتحاد الأوروبي أيضا عقوباته التي تستهدف سوريا وأضاف في يناير كانون الثاني 11 رجل أعمال وخمس شركات شاركوا في خطة للتطوير العقاري الفاخر ومشروعات أخرى تدعمها الحكومة.
وسبق وأن شهدت الحكومة السورية مثل هذا النبذ، فالولايات المتحدة تصنف سوريا دولة راعية للإرهاب منذ عام 1979. ودور إيران المتجذر في سوريا يُعقد من أي إمكانية لتطبيع العلاقات مع واشنطن.
وبالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة المتحالفة مع الولايات المتحدة والتي دعمت المعارضة السورية يوما، كان التصدي للنفوذ الإيراني سببا كافيا لأن تعيد فتح سفارتها في دمشق في ديسمبر كانون الأول، في خطوة مثلت دعما سياسيا ضخما للأسد.
لكن دولا عربية أخرى، لا سيما السعودية وقطر، تشارك الولايات المتحدة الاعتراض على مثل هذه الخطوات.
وقال دبلوماسي يتابع الوضع في سوريا ”في النهاية، ترى دمشق أنها كسبت الحرب بعد سقوط الغوطة الشرقية، لذا فهم يحتاجون بعد النصر العسكري نصرا سياسيا، ومن ضمن هذا الاعتراف الخارجي“.
وقال الدبلوماسي ”لكن من المؤكد أن السعودية لن تفتح سفارتها، وكذلك قطر والقوى الغربية الكبرى“.
وتابع قائلا ”التحدي الكبير هو الاقتصاد. سيضطرون لأن يقولوا ’نحن في سبيلنا لإعادة الإعمار‘، لكن لا أموال تتدفق“.
وتسعى الأمم المتحدة لجمع مساعدات لضحايا الحرب في سوريا واللاجئين في المنطقة خلال مؤتمر سنوي لجمع التبرعات تستضيفه مع الاتحاد الأوروبي في بروكسل يوم الخميس.
لكن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يقولان إنه لن يمكنهما تقديم مساعدات لإعادة الإعمار ما لم يحدث انتقال سياسي في سوريا. وقدم الجيش الروسي جانبا من الإسهام في مشروعات إعادة الإعمار لكن مساعي موسكو أخفقت في إقناع المجتمع الدولي بالدفع لإعادة البناء على المدى الطويل.