تُعتبر منطقة عفرين أو ما يطلق عليها ”ݘيايكرمينج“،والتي تتألف من مدنية عفرين وسبعة نواحي و365 قرية، واحدة من أغنى المناطق السورية اقتصادياً، وذلك للأسباب الأساسية التالية:
الموارد الطبيعية:
تتميز عفرين بتربتها الخصبة المتنوعة بين سهول وجبال وهضاب والملائمة لكل أنواع الزارعات المتوسطية، حيث تُشكّل المناطق الصالحة للزراعة والرعّي والمروج والغابات 83% من مساحة المنطقة البالغة أكثر من 2000 كم2، أما الـ 17% الباقية فهي إما مناطق رملية أو صخرية مناسبة لاستخراج مواد البناء والتشييد العمراني.
إضافة الى ذلك هناك نهر عفرين والبالغ طوله 149 كم منها 75 تجتاز أراضي المنطقة، وعشرات الينابيع التي تؤمن مصادر مائية جيدة.
الموارد البشرية:
يُقدّر تعداد سكان عفرين بحوالي 700 ألف نسمة، فبالعودة إلى قيود السجل المدني (النفوس) عام 2007، بلغ عدد المسجلين على قيود مدينة عفرين وريفها 470 ألف نسمة، وإذ ما أضيف إليهم الذين أصولهم من عفرين ولازالوا على ارتباط بها لكن قيدهم المدني خارجها، يمكن تقدير عدد السكان بـ 500 ألف نسمة عام 2007. انطلاقاً من هذا العدد وبحساب نسبة تزايد عدد السكان في سوريا 3% سنوياً نستنتج أن عدد سكان عفرين يفترض أن يبلغ حوالي 700 ألف نسمة.
يتميز أهالي عفرين بحب العمل والعلم والنسبة المرتفعة لحاملي الشهادات الجامعية، وهم يشكّلون طاقة بشرية ويد عاملة مؤهلة وكفؤة للعمل والإنتاج في مختلف القطاعات الاقتصادية.
الموقع الجغرافي:
تقع عفرين في أقصى الزاوية الشمالية الغربية من خارطة سوريا، وهي بذلك تشكل عقدة ربط بين أرياف حلب الشمالية الشرقية (مناطق الشهباء) ومحافظة إدلب، ولها حدود دولية على امتداد 100 كم تقريباً مع تركيا، كما أنها تشكل حديقة خلفية لمدنية حلب، هذا الموقع يمنح المنطقة ميزات تجارية هامة.
الأوابد التاريخية والمواقع السياحية:
تمتاز عفرين بانتشار المواقع الاثرية على كامل مساحتها، وهي أوابد تعود لحقب تاريخية مختلفة وشاهدة على الحضارات التي تعاقبت على المنطقة مثل موقع عينداره الأثري، سيروس (النبي هوري)، مزار مار مارون وعشرات المواقع الأخرى، كما توجد في عفرين العديد من المواقع الطبيعية الخلابة الملائمة للاصطياف والتنزه مثل بحيرة ميدانكي، شلالات كمروك وغيرها الكثير، وهو ما يجعل المنطقة ملائمة لتطوير السياحة.
بالرغم مما تمتلكه منطقة عفرين من إمكانيات اقتصادية جيدة وموارد إنتاجية كفؤة إلا أنها وأسوة ببقية المناطق الكردية السورية بقيت تعاني من التهميش والإهمال من قبل حكومات دمشق المتعاقبة، وإن كانت سياسات التعريب وتغيير التركيبة الديمغرافية طُبّقت بشكل مباشر في منطقة الجزيرة، فإن عفرين نالت نصيبها بشكل غير مباشر عبر قرارات وممارسات اقتصادية تمييزية ترمي للإبقاء على المنطقة بعيدة عن التنمية، مصدّرة للمواد الأولية الخام، وتابعة للمركز التجاري – الصناعي في حلب، وبالتالي دفع أهاليها للهجرة بحثاً عن لقمة العيش وفرص العمل والتعليم.
فطوال عقود وبالرغم من غنى منطقة عفرين وقربها من مدينة حلب، التي تعتبر العاصمة الاقتصادية لسوريا، إلا أن البنية التحتية فيها بقيت هشّة ومرافق الخدمات العامة ضعيفة، ولا تتناسب مع الإمكانيات التي تمتلكها المنطقة، وذلك إذا ما تمت مقارنتها مع المناطق المجاورة، ناهيك عن ندرة قيام أية مشروعات صناعية او تجارية أو عمرانية من شأنها تشغيل أهالي المنطقة وتأمين فرص عمل كافية لهم.
هذا الواقع كان عاملاً أساسياً نابذاً للسكان وبالتالي سبباً لهجرتهم، الهجرة هذه كانت داخلية ومؤقتة، وتركزت بتوجه مئات الآلاف من أهالي عفرين نحو مدينة حلب ومدن سورية أخرى (حسب التقديرات بلغت نسبة الهجرة عام 2007 حوالي 66% من سكان منطقة عفرين، والرقم عبارة عن الفرق بين عدد السكان المسجلين في قيود السجل المدني وعدد السكان المقيمين)، حيث استقر هؤلاء في الأحياء الهامشية والعشوائيات الفقيرة، وبالرغم من ذلك لم يفقدوا تواصلهم مع منطقتهم، محافظين على عاداتهم وتقاليدهم، مواظبين على زيارتها والبقاء فيها حالما تسمح ظروفهم بذلك، وخاصة في أوقات جني المواسم الزراعية والمناسبات الاجتماعية والقومية والدينية.
في حلب المدنية وغيرها وعلى الرغم من اغترابهم عن بيئتهم الأصلية، اصطحب كرد عفرين توقهم للبناء والإنتاج، ففي كليات ومعاهد جامعة حلب وبقية الجامعات السورية كنت ستجد آلاف الطلبة الكرد من عفرين، كذلك عشرات الآلاف من الموظفين والعمال والحرفيين في مختلف قطاعات العمل في العاصمة الاقتصادية لسوريا، يضاف إلى ذلك بالطبع أن عفرين المنطقة بقيت محافِظة على خصوصيتها وتميزها بإنتاج الكثير من المنتجات الزراعية (الزيت والزيتون والرمان والجوز والحمص والعدس والثوم… الخ) وبعض الصناعات لاسيما الصابون، والتي كانت تغذي حلب المدنية وترفد أسواقها وتحمل علامتها التجارية معها (كردي من إنتاج عفرين).
مع بدء الحراك الشعبي في سوريا عام 2011 وتحوله لاحقاً إلى صراع مسلح، امتدت شرارة القتال إلى الأحياء الكردية في مدنية حلب، لتبدأ معها هجرة عكسية لأهالي عفرين إلى موطنهم الأصلي، فحتى ربيع عام 2013 عاد مئات الآلاف إلى مدنية وقرى عفرين، مصطحبين معهم خبراتهم العلمية والعملية التي اكتسبوها، ومدخرات ورأسمال شقاء أيامهم، ممتزجة بحب الأرض التي عادوا إليها، ورغم أن قسماً لا بأس به من هؤلاء قرر الهجرة، وهذه المرة للخارج إلى (تركيا، إقليم كردستان العراق، لبنان، الدول الأوروبية)، إلا أن العدد الأكبر آثر البقاء في عفرين، هذا الأمر وبالرغم من أنه شكّل أضافة اقتصادية مهمة سواء على صعيد استحداث مشروعات جديدة أو رفد سوق العمل بقدرات بشرية وأيدي عاملة، ولكنه في الوقت نفسه ولّد ضغطاً وعبئاً إضافياً على البنية التحتية والخدماتية الضعيفة وغير القادرة على استيعاب الأعداد المتزايدة للسكان.
منذ العام 2012 وبينما حافظت المناطق التي لم تخرج عن سيطرة النظام السوري على البنية الاقتصادية التحتية والتي ترافقت بتدني مستوى المعيشة وتراجع جودة الخدمات العامة إضافة لهروب المستثمرين، ارتبطت المناطق الخاضعة لسيطرة المجاميع المسلحة باقتصاد الدول المجاورة، لتصبح الفوضى العارمة سمتها الأساسية من حيث انهيار البنى الاقتصادية المترافقة مع انتشار السرقة وتفكيك المعامل وتدهور الحالة المعاشية التي غذتها هيمنة تجار الحرب والسلاح وغياب سلطة أي قانون.
أما المناطق الكردية في روجآفا، وهنا نقصد عفرين تحديداً، فقد تمتعت بأوضاع اقتصادية صحية نوعاً ما، مستفيدة من حالة الأمان والاستقرار ووجود جهة مرجعية ناظمة لكافة جوانب الحياة وتتمتع بالمصداقية والثقة، وهي الإدارة الذاتية الديمقراطية ومؤسساتها التي أعلن عنها مطلع العام 2014، حيث نشأ نظام اقتصادي ملأ الفراغ الحاصل من انسحاب مؤسسات الدولة، لا بل عوّض نواقصها التي كانت موجودة خلال عقود مضت، وهو ما جعلها ملاذاً آمناً ليس لأبنائها وبناتها فحسب، بل للكثير من السوريين الهاربين من جحيم الحرب وأمراءها.
ففي عفرين ومنذ العام 2013 تمكنت المنطقة أن تنجز خطوات اقتصادية هامة وبجهودها الذاتية لجهة تحسين الواقع المعاشي والخدمي والبدء بمشروعات اقتصادية تحل ولو جزئياً بعض المشكلات مثل البطالة والهجرة وضعف البنية التحتية وهشاشة السوق وقلة المشروعات الاقتصادية، فبالرغم من استمرار هجمات المجاميع التكفيرية والحصار المفروض عليها، فقد تمّ إرساء دعائم نظام اقتصادي كفيل بتمكين المجتمع من إعاشة نفسه وحل مشكلاته عبر تعزيز مبدأ الاكتفاء الذاتي، وإيلاء الاهتمام بالعمل التعاوني وتعزيز التشاركية بين الفواعل الاقتصادية الأساسية (عام- خاص- مشترك)، وذلك ضمن قالب أخلاقي مجتمعي لا يسعى للربح كهدف وحيد للنشاط الاقتصادي، بل يهدف لتلبية احتياجات المجتمع عبر الاستفادة من الموارد الطبيعية والبشرية الذاتية.
ساهمت الإدارة الذاتية وعبر هيئاتها ومديرياتها المختلفة إلى حد بعيد بتوفير الأرضية اللازمة لنمو وتطور القطاعات الاقتصادية المختلفة سواء بالتدخل المباشر في تأمين وتهيئة الخدمات المرفقية الضرورية وبتسيير شؤون بعض القطاعات، أو عبر إيجاد آليات الرقابة والتوجيه بما يخدم الهدف الاقتصادي، عبر توفير البنية التحتية التنظيمية لاقتصاد المقاطعة، فالبيئة المستقرة والآمنة حوّلت المقاطعة إلى منطقة جاذبة للاستثمارات ورؤوس الأموال والأيدي العاملة، حيث أقيمت الآلاف من المشروعات الاقتصادية خلال السنوات الخمس المنصرمة، وهو ما انعكس إيجاباً على مستوى معيشة السكان، نتيجة ارتفاع متوسط دخل الأسرة بشكل ملحوظ، ما حوّل عفرين إلى مكان جاذب للسكان. وفيما يلي سنتناول واقع القطاعات الاقتصادية في منطقة عفرين.
القطاع الزراعي
تعتبر الزراعة مصدر الرزق الأساسي لغالبية سكان منطقة عفرين، وهي تشكل حوالي ثلثي الناتج الاقتصادي فيها، حيث تنتشر في عفرين زارعة الأشجار المثمرة والمحاصيل الحقلية والخضروات.
تحتل زراعة الزيتون المرتبة الأولى بحوالي 18 مليون شجرة زيتون، وتتراوح كمية الإنتاج ما بين 70 – 250 ألف طن سنوياً تبعا لظاهرة تبادل الحمل أو ما يسمى بـ ”المعاومة“، يذهب القسم الأكبر من الإنتاج إلى العصر لإنتاج الزيت ويخصص جزء يسير للطعام على شكل زيتون المائدة، حيث يبلغ إنتاج الزيت 15 – 50 ألف طن سنوياً، الإنتاج كان يُصدّر إلى الأسواق السورية والدول المجاورة وحتى بعض البلدان الأوروبية.
إلى جانب أشجار الزيتون تنتشر في عفرين زراعة أشجار أخرى مثل الرمان والكرمة والجوز والحمضيات ومختلف أنواع الفاكهة الصيفية، التي يبلغ تعداد أشجارها ما يزيد عن 2.5 مليون شجرة، كما تُزرع أنواع الحبوب مثل القمح والشعير والحمص والعدس، حيث يُزرع القمح على مساحة تقدر بـ 10 آلاف هكتار، كما وتنتشر زراعة أنواع الخضروات الموسمية المختلفة على مساحة تقدر بـ 15% من إجمالي المساحات المزروعة.
إضافة إلى ذلك توجد في عفرين ثروة حيوانية لا بأس بها من المواشي والأبقار والدواجن وتتركز في القرى الجبلية التي لا تتلاءم والزراعة، وتوفر منتجاتها الجزء الأكبر من احتياجات السكان للحوم ومشتقات الألبان، وبحسب إحصائية هيئة الزراعة في عفرين فقد بلغ عدد رؤوس المواشي من أغنام وماعز حوالي 150 ألف رأس، والأبقار أكثر من 5 ألف رأس، كما يوجد في المنطقة 40 مدجنة لإنتاج اللحم والبيض.
تنوع ووفرة الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني أمّن للمنطقة إمكانيات جيدة لتحقيق الاكتفاء الذاتي لا بل جعلها مصدراً للمنتجات النباتية والحيوانية، وساهم هذا في ترسيخ فكرة الأمن الغذائي في عفرين وذلك بالرغم من التهديدات المحيطة.
القطاع الصناعي
لسنوات طويلة بقيت الصناعة في عفرين ضعيفة معتمدة على بعض المصانع والمعامل المكملة لزراعة الزيتون، أي معاصر الزيتون ومعامل الصابون والبيرين، والتي تعتمد في عملها على المواد الأولية الناتجة عن مخلفات عصر الزيتون، وهي صناعات وبالرغم من أهميتها الاقتصادية بيد أن لها أضرار بيئية يجب أخذها بالحسبان، إضافة لكونها لا تؤمن فرص عمل مستقرة فتشغيلها موسمي مترافق مع وقت جني المحصول، وفيما عدا ذلك لم تشهد المنطقة تطوراً يذكر لأية أنواع أخرى من الصناعات سواء الغذائية أو التحويلية أو التقنية، حيث كانت تتركز كلها في مدنية حلب، وذلك على الرغم من احتواء المنطقة على مقومات قيامها من مواد أولية ويد عاملة ورأسمال مؤسس.
من أكثر الصناعات التي تشتهر بها عفرين هي معاصر الزيتون وإنتاج الزيت، حيث بلغ عددها 295 معصرة بين فنية حديثة وتقليدية، وصناعة أخرى مرتبطة بالزيتون هي معامل البيرين والصابون (المصابن)، يبلغ عدد معامل البيرين 18 معملاً وهي تعتمد في عملها على مخلفات عصر الزيتون (التفل) ومعالجته حرارياً لاستخراج الفحم الصناعي وزيت المطراف الذي يدخل في صناعة الصابون، الذي يبلغ عدد مصانعه في عفرين 26 مصبنة، تنتج أنواع عديدة من الصابون المشهور على مستوى سوريا، والذي تصل كميته إلى 8000 طن سنوياً.
بعيد تفجر الأزمة السورية ومع عودة أعداد كبيرة من أبناء المنطقة إليها انتقلت الصناعات التي كان يزاولها هؤلاء من حلب إلى عفرين، ونخص بالذكر هنا صناعات الألبسة الجاهزة، والتي تشمل ورش الخياطة والتطريز والكحت والطباعة والمصانعة، حيث بلغ عددها في عفرين ما يزيد عن 1100 مصنع وورشة، ما جعل عفرين تحتل مرتبة متقدمة في صناعة وتصدير الألبسة الجاهزة وبمواصفات وجودة عالية، حتى بات شعار (صُنع في عفرين) ملازماً لمنتجات هذه الورش التي كانت تشغل عشرات الآلاف من الأيدي العاملة، والتي تقدر بأكثر من 30 ألفاً، يضاف إليها ما يقارب 300 ورشة صغيرة تعمل لحساب المصانع، إضافة لما يقارب 50 ورشة للصناعات الجلدية.
يضاف إلى ما سبق صناعات أخرى اقل حجماً مثل الورش الحرفية لقطع التبديل والغيار للسيارات والآلات، ومقالع الأحجار، والبطاريات، والعشرات من معامل الكونسروة وتعليب المنتجات الغذائية، كما كان يوجد في المقاطعة أربعة مطاحن بطاقة إنتاجية تبلغ 120 طناً يومياً تؤمن احتياجات الأفران البالغ عددها 40 مخبزاً، ناهيك عما سبق كله رسوخ ثقافة استهلاك المنتجات المصنعة ضمن إطار الاقتصاد المنزلي والريفي والتي تعتمد على معدات بسيطة ويتم تداولها في الأسواق الشعبية والتي تأخذ طابع تأمين الاكتفاء الذاتي للأسرة من المواد الغذائية.
القطاع التجاري
كان للحركة التجارية نصيب وافر من النشاط وذلك بالرغم من الحصار المزدوج من قبل الدولة التركية والمجاميع المسلحة، فالحصار دفع باقتصاد عفرين للبناء على قاعدة الاكتفاء الذاتي والاعتماد على النفس، وبالتالي تم إفراغ الحصار من معناه، فالطرق المغلقة في كثير من الأحيان كان يتم شراء تمرير السلع والبضائع عبرها بما يمكن تسميته ”التهريب“ وذلك بدفع أتاوات لمسلحي المجاميع التي تفرض الحصار أو عبر تجار متنفذين في المناطق المجاورة.
في واقع الحال المشار إليه تطورت الحركة التجارية في أسواق عفرين، اعتماداً على منتجات القطاعين الزراعي والصناعي، حيث بلغ عدد السجلات التجارية والصناعية التي منحتها هيئة الاقتصاد والتجارة في الإدارة الذاتية لأرباب المهن والصناعيين والتجار 2800 سجلاً تجارياً.
وعدا عن الأسواق الأسبوعية في مركز المدينة والنواحي أو ما يطلق عليه محلياً ”البازار“ والتي كانت تعرض مختلف أنواع السلع والبضائع ويرتادها أعداد كبيرة من الأهالي، تم افتتاح عدة أسواق شعبية وتعاونيات لبيع المواد الاستهلاكية، كما أن سوق المنتجات الزراعية الرئيسي ”سوق الهال“ في عفرين شكّل مركزاً لشراء وإعادة البيع لكافة صنوف المنتجات الزراعية من خضار وفاكهة، لتغذية ليس فقط أسواق المقاطعة بل ومناطق الجوار أيضاً وحتى مدنية حلب، وكان يلعب دوراً أساسياً في تمكين المنتجين والبائعين (تجار الجملة والمفرق) والمستهلكين النهائيين من تصريف المنتجات والوصول إليها. ويضاف إلى ما سبق أن أسواق مركز المدنية والنواحي لاسيما جندريس وراجو كانت تضم الآلاف من الدكاكين والمحال التجارية ولمختلف أنواع السلع والبضائع المنتجة محلياً أو المستوردة.
ومن المهم أيضاً الإشارة إلى محال الصاغة والذهب وشركات الصرافة، حيث كان يوجد 40 محلاً لصاغة الذهب و140 شركة لصرافة وتحويل العملات مرخصة من قبل الإدارة الذاتية، حيث ساهمت حالة الأمن المستتب وضبط حركة السوق من حيث مكافحة الغش والتزوير بجعل المقاطعة وجهة للعديد من التجار ومواطني المناطق السورية الأخرى للقدوم إليها وإتمام صفقاتهم، سواء تلك الواقعة تحت سيطرة المجاميع المسلحة أو التي لاتزال تحت سيطرة النظام السوري، حيث كان متوسط حجم التعاملات اليومية (بيع وشراء) في السوق يقارب أربع ملايين دولار.
بالتوازي مع هذا النشاط التجاري، ازدهر قطاع العقارات أيضاً بشكل كبير، فالكثافة السكانية الناتجة عن عودة أهالي المنطقة كذلك نزوح مئات الآلاف من مناطق أخرى إليها، ولّد اكتظاظاً سكانياً وأزمة سكن استجاب لها السوق بزيادة حركة البناء والعمران التي وفرت عشرات آلاف فرص العمل، دخول رساميل كبيرة للقطاع بغرض الاستثمار أو الإيداع الآمن للمدخرات زاد من النشاط العقاري والتوسع العمراني، حيث بلغ متوسط رخص البناء الممنوحة خلال السنوات السابقة 1400 رخصة بناء سنوياً، 80% منها مخصصة لأغراض السكن والباقي تجاري أو صناعي، يضاف إلى ما سبق بضع عشرات من المطاعم والمتنزهات السياحية.
مما تقدم يمكن الاستنتاج أن التنمية الاقتصادية الشاملة التي شهدتها عفرين خلال السنوات الخمس الماضية كانت ركيزة أساسية لتشبث الشعب بأرضه، فالقاعدة الاقتصادية العريضة والتنوع والتوسع في الإنتاج في مختلف القطاعات، ناهيك عن الدور التنظيمي والإشراف كذلك توفير البيئة الملائمة للعمل والإنتاج الذي مارسته الإدارة الذاتية، كلها عوامل وفّرت فرص عمل كثيرة وبدخل جيد للسكان وأتاح لهم إمكانية ضمان كفايتهم لحياة كريمة ومستقرة وآمنة، تنسجم مع الخاصية الاجتماعية الواعية والمتمدنة.
هذا الواقع الاقتصادي وفي الوقت الذي كان بمثابة الشريان النابض لفترة الازدهار التي عاشتها عفرين خلال السنوات الخمس الماضية، كان الهدف المباشر للاحتلال التركي والمجاميع التابعة له، ففي حربها على عفرين، عمدت الدولة التركية عبر جيشها ومجاميعها المسلحة باستهداف ممنهج لاقتصاد المقاطعة عبر القصف والتدمير والسلب والسرقة، في سعي منها لضرب مقومات البقاء للشعب الكردي على أرضه في عفرين.
چلنگ عمر– باحث اقتصادي
مجلة الحوار- السنة 25- العدد 72- 2018م