عادة ما تكون الثورات حاجة حيوية للتجديد المجتمعي والسياسي، وما يستوجب أن تصاحبها ثورات في الذهنيات والأفكار، إلا أنّ الصحيح أيضاً أنّ أيَّة ثورة يتوجب أن تنبثق من الدوافع الإيجابية، وعلى رأسها الإتيان بالجديد الذي حلمت به القواعد الاجتماعية والمجتمعات المحلية، وشبكة العلاقات القائمة على الاعتراف بالآخر والتغيير الإيجابي، والحرية، والحب والجمال… إلخ. غير أنّ ما يحصل في عفرين يحمل مزدوجاً، فالنظري شيء، والعملي شيء أخر تماماً، حيث تسود أفكار التدمير والقسوة وخلق استبداد جديد، شيءٌ أشبه بالعبثية والقوة التدميرية التي تجتاح المدينة. فكيف يُدمر قبرٌ دونت عليه أبياتُ شعر باللغة الكردية، من نتاجات صاحب القبر. وحينذاك فلا من سبب أو مبرر لهذا الفعل التدميري، سوى أنّ اللغة الكردية تحوّلت إلى وبال على أهالي عفرين، حتى الأموات منهم، بغض النظر عن صاحب القبر… أكان مسلماً أو مسيحياً، مؤمناً أو كافراً، كُردياً أم عربياً، مؤيداً للإتحاد الديموقراطي، أو معارضاً له، ليس من هذا الفعل شيء سوى القبح ومسح أيَّ أمل بالسلم الأهلي والحياة المشتركة.
هذا القبر المهدم، إضافة إلى كل ما تشهده عفرين، ليس سوى خرق وتدمير للمعايير الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية، وأولاً وقبل أي شيء، هو إسقاط للقيم والمبادئ التي خرج لأجلها السوريون منذ بداية 2011. فما أن يتم الإشارة إلى عفرين، حتى يتبادر إلى الذهن حالة جمود واحدة، في إشارة بليغة إلى ثبات الأفكار حول المزيد من الانتهاكات والتجاوزات على المدنيين وأملاكهم ونرجسية المزهوين بأفعالهم المنافية والمعارضة للكرامة الإنسانية. فهؤلاء يحتقرون القيم والنبالة ويقمعون الأهالي فقط كونهم أكُراداً وإن تعددت التهم والأسباب، إلا أنّ النتيجة واحدة والهدف أيضاً، خصوصاً إذا عرفنا أنّ القيم هي شكل من أشكال التواصل مع الآخرين، وأنّ الحرية ما هي إلا علاقة الأنا بالأنت، لكن تكرار التجاوز، من خطف، وتجريف للآثار، وقطع أشجار الزيتون، وفرض الغرامات والضرائب على أصحاب المزارع والأعمال، إنّما تجعل من حريتهم سادية مطلقة، منطلقين نحو مبدأ اللذة من دون أي مراعاةٍ للحلال أو الحرام.
إنّ انفصال الثورة عن القيم الإنسانية يتجلى في السلوكيات الرمزية للفصائل المسلحة والحاكمة في أي بقعة ما. وما إن يتم تقييم العمل الإنساني وما يعانيه المجتمع المحلي في عفرين من كوارث إنسانية، حتى يُمكننا القول إنّه فعلٌ مؤسف لكل مناصري الحرية والمساواة والحقوق، وبل هي إيغالٌ في إسقاط القيم الثورية السليمة. فهم قالوا إنّهم جاءوا لإخراج الاتحاد الديموقراطي والإدارة الذاتية من عفرين، وإنْ أردنا أن نكون حياديين في تقييمنا للوضع، فيكفي الاستدلال بتجربة السجن الأسود المخصص للنشطاء والسياسيين، والغرامات والضرائب المفروضة لمعرفة طبيعة عيش الأهالي وحياتهم قبل عملية غصن الزيتون. لكن الكارثة الكبرى كانت في ما تلا تلك العملية العسكرية، فما تشهده عفرين، هي تحديداً ما لم يتعرف إليه الأكراد طيلة نصف قرن في سوريا… فعدا عن المراسيم المجحفة، إنّ الفعل الميداني والأثر الرجعي لكل قرار وعمل ليس سوى ترسيخ لمفهوم سلخ الكردي عن الهوية الوطنية الجامعة، واستمتاع بـ”تطفيش” الكردي من منزله، ومحاربة عيد النوروز، وتدمير الذاكرة الكردية، والقتل على الهوية… إلخ، خصوصاً أنّ النقيض يولّد النقيض؛ لأنّ النفس مبنية على جدل الأضداد، فإذا كانت النتائج ما بعد العملية العسكرية على النقيض من التوقعات والتعهدات المعلن عنها، فإنّ حجم الالتزام الكردي الشعبي مع المعارضة السورية يرتقي للقول إنّها على النقيض من سابقاتها أو المتوقع منها.
إنّ تدمير شاهد قبر الشاعر الكردي عارف خليل شيخو المتوفى عام 2012 من قبل فصيل “فيلق الشام” المسيطر على قرية كوسكا مسقط رأس الراحل، والتابعة لمنطقة راجو ـ بحجة احتوائها على كتابات باللغة الكردية وأنّها مخالفة للدين الإسلامي، ما هي إلا نقلة صوب تعميم تجربة محاربة الآخر المدني العلماني، تحت ستار الدين، خصوصاً أنّها ليست المرة الأولى التي تشهد فيه عفرين هذا الفعل، حيث سبق أن دُمرت شواهد القبور فيها، كحال قبر العلامة الكردي نوري ديرسمي وزوجته في مقبرة حنان، كذلك قبر السياسي كمال حنان الذي قتل برصاص مجهولين في حي الأشرفية في حلب، وتدمير شواخص قبور الأيزيديين ونبشها، وتدمير مراكزهم الدينية المقدسة، كما حصل لضريح الشيخ حميد في أيار (مايو) 2020 في قرية القسطل جندو في منطقة شيروا، والذي يعتبر مزاراً دينياً مقدساً.
ما يحصل في عفرين، هو الديناميات التي يُراد لها أن تكون الفصل والعنوان والأرضية التي سيتعامل بها الكردي في سوريا مع أقرأنًّه، اليوم ومستقبلاً. فعن أي مسارٍ للعيش المشترك سنتحدث، إنْ كانت شواخص القبور تُهدم وتنبش القبور، لأنّ قبراً ما كُتب على شاخصته بلغته الأم. وإن كان ثمة مبرر يسوقه هؤلاء لهدم القبر وشاهده بأنّ لغة القرآن هي العربية فقط، لكن مُحددات بطلان هذا الإدعاء تقول أولها: “إنّ الأيزيديين ليسوا مسلمين، وهذه مسلّمة لا تحتاج لبرهان، فلماذا نُبشت قبورهم واستبيحت بيوتهم ومزاراتهم، وثانيتها، أنّ اللغة الكردية محرمة في عفرين حتى على الأحياء أنفسهم”.
خلاصة القول: ما خرج الملايين إلى الشوارع إلا للمدنية والديموقراطية والعلمانية وحفظ حقوق الأديان المختلفة في سوريا، ودعم التعددية اللغوية والإثنية. وما خرجوا كي يئنوا تحت وطأة حكم فصائل تحكمهم بمنحهم لنفسهم تمثيل الله على الأرض، من دون وجه حق. هذا عدا عن أنّ الممارسات والانتهاكات التي ترتكبها فصائل المعارضة السورية في عفرين، أصبحت تتكرر بوتيرة مشابهة في مناطق عملية نبع السلام “سري كانيه وراس العين وكريسبي وتل أبيض”. فكيف لنا أن نعيش معاً، ولا نجد صوتاً من المعارضة السورية، أو النشطاء والكتّاب والصحافيين والمشتغلين بالرأي العام السوري، أو موقف مع الحق ضد ما يجري بحق الإنسانية والمصير الواحد.