تصطاد أوروبا ضباط المخابرات السورية المتنكرين كلاجئين في أراضيها. وقبضت الشرطة بالفعل على ثلاثة، هم: واحد في فرنسا واثنان في ألمانيا بتهمة اقتراف جرائم ضد الإنسانية. لكن هنالك المزيد منهم، وأعمال البحث عن عملاء آخرين كانوا يخدمون في أفرع أمنية، وارتكبوا جرائم وكذلك عملية جمع الأدلة. تعذيب ممنهج في سوريا حتى الموت تعرض له الكثيرون على أيدي المخابرات السورية طيلة العقود السابقة، ومرت تلك الجرائم دون محاسبة…اعتقد البعض من المشاركين فيها أن ّملفاتهم سيتم طيها بمجرد إعلانهم الانشقاق عن “النظام”، والانضمام إلى صفوف المعارضة، لكن التطورات الجارية مؤخرا وبالتحديد في أوروبا تجري عكس توقعاتهم.
تلك الملاحقات لن تقتصر على فترة محددة، إنّما ستطال مختلف المتورطين في تلك الجرائم، فجرائم كثيرة ارتكبتها “المعارضة المسلحة” ولاتزال ترتكب إلى اليوم، عمليات تعذيب ممنهجة، خطف واعتقالات، استيلاء على الملكيات، تهجير، وغير ذلك ومرتكبوها لن يكونوا خارج العدالة، والمحاكمة. حتى وإن التجئ إلى تركيا، الدولة التي ماتزال تحمي الكثيرين منهم، أو بقوا في سوريا متخفين.
في ألمانيا محاكمة تاريخية…
يخضع أنور رسلان وإياد الغريب الضابطان السابقان في مخابرات نظام حكم “بشار الأسد” إلى المحاكمة في ألمانيا بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. كلا الرجلين أبلغ السلطات الألمانية بطبيعة عملهما السابق خلال عملية التقدم بطلب اللجوء.
تابعت العدالة الألمانية الجمعة (24 أبريل/ نيسان 2020) في كوبلنز، غرب ألمانيا، تفاصيل المسار المتعرّج لمتهمَين، انطلاقاً من عملهما في المخابرات السورية وصولاً إلى الالتحاق بالمعارضة في الخارج، في أول محاكمة في العالم حول انتهاكات منسوبة إلى نظام دمشق.
خلال اليوم الثاني للجلسة التاريخية، حاولت المحكمة فهم مسار المتهم الأعلى رتبة، أنور رسلان (57 عاما) الماثل بتهمة ارتكاب جريمة ضدّ الإنسانيّة.
ويتعيّن على رسلان الذي عبر عن رغبته في تقديم تصريحاته للمحكمة كتابيا مستقبلا، أن يشرح دوره في مقتل 58 شخصا وتعذيب 4 آلاف آخرين على الأقل في مركز احتجاز الخطيب في دمشق الذي يعرف باسم “الفرع 251″، بين 29 نيسان/أبريل 2011 و7 أيلول/سبتمبر 2012.
وترأس رسلان قسم التحقيق في “الفرع 251” وبعدها في “الفرع 285″ التابعين لـ”المخابرات العامة”. في حين يُتهم العمر بالمشاركة بقتل شخصين، والإساءة الجسدية لنحو ألفي شخص بين العامين 2011 و2012. العمر كان مسؤولاً عن اعتقال نحو مئة شخص، يومياً، كانوا يحولون إلى فرع التحقيق الذي يديره العقيد رسلان.
رسلان مقيم بصفة لاجئ في ألمانيا منذ سنوات، في حين أنّ العمر متواجد على الأراضي الألمانية منذ العام 2018. ومع ذلك فقد أعطى المدعي العام الاتحادي الألماني أوامر بإلقاء القبض عليهما. ويقيم أحدهما في برلين، والآخر في مدينة تسفاي بروكين الحدودية مع فرنسا. السلطات الألمانية سرعان ما اعتقلت ضابطاً ثالثاً، على ما يبدو أنّه على صلة بالدعاوى المرفوعة ضد رسلان.
وانضم رسلان إلى الوفد العسكري المعارض الذي شارك في مفاوضات جنيف، في شباط/فبراير 2014. وضم الوفد حينها بالإضافة إلى رسلان؛ العميد المنشق فايز عمرو عن “جبهة التركمان”، والعميد المنشق أسعد الزعبي عن “الجبهة الجنوبية”، والعميد المنشق عرفات الحمود عن “جبهة ثوار سوريا”. وقد شارك الوفد في المفاوضات بصفته استشارياً عسكرياً. وتقدم رسلان بطلب اللجوء في ألمانيا في العام 2014، بعد انتهاء مؤتمر جنيف.
من المخابرات إلى المعارضة:
طوال 18 عاما، عمل أنور رسلان في المخابرات السورية، وفق ما أفاد محقق من الشرطة الجنائية الألمانية دعي للشهادة الجمعة. ولم يخف المتهم ماضيه منذ لجوئه إلى ألمانيا مثلما فعل نحو 700 ألف سوري منذ انطلاق الحرب قبل تسعة أعوام. بل هو من أعلم رجال الأمن في مركز شرطة ببرلين بماضيه، وذلك عند تقدمه بطلب حماية في شباط/فبراير 2015، عقب حوالي خمسة أشهر من وصوله إلى البلاد.
حينها، شعر أنور رسلان أنّه “مهدد من طرف عناصر مخابرات سوريّين” بسبب التحاقه بالمعارضة في المنفى بعد انشقاقه في كانون الأول/ديسمبر، وفق ما أفاد المحقّق الألماني. وانكبّ المحققون على بحث مسار هذا الرجل الذي له شارب ويحمل شامة مميّزة تحت عينه اليسرى. وخلال تحقيق الشرطة الجنائية معه لمرتين، قدم “معلومات واسعة ومتنوعة” حول أنشطته السابقة.
شرح رسلان عمليات الفرع 251 الذي نال في صفوفه “ترقية في كانون الثاني/يناير 2011 إلى أعلى رتبة”، وخاصة تنفيذ عناصره عمليات “اعتقال تعسفيّة”.
أكد الضابط السوري السابق أنّه تمت “ممارسة العنف أيضا خلال التحقيقات”، وفق المحقق الألماني الذي شرح في شهادته مختلف أساليب التعذيب في ذلك السجن.
لكن، غيّر رسلان ولاءه، وفرّ من سوريا مع عائلته لينضم إلى المعارضة، حتى أنّه شارك في مفاوضات السلام بجنيف عام 2014، وحصل على تأشيرة ألمانيا من سفارتها في عمّان.
من جهتها، شهدت وزارة الخارجية بأداء رسلان “دورا نشطا واضحا” في المعارضة. وبسبب التحاقه بالمعارضة، لم يخش الضابط المنشقّ قطّ من أن يتعرض للمضايقة بسبب أنشطته الماضية وهو في ألمانيا، وفق ما أفادت الصحافة الألمانية وناشطون سوريون.
ومع ذلك، أوقف رسلان في شباط/فبراير 2019 مع عنصر مخابرات سابق آخر، هو إياد الغريب، جلس أثناء المحاكمة بجانبه في قفص الاتهام.
انشقاق:
وصل إياد الغريب (43 عاما) إلى ألمانيا في نيسان/أبريل 2018. لم يخف هو أيضا ماضيه عند تقدمه بطلب لجوء في أيار/مايو من نفس العام، عقب عدة سنوات من انشقاقه عن الجيش. وبدوره، قدم الغريب “معلومات عن نشاطه في الاستخبارات السوريّة” للمكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين المكلّف النظر في طلبات اللجوء.
يتابع الرجل ويعترف بدوره في إيقاف وسجن 30 شخصا خلال مظاهرة في خريف 2011، حين كان يعمل تحت إمرة حافظ مخلوف، ابن خال الرئيس بشار الأسد ويعتبر من ضمن دائرته الضيّقة.
وبحسب المدعي العام الاتحاد الألماني، فإنّ شهود عيان قدموا معلومات ضد المتهمين، عن جرائم ارتكباها بين العامين 2011 و2012. وكانت قد صدرت عن المدعي الألماني مذكرة توقيف دولية بحق رئيس “المخابرات الجوية” اللواء جميل الحسن، في حزيران/يونيو 2018، وذلك بعد تقديم 9 سوريين شكوى ضده بممارسة القتل والتعذيب والعنف الجسدي.
الادعاء العام الفرنسي أصدر في تشرين الثاني/نوفمبر 2018، مذكرة توقيف بحق رئيس مكتب “الأمن الوطني” اللواء علي مملوك، ومدير إدارة “المخابرات الجوية”، ورئيس فرع التحقيق في “المخابرات الجوية” في دمشق اللواء عبد السلام محمود، نتيجة دعوى قضائية رفعها ضدهما السوري عبيدة دباغ، إلى “وحدة جرائم الحرب الفرنسية”، في تشرين الأول/أكتوبر 2016، بتهمة قتل أخيه وولده، تحت التعذيب في مطار المزة في العام 2013.
ويتحرى مكتب المدعي العام ومكتب التحقيقات الجنائية الفيدرالي في ألمانيا بشأن أكثر من عشرين ضابطاً تابعين للنظام، ممن يظن أنّهم ارتكبوا جرائم حرب وضد الإنسانية في سوريا. ويتم التحري بالشراكة مع النيابة العامة في باريس، وقد قام الطرفان، بتشكيل فريق تحقيق مشترك لتتبع مجرمي الحرب ما يُسهل تبادل المعلومات والشهادات.
ولكن…
مؤخرا ومع بدأ محاكمة رسلان وآخرين برزت قضايا أخرى لمزيد من الضباط والمسؤولين السوريين المتورطين في ارتكاب جرائم، ومنهم من يعيش في أوربا أو غير مهنته إلى باحث استراتيجي، أو محلل سياسي وغير ذلك، عدا عن الذين وصلوا لتبؤ مناصب مهمة في قيادة المعارضة وهؤلاء غالبهم يعيش في تركيا، بحماية كاملة، وينالون من عملهم في صفوف المعارضة منافع، ودخل مادي كبير بتجاهل ماضيهم، وما ارتكبوه من جرائم بحق المعارضين أنفسهم، قبل الانشقاق وبعده.
ونذكر بما أثاره نشطاء سوريون كرد مؤخرا حول قضية محمود الناصر، والمعروف باسم (أبو الحارث) والمقيم حاليا في هولندا، حيث كان رئيس مفرزة أمن الدولة في مدينة سري كانيه / رأس العين بريف الحسكة ويتهم أنّه منفذ ومشرف على كافة صنوف التعذيب بحق الناشطين الكرد في حملة (معتقلو الملصقات 1990) وكذلك معتقلي انتفاضة 12 آذار 2004.
ومحمود الناصر [المُلقّب “أبو حارث”] مواليد 1962، متزوج ولديه 6 أبناء كان موظفا في إدارة المخابرات العامة، عمل في أقسام الفرع 330، خضع لدورات أمنية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، كما عمل في مكتب الأحزاب فرع 30 أمن الدولة في قسم رأس العين وقسم المعلومات حتى تاريخ إعلان انشقاقه في نوفمبر 2011.
الناصر بحسب ما كتبه الصحفي مسعود عكو ” منح 5 مليون ليرة سورية لتنظيم جبهة النصرة (الفرع السوري للقاعدة) عندما كانت تسيطر على مدينة رأس العين نهاية 2012 وبداية 2013، وانتقل بعدها إلى تركيا، ومن هناك أصبح معارضاً وانضم لكتلة الديمقراطيين بزعامة ميشيل كيلو، كما وقام “تيار المستقبل الكردي\ تيار الحرية الكردستاني” ورئيسه “سيامند حاجو” بتخصيص ندوة (هنا) ظهر فيها المقدم محمود الناصر باسم باحث ومختص في الشؤون السياسية والأمنية في برلين \ ألمانيا بتاريخ 23 أيلول\سبتمبر 2018. كما وقام حاجو، بنشر لقاء مطول مع الحارث في موقعه الإلكتروني (هنا).
الصحفي سردار درويش كتب أنّ ضابط المخابرات محمود الناصر (أبو الحارث) انتهك وشارك في قمع الكرد حيث كان مختصا بملف “الكرد” وأشرف على تعذيب وانتهاك واعتقال العشرات منهم، وأنّ سيامند حاجو، كان يدافع عن استقباله لـ (الناصر) ويعتبره حقوقي، وأظهره للإعلام كباحث.
كما أثيرت مؤخرا كذلك قضية قيام أحد المراكز البحثية (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) بتوظيف “ضابط استخبارات في الأمن السياسي” وتعريفه على أنّه “باحث ومختص وكاتب”، يدعى “عبد الله النجار”، وهو ضابط سوري منشق عن شعبة الأمن السياسي، وضابط استخبارات؛ عمل في منطقة الجزيرة السورية (12) عاماً بوصفه ضابط استخبارات
وأثار القضية قصي شيخو، وهو -طالب في كلية الإعلام والسياسة في ألمانيا – قائلا “دون مراقبة ومحاسبة وتساؤل…. لو افترضنا أنّ كل ضابط لديه خبرة استخباراتية، يعلم مواضيع مخفية أو كان يكتب ملفات أمنية ثم جلبتهم المعارضة ومنحتهم كل الإمكانات فأغفلت عن مسؤوليتهم عن الانتهاكات من سيأخذ حق السوريين؟