منذ قُرابة ستة أشهر من انتهاء المعارك العسكرية في بلدة الباغوز، والتي كانت آخر معاقل تنظيم “الدولة الإسلامية” في شمال وشرقي سوريا، تحولت استراتيجية مكافحة الإرهاب من قبل التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية إلى تعزيز الحلِّ الأمني بغرض استئصال الخلايا النائمة. وبموازاة ذلك، كانت وسائل الإعلام تنقل صور عائلات “داعش” في مخيم الهول الضخم الذي يقع جنوب محافظة الحسكة ويضم حوالي /70/ ألف شخصاً، بينما ترصد التقارير الإعلامية أنباء تمرد آلاف السجناء “الدواعش” من الجنسيات المحليّة والأجنبيّة في عشرات السجون المؤقتة في شمال وشرقي سوريا.
من الواضح للعيان، بأنّه ثمّة تناقضٌ ما بين آلية الحلّ الأمني في تعقيب الخلايا النائمة، والظهور، بالتوازي مع مشكلة معالجة المحتجزين في المخيمات والسجون وفق أرضيةٍ قانونيةٍ موازية. إذ إنّ غياب الحلّ القانوني إلى هذه اللحظة يفتح ثغرةً قاتلةً في مسار استراتيجية مكافحة الإرهاب، وتالياً، إمكانية إعادة تعويم هذا الخطر العالمي ذاته، سيكون خياراً قائماً وبقوة.
تبعاً للرؤية الاستخباراتية الغربية في مطاردة الإرهاب، تقتصر وظيفة المهام الحيوية في وضع الخطط الأمنية وتحسين قدرات الوحدات الأمنية والتقنيات العسكرية المطلوبة. ومن شأن ذلك وفق هذه الرؤية، احتواء ما يسمى “الخلايا النائمة” في شمال وشرقي سوريا. فضلاً عن أنّ العقل المخابراتي يحصر دائرة نشاطه غالباً في جمع المعلومات والمراقبة والرصد والمطاردة والمواجهات المباغتة، ومن ثم التحييد وإحالة المتهمين إلى السجون والمخيمات، وهنا تنتهي مساحة الحلّ الأمني في العُرف السائد، وتبدأ مساحة البُعد القانوني.
ونظراً إلى أنّ تنفيذ القانون يحتاج إلى الشرعية الدولية المتعارف عليها بهدف رسم مشروعية تنفيذ تلك القوانين على نطاقٍ جغرافيٍ ما، فإن غياب هذا العنصر الحيوي في شمال وشرقي سوريا، يعقّد مهمة معالجة ملف داعش، هنا يظهر واضحاً ذاك الفراغ والمأزق المستعصي وفق ما يقوله قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، بغية إزالة خطر الإرهاب بصورةٍ جوهريةٍ.
ثنائية الأمن- الفوضى
من أجل إيضاح هذه المقاربة، يطلعنا الفيلسوف الفرنسي آلان باديو في دراسةٍ كتبها عقب مجزرة الثالث عشر من نوفمبر في شارلي إبيدو بباريس، والتي نُفّذت من قبل المجموعات الإسلامية المتطرفة. أرجع باديو في هذه الورقة صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى تفكيك مشروعية الدولة الوطنية على وقع انتشار الفوضى العارمة في الشرق الأوسط، بسبب جنوح النظام العالمي إلى تجاوز الهياكل القانونية التقليدية.
في الحقيقة لا ينبري باديو في الدفاع عن هياكل الدولة القومية التقليدية بقدر ما يسلّط الضوء على غياب المنظومة القانونية التي تفسح المجال دوماً أمام انتعاش العنف الدموي الذي يضرب العالم برمته، إذ إنّ ظاهرة عنف “داعش” التي تتلبس المقدّس والنزعة الماضوية البائسة، هي ردّة فعل مدمّرةٌ على النظام الدولي المتّسم بالفوضى وانعدام النظام، وليست ظاهرةً محليةً أصولية محضة فحسب. يُلمّح باديو في هذه الدراسة بأنّ انتشار العنف مرهونٌ بمدى انتشار الفراغ والفوضى طردياً. وهذا يحيلنا إلى القول بدون وجود المقدرة القانونية المنسجمة مع الحلّ الأمني، فإن ثنائية الأمن- الفوضى بمعزل عن الهيكل القانوني الشرعي، سيولّد العنف بصورة متكاثرةٍ دوماً.
وعليه، يقدّم التحالف الدولي صيغته الأمنية في شمال وشرقي سوريا بغرض مواجهة ظاهرة “داعش” وآثارها المتبقية على حوامل الحلّ الأمني المؤقت، والذي يتعامل مع هذه الظاهرة العالمية الخطرة في النطاق المباشر والضيق، ومن ثم تتوقف مساحاته داخل نطاق السيطرة وخضوع تلك الجماعات وتحويلهم إلى السجون والمخيمات دون التوسيع من نطاق مسؤولياتهم الأخلاقية والقانونية والمادية التي تتبع هذه الخطوة، وهذه المقاربة في حقيقة الأمر لا تنطوي على الاستدامة والحلول الثابتة لمعالجة هذا الملف الذي يتوقف في نهاية المطاف على الحلّ القانوني، لا سيما قضية المقاتلين الأجانب وأُسرِهم في المخيمات.
في حين تحاول غالبية مراكز الدراسات الدولية والجهات الاستشارية الفكرية اختزال حلّ مشكلة الإرهاب إلى النطاق الإيديولوجي والتربوي والاقتصادي، وهذه الرؤية تحمل في طياتها شطحاتٍ خياليةً لا تواكب الواقع الحالي في شمال وشرقي سوريا، وتحصر أبعاد المشكلة في معالجة الخلل الإيديولوجي المتطرف على المدى البعيد، وهذه المقاربة تتطلب قبل كل شيء تأمين المشروعية القانونية لتلك المنطقة بغية مواجهة الفظائع الحالية المنتشرة في المخيمات والسجون من جهة، وتكفّل الدول الغربية بشكل قانوني في استعادة السجناء الأجانب المتطرفين من جهة ثانية. وبدون تفعيل هذا الشرط يبقى الحلّ الإيديولوجي والاقتصادي والتربوي معلقاً في الفراغ الخاوي، لأنها تقفز فوق معطيات الواقع القائم.
اللايقين القانوني
هذه الجغرافية التي شهدت ولادة تنظيم “الدولة الإسلامية” وخلافاتها المزعومة، وبنفس الوقت قدّمت تضحياتٍ كبيرةً بغرض مكافحة هذا الخطر المعولّم، تفتقر إلى كيانٍ قانوني في الوقت الراهن لمعالجة آثار القنابل الموقوتة التي من الممكن أن تنفجر في أية لحظة بصورةٍ شاملةٍ، علاوة على أنّ الوضع القانوني لشمال وشرقي سوريا لا يشبه مع ما هو سائدٌ في الحالة العراقية التي تملك المحاكم المحلية وتمارس حقها الشرعي في محاكمة مجرمي تنظيم “الدولة الإسلامية”، بما في ذلك العناصر الأجنبية الوافدة من البلدان الخارجية.
في الحقيقة، هذا اللايقين القائم من جهة عدم توفر الكيان القانوني المحلي الرسمي، وتنصّل المجتمع الدولي الغربي في تحمّل مسؤوليته في استقدام مواطنيه الذين انضموا إلى “داعش” استناداً إلى صيغةٍ قانونيةٍ تتناسب وأوضاعه الداخلية، وتلكّؤ دول الاتحاد الأوروبي في عدم إنشاء محكمةٍ دوليةٍ لمحاسبة عناصر الإرهاب، يهدّد على المدى القريب والمتوسط بإحداث ثغراتٍ مؤلمةٍ في استراتيجية الحرب على الإرهاب.
كان واضحاً أنّ وضعية اللايقين القانوني في شمال وشرقي سوريا مؤخراً، أتاحت جرعة معنوية لأبو بكر البغدادي في كلمته الأخيرة بِحثّ عناصره القابعين في السجون السورية على التمرد، حيث يقبع حوالي /12/ ألف “داعشي” في السجون المنتشرة في شمال وشرقي سوريا، كما أنّ هذا المُناخ المضطرب، يشجّع كل من تركيا وإيران والنظام السوري في تحريك الخلايا النائمة وشراء ذمم المجموعات المتخفية بهدف تقويض حرب التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية على الإرهاب. وعلى ضوء ذلك، ليس غريباً أن تخرج أصوات نسوة “داعش” في مخيم الهول ليهتفنَ: “نحن ننتظر الاجتياح التركي بغرض إعادة تنظيم أنفسنا مجدداً على أرض الخلافة المزعومة”.
آثار الحلّ الأمني
وفي مقلبٍ آخر، ثمة التزامات أخلاقية تنفرد بها قوات سوريا الديمقراطية في مبادئها اليومية والعامة، إذ إنّ هذه القوات ملتزمةٌ بصورةٍ كبيرةٍ بعدم انتهاك قوانين الحرب أمام المنظمات الدولية والحقوقية رغم كثافة حملات التشويه اليومية الممارَسة ضدّها، كما أنّ آلية العنف لديها محصورةٌ في تمشيط نقاط مرصودة بدقةٍ بدون إحداث أي ضررٍ يطال المدنيين، وهذه المقاربة الأخلاقية في الغالب تكون بمثابة منفَس إنعاشي تستغله الخلايا النائمة وتلك الجموع الحاشدة في مخيم الهول.
معطوفاً على هذا العامل، ثمّة انتقائية عند المنظمات الحقوقية المسيّسة برصد سلوكيات هذه القوات في أدق تفاصليها من جهة رصد حدوث الانتهاكات الفردية الثانوية في حربها ضدّ الإرهاب، وهي تتهرب في الوقت نفسه من مناشدة المجتمع الدولي والدول الأوروبية للمساهمة الجادة بضرورة حل إشكالية الإرهاب من بوابة القانون والحقوق على غرار ما تطالب به الإدارة الذاتية والمدنية في شمال شرقي وسوريا من المجتمع الدولي.
في الواقع، الحل الأمني بحد ذاته يواجه مشاكل كبيرة من جهة عدم قدرة إدارة شمال وشرقي سوريا لوحدها على تأمين المستلزمات المادية الإسعافية لتغطية احتياجات السجون والمخيمات، لا سيما أن آثار الحرب على الإرهاب في شرقي الفرات ولدّت دماراً هائلاً على مستوى البنية التحتية، الأمر الذي يكبّد الإمكانيات المحلية بتحمل هذه الأعباء الضخمة لوحدها، وخاصة في ظل انعدام المساعدات الدولية من قبل المنظمات العالمية والاتحاد الأوروبي في تحمل مسؤولياتهم المادية إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية.
غياب الاستجابة
اقترحت إدارة شمال وشرقي سوريا العديد من النماذج القانونية لحلّ معضلة المقاتلين الأجانب وعوائلهم أمام الجهات الدولية المعنية، من بينها وجوب تشكيل محكمةٍ دوليةٍ في شمال وشرقي سوريا تكون تحت إشراف الرقابة القانونية الدولية على غرار محاكمة نورنبرغ ضدّ النازية، وفي حال لم يلقَ هذا المقترح ترحيباً من قبل المجتمع الدولي، طالبت الإدارة بوجوب تعامل كل دولةٍ على حدة مع مواطنيها وفق قوانينها المحلية.
وبالتوازي، ناشدت إدارة شمال وشرقي سوريا بضرورة توفير بنية شرعية قانونية متماسكة لهذه المنطقة من أجل معالجة ملف “داعش” من خلال إحداث القوانين المحلية بغرض احتواء هذا الملف الشائك، غير أنّ تنصّل الدول الأوروبية من تحمل مسؤوليتها القانونية في هذا الشأن إلى هذه اللحظة، قد تسبب بأضرارٍ بالغةٍ في استراتيجية الحرب على الإرهاب في شمال وشرقي سوريا، وهذا التردد السائد من قبل الدول الأوروبية قد يقدم مساحاتٍ زمنيةً لإعادة تنشيط تنظيم الإرهاب ذاته بصورة جديدة وبتكتيكات متنوّعة، وتنشط آمال النظام السوري والايراني والتركي في خلق الفوضى المستدامة في المنطقة.
بناءً على هذه المعطيات، يبدو جلياً أنّ الحلول الأمنية المقترحة من قبل الجهات الدولية في مكافحة الإرهاب، تبقى جوفاء فيما لو عجز المجتمع الدولي في توفير البنية القانونية الموازية لمكافحة الإرهاب في شمال وشرقي سوريا، هذا النطاق القانوني والشرعي هو الخط الواصل والرابط بين تعزيز الأمن وتسيّد حالة الاستقرار، بينما تغدو فرضية مكافحة الإرهاب إيديولوجياً، منتوجاً نهائياً على المدى الطويل، كونها محصلةٌ لمسار البنية القانونية والشرعية في الوقت نفسه.