يواصل الطيران الروسي وقوات الأسد قصف ما يُسمى “منطقة خفض التصعيد” في إدلب، من دون أن نحظى برد فعل أو تفسير لصمته من “أبي عمشة”، ما يجعلنا نكتفي بتفسير قديم له، يردّ فيه التصعيد إلى هجمات من جبهة النصرة تخرق التفاهم الروسي-التركي وتستدعي الرد، وتلك الهجمات تحدث بالتنسيق مع الروس. بحسب أبي عمشة، وهو هنا يقتفي أثر تفسير شائع، داعش والنصرة هما سبب بقاء الأسد، وقد سبق له شرح ذلك أمام مقاتليه قبل نحو سنة ونصف السنة من الآن.
محمد جاسم “أبو عمشة” هو قائد اللواء “سليمان شاه”، وقبل أسبوع حضر حفل تخريج دورة لمقاتليه تحت اسم “أشبال أرطغرل”، الحفل الذي جرى في ناحية “شيخ الحديد” التابعة لعفرين. لفك ألغاز التسميات، نشير إلى أن أرطغرل هو والد السلطان عثمان مؤسس الإمبراطورية العثمانية وابن سليمان شاه، أي أن التسميات لم تأتِ اعتباطاً أو بما يخالف تسلسل النسب، وقد نكون مع موعد لاحق لاستخدام اسم السلطان عثمان كما يليق به. اللواء المذكور يُعرف بين الناس وبين بعض مقاتليه باسم “العمشات”، أي يُنسب إلى قائده الذي يناديه مقاتلوه بلقب “المعلم”، وهو لقب راسخ جداً في الذاكرة السورية لاستخدامه من قبل عناصر المخابرات في الإشارة إلى قادتهم، وكذلك استخدامه في بعض القطعات العائدة لقوات الأسد.
السؤال عن رأي أبي عمشة بالقصف على إدلب يخرج عن الهزل، ولو مؤقتاً، لأن المعنيّ يملك قوة عسكرية منظمة، ومن يشاهد العرض العسكري الأخير يخمّن من هندام المقاتلين أنها ممولة بطريقة لائقة، وهذه القوة تنتشر في منطقة جغرافية قريبة من إدلب. إلا أننا في العرض نفسه، الذي يُفترض أنه تزامن مع القصف على إدلب، نسمع أبا عمشة يتوعد “خنازير” الميليشيات الكردية “الانفصاليين” في منطقة شرق الفرات، ورغم وجود العلم التركي إلى جانب علم الثورة في مقدمة العرض سيكون العلم التركي طاغياً بحضوره على السترات العسكرية لجميع المقاتلين.
لواء “سليمان شاه” ليس بالحالة الخاصة المنفردة، فهو يتبع “شكلياً على الأقل” الفرقة 14 التي تتبع الفيلق الأول لما يُعرف باسم الجيش الوطني، وهو تشكيل رعت أنقرة إنشاءه على أنقاض التسمية القديمة “الجيش الحر”. الهدف المعلن من التشكيل الجديد هو توحيد الفصائل والتخلص من فوضى السلاح، أما الهدف الفعلي الذي لم نشهد غيره فكان تشغيل تلك الفصائل في الحرب على الميليشيات الكردية، سواء كما رأينا باجتياح عفرين أو بتنفيذ تهديدات مماثلة تخص مناطق شرق الفرات.
الفصائل المنضوية في التشكيل الجديد، مع حيز واسع من الاستقلالية يحافظ على علاقتها المباشرة بأنقرة، ورثت فقط علم الثورة من الحقبة السابقة، لتضحّي برمزيته كعلم للاستقلال، وتالياً برمزيته كعلم رُفع ضد الأسد. سيُرى البعض من كوادر تلك الفصائل بسياراتهم التي تجوب منطقة عفرين وهي ترفع صور صدام حسين جنباً إلى جنب مع نظيراتها التي تحمل صور أردوغان، والأمر هنا لا يقتصر على النكاية بالأكراد بل يتعداه إلى تجاهل الإرث البعثي المشترك بين الأسدية والصدامية، فضلاً عمّا فيه من إرث تقديس القادة. أبو عمشة، على سبيل المثال، لا يرى حرجاً حتى في استلهام الأسدية المتأخرة، على غرار شعار “سوريا الله حاميها” الذي سوّقه موالو بشار ردّاً على المؤامرة الكونية المزعومة، ليصبح الشعار على حساب “أبي عمشة” في تويتر “تركيا الله حاميها” أيضاً رداً على ما يعتبره حصاراً دولياً لحكم أردوغان.
كان أبو عمشة قائداً لفصيل “لواء خط النار” المنتشر في ريف حماة، قبل انتقاله مع مقاتليه إلى مناطق “درع الفرات” تحت التسمية الجديدة الملائمة لموقعه المستجد. في ريف حماة انتشرت الأقاويل التي تتهم فصيله بالمتاجرة بالمحروقات، أيام كانت مزدهرة بين مناطق سيطرة الأسد وتلك الخارجة عنه. وفي منطقة انتشاره الحالية “شيخ الحديد” اتُّهم شخصياً باغتصاب واحدة من زوجات مقاتليه لثلاث مرات مستغلاً سطوته وتحت تهديد السلاح، ليرد آنذاك برسالة ينفي فيها التهمة من مكان وجوده في “الديار المقدسة” للحج. المهم أن الحادثة انتهت بالتقادم من دون التقاضي أمام محكمة، شأنها شأن كافة الانتهاكات التي بقيت بلا متابعة باستثناء ما حظي منها بمتابعة إعلامية غير ذات تأثير.
الأهم هو الاستثمار العسكري الذي لا تُسلط عليه الأضواء بما يكفي، ففي حالات هذه الفصائل يحصل المقاتل على راتب يتراوح بين 100 و150 دولاراً، ورغم ضآلته يستقطب القادرين على حمل السلاح ممن لا يجدون فرصة أخرى للكسب، بخاصة عندما نتحدث عن مهجّرين من مناطقهم إلى مناطق غير قادرة على إعالتهم، أو مناطق أُفرغت من النشاط الاقتصادي على غرار عفرين بعد الاجتياح التركي. في غالبية الحالات، بما فيها حالة التنظيمات الأكثر تطرفاً، لم تكن للتسميات أهمية بالنسبة لأولئك المقاتلين الصغار بقدر أهمية الدخل الذي سيحصلون عليه، وأيضاً بحكم خضوع منطقة وجودهم لسيطرة تنظيم ما. كنا رأينا شيئاً مشابهاً في مناطق سيطرة الأسد، عندما بدأ الانخراط في ميليشياته طريقاً للكسب السريع وللاستقواء، ثم أدى تفاقم البطالة إلى بقاء جاذبيته رغم ما فيه من مخاطر، ورغم تراجع العائد المادي منه مع تراجع التمويل الإيراني.
لو أخذت الظروف منحى مغايراً لجاز لنا تخيّل أبي عمشة قائداً للواء “القيصر إيفان الرابع”، أو “القيصر بطرس الأكبر” الذي حارب العثمانيين، ولا نخاطر جداً بمثل هذا الافتراض عطفاً على قادة فصائل المصالحات الذين تحولوا مع قسم من مقاتليهم إلى عمّال عند الروسي أو الإيراني. ولا يبزّ الواقع البائس والتخيلات المشابهة له سوى وجود كيان سياسي باسم “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، وهو ما يزال يدعي تمثيل الثورة بينما بالكاد نعثر بين السوريين عمّن يعرف اسم رئيسه، وفي أرشيف الأخير نعثر على العديد من اللقاءات التي يتحدث فيها التركية بطلاقة تفوق إلمامه بالعربية، ويشير إلى تركيا بوصفها بلده، وإلى حكومتها بوصفها حكومته! ثم لا نجد عطفاً على البؤس كله سوى منافسين يرون أنفسهم الأجدر في سوق المخابرات الدولية والإقليمية.
في أثناء عملية تتريك قسم من الفصائل والمعارضة، تُركت إدلب لسيطرة متنامية من جبهة النصرة، بخلاف ما هو متفق عليه بين أنقرة وموسكو لجهة تحجيمها، كأن التواطؤ كان ينص أصلاً على إبقائها تحت الخطر بذريعة الحرب على الإرهاب. لن يكترث المجتمع الدولي بمصير المدنيين فيها ما دامت الحدود التركية مغلقة في الاتجاهين، في اتجاه سوريا وفي اتجاه أوروبا، وبالطبع لن يكترث بمصيرهم أحفادُ سليمان شاه وأرطغرل الأصليون أو الطارئون.
الكاتب: عمر قدور