تسير الأمور في الشرق الأوسط على أرضية زلقة. فالسيناتور غراهام كان يبدو حتى الأمس من أشد المتحمسين في واشنطن للدفاع عن الأكراد، غير لهجته بشكل واضح بعد زيارته أنقرة. وإن لم يكن تخلى تماماً عن الأكراد فقد بدا أقرب إلى موقف أنقرة.
وبينما تعلن أمريكا انسحابها تنشر أنباء الأناضول، وفجأة، صوراً لدوريات مشتركة بين الأكراد والروس في منبج. واضحٌ أنّها عملية استخباراتية.
سيناقش أردوغان وبوتين المسألة السورية، ويبدو أنّه سيأخذ ما يريده بالنظر إلى أنّ الزعيمين حميمين. وربما منع إتفاق الأكراد مع الأسد هو أحد أولويات أنقرة؛ فبدون مثل هذا الإتفاق يمكنها قصف المناطق التي تريدها خاصة في منبج، وإن لم يكن على طول الحدود.
لكن الأتراك وتركيا مشهورة بالبقاء في المناطق التي تدخلها. وعندئذٍ ينضم إلى تركيا فعلياً جزء مهم من الأراضي السورية وهذا يعني تحقيق أردوغان جزءًا مهما من حلم “الميثاق الوطني” الذي عجز عنه أتاتورك.
هل يغامر الأسد بخسارة شمال سوريا بعد الجولان؟ أَيَثِق الروسُ بتركيا على المدى الطويل ويقبلون مثل هذه الخطة؟ هل لدى الأسد فرصة لمعارضة الروس في المشهد الراهن؟
نظراً لأن سوريا لم تنس أنطاكيا (هطاي) بعدُ، وترى الجولان عاملًا مؤثراً ورئيسياً في سياستها الخارجية بما في ذلك العلاقات مع إسرائيل وأميركا يبدو خيالًا ، القول إنّها ستتخلى عن شمال البلاد؛ سيما أنّه صومعة سوريا وخزان وقودها.
المناخ السياسي في دمشق منذ بداية التمرد لا يبدو مستعداً للتخلي عن الأرض. المناطق التي استردها الجيش السوري منذ 2015 كانت مفقودة لمدة، ولروسيا وإيران نصيب كبير في هذا ألبته. ومع ذلك أعتقد أنّ سوريا لم تُحلل جيداً.
روسيا، وإن غيرت موقفها لصالح تركيا -وأراه مجرد تكتيك ومرونة مؤقتة-لن تتخلى عن سياستها في إعادة وحدة أراضي السورية، وموقفها من وحدة الأراضي السورية ليس سطحياً ولا تكتيكيًا.
روسيا لا تتصرف أبداً رغماً عن دمشق بشأن الأراضي السورية، فلم تأت لتثبيت نظام دمية، بل ساعدت حليفها القادر على المقاومة والتنظيم والرد، ولكنه في ضيق. شكل العلاقة بينهما من قبيل “بوتين يقول والأسد يفعل”.
تنازلات روسيا لتركيا تستهدف ترسيخ وحدة الأراضي السورية مجدداً. وبرغم جميع الشراكات الاستراتيجية فعلاقة الثقة بين تركيا وروسيا ليست مستقرة؛ فبوتين يعلم جيدا أنّ أردوغان سيتحول لأميركا بمجرد توفر الفرصة.
يدرك الروس كذلك أنّ أميركا بينما تنسحب من الملعب ترغب في ترك حمايته لتركيا. وهذا عكس خطة اللعب الروسية. لذلك لا يكتفون بالفرجة على قيام معادلة استراتيجية خارج نطاق السيطرة شمال سوريا تضم تركيا.
لأنّ مثل هذا المشهد سيتحقق بموافقة أميركية صريحة فماذا يكون رد موسكو على التقارب الأميركي-التركي؟
موسكو تتابع ذلك التقارب عن كثب. وعدم تحديد الكرملين موعداً لأردوغان دون أن ترى بوضوح مسار الشراكة التركية-الأميركية بشأن المنطقة العازلة المقترحة شرق الفرات يكشف طبيعة عمل العقل الاستراتيجي الروسي. إنّهم يتجنبون رد الفعل وخلق مناخ يُخضع تركيا لأميركا.
أعتقد أنّ روسيا ستواصل في هذه المرحلة نهجها التكتيكي الذي حوَّل مشاعر الاستنكار إلى شراكة اضطرارية منذ إسقاط طائرتها وقتل سفيرها لدى أنقرة.
أبعدت روسيا أنقرة عن المسار الأميركي باستراتيجية توفر لتركيا مجالات مناورة معينة، ولكنها تظل مسيطرة على نقاط المرور. استراتيجيتها في موضوع صعب جداً الأكراد محوره قد تستمر بأسلوب يظهر المرونة ولكنه يحافظ على الردع ويذكر بالمستحيل.
هل تعتقد أن الأكراد بقوتهم التي على الساحة قوة مؤثرة، حاسمة في الأحداث الراهنة؟
نعم، فهذا أقل بُعدٍ تناولًا في المعادلة السورية. الديناميات المحلية قد توجه المنافسة بين الكبار. لو لم يكشف الأكراد مثل هذه القدرة لما استطاعوا أن يكونوا تماما في قلب مثل هذا التوازن المرعب الذي أطرافه سوريا، وروسيا وإيران، وأميركا والتخالف الدولي، وأمامها تركيا.
لم ينزل الجنود الأميركيون الميدان في سوريا بسبب الجيش السوري الحر، ولكن أقاموا قواعد تقديراً للشراكة مع قوات حماية الشعب الكردية؛ فالأكراد قوة منظمة ومعبأة حاليا. وهذا لا يمكن أن يتجاهله أي فاعل خلف اللعبة في الساحة السورية.
واضح استحالة حل كل شيء بالحديث مع الأميركيين أو الروس. وإقامة طاولات للتفاوض في دمشق، وقاعدة حميم الجوية وموسكو والقاهرة ليس عبثا. والأكراد يسعون ليكونوا العنصر الفيصل في هذا التوازن العجيب مستخدمين إمكانياتهم وخياراتهم.
واضح أنّ الأكراد سيقاومون بشكل مختلف عن عفرين حال تدخل تركيا مناطق شرق الفرات. فهل هناك خطر انتشار الحرب التركية-الكردية في سوريا؟
الساحة مرتبكة وليست آمنة على الإطلاق. ولإدراك أنقرة ذلك الخطر تجرب حظها التدخل “الآمن” و”المضمون”. و”طريقٌ بدون ألغام” مرهون وجوده بالنسبة لتركيا برضا روسيا، وضمانات أميركية.
عزم تركيا “التدخل والتصرف بمفردها كما تشاء” يضطرها للتهيؤ لسيناريوهات تشارك فيها أطراف عرقية متعددة، بل وبعض القوات بالوكالة، ليست أطراف كردية-تركية فحسب.
الهجوم الانتحاري ضد القوات الأميركية في منبج مؤشر بسيط على المفاجآت الميدانية المحتملة. وهناك تضارب بشأن هذا الحدث حالياً. لا توجد توقعات حول مستقبل المطامع التركية التي توسع عملياتها العسكرية بسوريا.
هذا يجعل تركيا المشكلة الحقيقية في المنطقة. هناك تراخٍ مخيف بالنسبة لمستقبل البلاد.
كيف يمكن لهذا الصراع أن يؤثر على مسار الحرب الأهلية في سوريا، وعلى الجماعات الإسلامية الأصولية، خاصةً داعش؟
داعش وأمثالها بيئة صراع، واضطراب وفراغ السلطة. تعتبر تركيا نفسها قوة استقرار. هذا رد فعل مشترك لجميع القوى التدخلية. والاستقرار الذي خلقته مؤقت وضعيف. يظنون أنّهم أقاموا السلام بتغير اسم الشارع الرئيسي في عفرين إلى “غصن الزيتون”.
إلى أي مدى يمكنهم الحفاظ على هذا المشهد؟
تركيا تتصرف هناك إدارياً وليس عسكرياً فحسب، وتضع نظاما. وحين يُقال لها غداً “انسحبي” ستظهر فوضى عظيمة تحت ذلك الاستقرار الظاهري.
لا يمكن مواصلة الوضع العسكري في مناطق تنفيذ عمليات “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، وتحتوي على ضمانات الوضع المستقبلي في شرق الفرات المجهولة عاقبته.
إرغون باباهان
صحافي تركي، درس في كلية القانون بجامعة اسطنبول بين عامي 1977 و1981. ثم أكمل التدريب المطلوب لمزاولة مهنة المحاماة في إزمير، قبل أن يعمل لفترة وجيزة في مجال القانون.