سوريا بعد الأسد: هل ضاعت فرصة بناء دولة السوريين؟

في اليوم التالي لمغادرة بشار الأسد سوريا بعد عقود من حكم عائلته، دخلت البلاد مرحلة جديدة من تاريخها بوصول الجهادي “أبو محمد الجولاني” ، زعيم تنظيم “هيئة تحرير الشام” /فرع تنظيم القاعدة في سوريا سابقا، إلى دمشق وتوجهه إلى قصر الشعب ليعلن نفسه رئيساً مؤقتاً لقيادة المرحلة الانتقالية. كانت الآمال كبيرة في أن تشهد البلاد تحولاً حقيقياً نحو الحرية بعد سنوات طويلة من الاستبداد والفساد والنظام الشمولي، رغم الشكوك التي أحاطت بانتماء وهوية وخلفية الجولاني الجهادية. إلا أن كثيرين من السوريين والقوى الثورية رأوا في التغيير فرصة نادرة لبناء مستقبل أفضل.

على المستوى الداخلي، عبّرت مختلف المجتمعات والقوى السورية عن استعدادها للتعامل بإيجابية مع القيادة الجديدة. أما على الصعيد الدولي، فقد رحبت معظم الدول العربية والأوروبية بالتطور الحاصل، وأبدت استعدادها لدعم جهود إعادة الإعمار وبناء مؤسسات الدولة. كما أعلنت الولايات المتحدة، بوساطة سعودية، عن رفع العقوبات عن سوريا، بينما أرسلت فرنسا دعوة رسمية للجولاني لزيارة باريس في خطوة رمزية تعكس الانفتاح الحذر تجاه المرحلة الانتقالية.

بدا المشهد في تلك الأيام وكأن سوريا موحدة وعلى أبواب عهد جديد: دعم شعبي واسع، ترحيب دولي، وإجماع على ضرورة بناء دولة القانون والعدالة والمواطنة. كانت الفرصة متاحة أمام القيادة المؤقتة لتوحيد البلاد وفتح صفحة جديدة من التنمية والمصالحة الوطنية.

لكن سرعان ما بدأت النوايا تظهر، إذ ان القيادة الجديدة تنصلت وتهربت من تحويل الوعود إلى واقع. بدلاً من تعزيز مؤسسات الدولة والبدء بإصلاحات حقيقية، تبنت خطاب طائفي حيث تزايدت الانقسامات الداخلية، وظهرت ممارسات سلطوية جديدة أعادت إلى الأذهان ملامح النظام السابق. الإعلام الرسمي عاد إلى الخطاب التعبوي، والقرارات السياسية اتسمت بالمركزية المفرطة، فيما تصاعدت التوترات في بعض المناطق غزاها الخطاب الطائفي والانفلات الأمني.

على الصعيد الاقتصادي، لم يتحقق التغيير الموعود. تعثر مشروع إعادة الإعمار، وتراجع الدعم الدولي بعد أن فقدت الحكومة المؤقتة مصداقيتها. فشل جذب الاستثمارات، وازدادت معدلات البطالة والفقر، ما أعاد البلاد إلى حالة من الانكماش والانقسام.

بدلاً من التوجه نحو الناس والسوريين وتبني خطاب جامع والدفع نحو المصالحة وتفعيل المحاكم والقانون والعدالة الانتقالية، تبنت الدولة خطاباً انتقامياً سمح بانفلات جماعات مسلحة لتنفيذ أعمال عنف وانتهاكات ضد مدنيين، وتزايدت مظاهر الاحتفال بالعقاب الجماعي في بعض المنابر. ترافق ذلك مع تصعيد إعلامي طائفي بثته منصات موالية، ما غذّى مشاعر الكراهية وزاد من تآكل النسيج الاجتماعي.

عمِدت القيادة الجديدة أيضاً إلى عدد من الخدع الرمزية والسياسية التي أضرت بمصداقيتها: حوار وطني شكلي بدا مسرحياً، انتخابات مجلس الشعب كانت مهزلة، إعلان دستوري استُقبل بنكات استهزاء لدى الجمهور، وتشكيل حكومة أحادية اللون بمسؤولين يفتقرون لصلاحيات فعلية أنهم مُكلفون فقط بتنفيذ الأوامر المركزية. هذه الخطوات أظهرت فشل القيادة المؤقتة في تحويل اللحظة التاريخية إلى برنامج حقيقي لإصلاح الدولة مقابل اجتهادهم لترسيخ سلطتهم وربط كل شيء ب الرئيس.

النتيجة كانت كارثية على الصعيد السياسي والرمزي: فقدت القيادة المؤقتة كثيراً من شرعيتها داخلياً وخارجياً. الجولاني اليوم بات معزولاً سياسياً؛ ينظر إلى الصفقات والدعم الخارجي كأدوات نجاة بينما فقدت ثقة شرائح واسعة من المجتمع السوري — العلويين والدروز والأكراد والسنة المعتدلين والفقراء وغيرهم. صار يُنظر إلى حكمه على أنه خدمة لمصلحة فئة محدودة من الأغنياء وأصحاب المصالح والمتشددين الأجانب الذي يسعى لتجنسيهم لكونهم درعه الذي يحمي نظامه بهم في مواجهة السوريين.

بدا واضحاً أن الجولاني لا يستطيع، وربما لا يريد، بناء دولة مواطنة تضمن مصالح الجميع وسلامهم وازدهار مجتمعاتهم. المسؤولون الغربيون الذين زاروا دمشق استمعوا إلى وعود طيبة من قيادته، وردّدوا عبارات تشجيع حذرة من قبيل “ابدأ بالتنفيذ وسنلتقي في منتصف الطريق”، لكن بعد مرور تسعة أشهر على بداية المرحلة الانتقالية، كانت القيادة المؤقتة قد خطت إلى الخلف بدلاً من التقدم. الفجوة بين الأقوال والأفعال جعلت الدعم الدولي يتبدد جزئياً، وأضعفت آمال السوريين في تحول حقيقي يعيد بناء الدولة على قواعد العدالة والمشاركة.

التداعيات الممتدة اليوم تضع البلاد أمام مفترق طرق حاسم: إما مراجعة جذرية لمسار القيادة المؤقتة نحو شراكة وطنية حقيقية مبنية على حكم القانون والمساءلة واللامركزية، أو استمرار الانحدار نحو مزيد من الانقسام وفقدان الدولة كوحدة قادرة على حماية مواطنيها. الحلول المقترحة تظل كما كانت: إطلاق مصالحة شاملة، تطبيق آليات عدالة انتقالية شفافة، إصلاح القطاع الأمني، اعتماد لامركزية فعلية، وإشراف دولي على قيادة عملية الانتقال.